18 ديسمبر، 2024 2:57 م

المحاور الاستراتيجية التي يفكر بها العرب

المحاور الاستراتيجية التي يفكر بها العرب

سوف ندخل ( فكرة العدو) من خلال النظر الى مجموعة نزاعات دولية حول الارض، ومقارنتها بقضية فلسطين. سوف نقوم بعمل فنطازي ( نعكس الصورة الحالية): نفترض ان الشعوب (المغلوبة) في القضايا الست التي سنطرحها غيرت رأيها، واعتمدت النموذج الجماهيري العربي المعمول به في ازمة الشرق الاوسط ( قضية فلسطين) القائم على ديمومة العنف ( فكرة العدو)، ورفض السلام والتطبيع. ونتساءل: ماذا يحدث لو ان تلك الشعوب قامت بتقليدنا نحن العرب؟ لابد ان نؤكد اولا ان فلسطين هي في النهاية قطعة ارض مساحتها ٢٦ الف كم مربع. فاذا اضفنا ان ( فلسطين عربية)، فسوف تكون هذه ال ( ٢٦ الف) هي جزء من وطن اكبر مساحته ١٣ مليون كم مربع. اي ان فلسطين تمثل (١) من ٥٠٠ جزء من الوطن الام. هذه المعلومة مهمة للمقارنة التي نجريها هنا. فيما يلي جرد سريع لستة نزاعات دولية على الارض.

1- جزر الكوريل: متنازع عليها بين روسيا واليابان. وهي مؤلفة من ٥٠ جزيرة بمساحة كلية ١٦ كم مربع( اكثر من نصف مساحة فلسطين)، غنية بالثروات الطبيعية. منذ ١٨٧٥ بدأت السيطرة اليابانية. في عام ١٩٤٥ احتلها الروس، ولازالت بايديهم.

2- جبل طارق: شبه جزيرة في ذيل اسبانيا. مساحتها ٦ كم مربع. نفوسها ٣٣ الف. تحت السيطرة البريطانية.

3- غدانسك، مقاطعة المانية تم ضمها الى بولندا بعد الحرب العالمية الثانية. مساحتها ٢٠٠٠ كم مربع، ونفوسها نصف مليون نسمة.

4- جزر الفوكلاند: المساحة ١٢ الف كم مربع( نصف فلسطين تقريبا). نفوسها : ٣٠٠٠ نسمة. متنازع عليها بين بريطانيا والارجنتين. حاليا تحت السيطرة البريطانية.

5- آلاسكا: ارض روسية باعها القيصر الى امريكا بمبلغ ٧ مليون دولار عام 1867 . مساحتها مليون ونصف كم مربع (57 مرة اكبر من فلسطين). ونفوسها ٨٠٠ الف نسمة. ومساهمتها في الدخل القومي ٥٥ مليار دولار.

6- تكساس: ارض مساحتها( ٧٠٠ ) الف كم مربع( 27 مرة اكبر من فلسطين)، اي بحجم فرنسا. بعد حرب بين امريكا والمكسيك دامت سنتين (١٨٤٦- ١٨٤٨ ) انضمت تكساس الى الولايات المتحدة الامريكية.

والآن سنطرح سؤالنا المحوري:

ماذا لو تحولت هذه الاراضي الى ( قضايا مصيرية) للامم التي فقدت سيطرتها عليها؟

بعبارة ادق: ماذا لو تحولت كل منها الى (قضية) بنفس مواصفات قضية الشرق الاوسط؟

لقد تحولت فلسطين من نزاع على ارض الى صراع وجود، ومعركة الهوية والكرامة، وامتدت لتكون قلب العروبة، والارض المغتصبة، والسليبة، والنكسة، والنكبة، واولى القبلتين وثالث الحرمين، والحق المضاع، والقضية المركزية، ومعركة المصير، التي تشكلت عليها احزاب ومنظمات مسلحة، ودول واحلاف وقوات ردع، ومحاور وتشكيلات عسكرية، ومقررات مدرسية وشعراء ومفكرين وصحف وفضائيات ومراكز دراسات. واستنزفت ميزانيات دول وفصائل مسلحة ومجهود حربي، ويوم الارض ومظاهرات مليونية ومراكز للتطوع، وثلاث حروب، ومليارات صرفت للمفاعلات النووية، ومنظمات مقاومة، وعمليات ارهابية مخزية، ارواح بريئة وبيوت هدمت وشباب انتحروا بالمئات، وتدمير لبلدان، واستنزاف لمصر وسوريا والعراق وايران وتدمير لبنان. وقوات للردع وجبهات للصمود والتصدي واغتيالات لمسؤولين من الطرفين. اموال وارواح طائلة وزمن مهدور.

ماذا لو استنسخت الامم ( المغلوبة) النموذج العربي في ( استرداد الحق المضاع)، ( وما اخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة) و ( لاصوت يعلو فوق صوت المعركة)، و ( الى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية) ، ( اصبح عندي الآن بندقية، الى فلسطين خذوني معكم) ؟

في مقابل النموذج العربي تقدم لنا الامة اليابانية نموذجا فريدا: لقد ضربت بقنبلتين ذريتين، لكنها لم تحول امريكا الى عدو، بل شريك اقتصادي، بحجم تبادل تجاري مقداره ٢٠٠ مليار دولار، حصة اليابان فيه ١٣٥ مليار دولار. عدا ذلك فان امريكا ظهير لليابان في حماية نظامها الاقتصادي الحر ضد تدخل العملاقين الشيوعيين ( الصين والاتحاد السوفييتي). لم تتحول هيروشيما وناغازاكي الى (قضية مركزية) للشعب الياباني، بل كانت سببا غير مباشر لنهظة اقتصادية جعلت من اليابان لعقود ثاني اقتصاد في العالم. الشيء نفسه يقال عن جزر الكوريل (نصف مساحة فلسطين)، فهي بيد الروس منذ ١٩٤٥، لكنها لم تتحول الى قضية مركزية لليابانيين، وسببا للمقاطعة او العداء للروس. وهناك مثال رائع لتجنب فكرة العدو، تجسده الامة الاسبانية، هو جبل طارق، الذي تحتله بريطانيا، مع انه جزء من ايبيريا. ماذا يحدث لو فكرت اسبانيا بمحاكاة النموذج العربي، وجعلت من جبل طارق قضيتها المركزية؟ ماذا ستربح اسبانيا من استعادة صخرة لاتزيد مساحتها عن ٧ كم مربع،تمثل واحد من 72 الف جزء من اسبانيا، (مساحة اسبانيا ٥٠٧ الف كم مربع )؟ ماهو مصير ال ١٨ مليون سائح بريطاني الذين يزورون اسبانيا سنويا؟ من يملأ الفنادق والشقق والفلل والسواحل والكازينوهات والمطاعم والاسواق والمسارح والحمامات ووووووووووووو ؟ لو قطعت اسبانيا علاقتها ببريطانيا، فماهو مصير حجم التبادل التجاري بين البلدين ٣٤ مليار دولار؟ ماهو مصير صادرات اسبانيا الى بريطانيا البالغة ١٩ مليار دولار، وماهو مصير صادرات بريطانيا الى اسبانيا البالغة ١٥ مليار دولار؟ اية عداوة يمكن ان تبقى امام حجم هذا التلاقي البشري والمحبة التي يكنها الانجليز لاسبانيا. لقد تجاوز الانجليز والاسبان حقبة من الصراع العسكري الدامي امتد لثلاثة قرون في كل من اوربا والامريكيتي. التاريخ مليء بمعارك طاحنة في كل شبر في القارات الثلاث، لكن كل هذا قد انتهى وطويت صفحته تماما. هل يمكن لصخرة في عرض البحر ان تحطم هذا التلاقي البشري الحار ؟! ثلث الشعب البريطاني يزور اسبانيا سنويا. والآن نكرر الساؤل وبالحاح: ماذا لو فكر الاسبان مثلنا ( نحن العرب)؟ ماذا يحدث لو خرج زعيم اسباني ( مثل عبد الناصر) واعلن ان جبل طارق هو رمز الكرامة الاسبانية، وانه قلب اسبانيا النابض ( حتى لو كان ذيلا للجزيرة الايبيرية)، وهو القضية المركزية لاسبانيا، و ( كلنا فداء لجبل طارق) و(لاصوت يعلو فوق قمة جبل طارق)، وكذلك فعل مشجعو ريال مدريد وبرشلونة وصرخوا قبل بدا المباراة (بالروح بالدم نفديك يا جبل طارق) وذهب ريع المباراة لدعم المجهود الحربي لاسترداد الجبل السليب. السيناريو يتسع لكل شيء. سوف يحرق احد القوميين الاسبان العلم البريطاني في وسط مدريد، وسيوعز القائد الوطني الاسباني ورمز الامة بخروج المدارس في مظاهرات. وسيلتهب كل التراب الاسباني على جبل طارق، وسيعلوا الهياج الجماهيري طالبا عودة الفرع الى الاصل، او الاصبع المبتور ، ولم شمل الجسد الاسباني، وستخرج مفرات: النكبة والنكسة وغسل العار، و(سيعتق التاريخ الاسباني من الذل). سوف يجد الشعراء الاسبان في ادبياتنا كعرب كنزا، وستتلاقف الاقلام لترجمتها ومحاكاتها، وستخرج معلقات اسبانية وشعراء مقاومون، وسيمتد الهياج ليمسح اليسار واليمين الاسباني. ستصبح صخرة جبل طارق هي المعيار لوطنية الاسباني. وسيطلب اليسار الاسباني مقاطعة البضائع البريطانية. هكذا تتحرك فكرة العدو بسلاسة ودون اي جهد لتحتل جسد الثقافة. سوف تلغى المباراة النهائية لدوري ابطال اوربا بين مانجستر يونايتد وريال مدريد. وستمتليء مدرجات الملعب بالمتطوعين للعمل الفدائي، لاستعادة صخرة الكرامة وعز الامة الاسبانية ورمز شموخها ووووووووووووو. سوف تستنسخ كل الشعارات والاناشيد والقصائد العربية .

السيناريو يتسع لمفردات كثيرة. في مدريد سيتوقف عرض اوبرا كارمن، وسوف تتصاعد من مدرجات الملعب الرئيسي صوت التينور بلاسيدو دومنيغو وهو يردد لحن سيد مكاوي ( الارض بتتكلم عربي ) بنسخته الاسبانية ( جبل طارق يتكلم الاسبانية)، وسيرافقه خوليو اغلاسياس. وسينظم الى الجوقة كل المغنين و الشعراء والكتاب الناطقين بالاسبانية: لوركا و روفائيل البيرتي وساراماغو و اوكتافيو باث وغابرييل غارسيا ماركيز وايزابيل الليندي وماريو فرغاس اليوسا وخوليو كورتاثار وبورخيس وخوان رولفو . و سيلقي بابلو نيرودا قصيدته الاخيرة ( جبل \ارق الاشم )، وسيرسم بيكاسو جدارية مدريد بعنوان ( صخرة اسبانيا).

في موسكو سوف يتوقف عرض (بحيرة البجع) وسوف يؤلف جايكوفسكي اوبرا بعنوان ( آلاسكا) يظهر فيها القيصر وهو يسلم آلاسكا ليقبض ٧ مليون دولار امريكي. وسيقوم مسرح البولشوي بعرضها يوميا ودعوة البعثات الدبلوماسية وطلبة المدارس وضباط الجيش الروسي. وسيختتم العرض باغنية ( الاسكا بتتكلم روسي ). وفي مكسيكو ستكون هناك نسخة بصوت سانتانا ( تكساس بتتكلم ازتيكي) وسيحدث الشيء نفسه في الارجنتين والمانيا واليابان.

لقد ترك اليابانيون روسيا تسيطر على جزر الكوريل وتفرغوا ا لتشييد ميسيوبيشي وسانيو وتويوتا وهيتاشي وشارب وناشنال ونيسان وهوندا وسوزوكي وسوني ومازدا. وفيما تراجعت روسيا الى الوراء اقتصايا تقدمت اليابان خلال بضعة عقود لتحتل المرتبة الثانية كاقتصاد عالمي واعتبرت معجزة اقتصادية . والان ماذا لو حدث العكس؟ ماذا يحدث لو جعلت اليابان من جزر الكوريل قضية مركزية لها؟ السؤال نفسه ينطبق على المانيا.

ماذا لو امتدت امريكا الى الاسفل بسحرها الحضاري. انا شخصيا لا ارى اية ضرورة لوجود دولة اسمها المكسيك بنفوسها البالغة 128 مليون نسمة، ودخل قومي مقداره ( 1 ترليون و 76 مليار دولار ، اي اقل من دخل ولاية تكساس البالغ واحد ترليون و 800 مليار دولار ، بينما يسكنها 26 مليون نسمة فقط ، منهم 4 مليون مهاجر مكسيكي. هذا الركام من البدائية والفقر يحلم كل فرد فيه الى عبور جدار مكهرب للدخول الى امريكا. ماذا كان سيحصل لو ان تكساس جزءا من المكسيك؟ ولاية يجوبها شعب بدائي بقبعة عريضة من القش، ومجموعة بغال تجوب الاودية الخاوية، وفي العاصمة خزينة خاوية مع مديونية شبه ابدية تتجاوز ال 600 مليار، تحتاج الى تغذية تصل الى ثلث الدخل القومي. هذه الارقام يمكن ان تخنق صوت سانتانا لو فكر باغنية تحرض المكسيكيين لشن حرب عصابات لاستعادة تكساس.

هذا السيناريو المرعب ينبع من مكان واحد نسميه ( فكرة العدو)، وهو النهج الذي يمثل الثقافة العربية منذ 14 قرنا. نحن لا نرقى في ثقافتنا حتى الى مستوى الشعوب البدائية ( مثل شعب الازتيك). كل هذه الهدر المروع الذي نعاني منه ( هدر الوقت والمال والارواح) ينبع من مركز واحد هو تضخم فكرة العدو التي تجسدها العبارة ( لاصوت يعلو فوق صوت المعركة). هذه هي الحكمة الابدية والامتداد الطبيعي لثقافة الانحطاط الروحي والرعونة المبجلة وتمجيد السيوف: ثقافة الحسام اليماني التي يطلب من تلاميذ المدارس حفظها عن ظهر قلب. ثقافة الاربعين اسما للسيف ومثلها للاسد.

في البدء لابد ان نؤكد ان النزاع الدائم بين طرفين هو دالة للانحطاط ( غياب الحضارة) عند احد الاطراف او كليهما. اما ربط النزاع ب (الحقوق) فهو تفسير لايصمد امام الوقائع، ذلك ان فكرة ( الحقوق التاريخية) نفسها هي شيء غامض، ويصعب الامساك به في كل مراحل التاريخ.. التحضر هو الذي يوقف النزاعات وليس فكرة الحقوق التاريخية. فيما يلي سنقدم ستة قضايا حسمت حضاريا:

ولو استبدلنا ( غياب الحضارة) ب ( فكرة العدو) فسوف تكون اكثر وضوحا في ورقتنا هذه التي تهدف اخيرا الى موضوع السلام في الشرق الاوسط. (هناك على الدوام عدو يتربص بنا). هذه هي العبارة (المظلة) التي تغطي (فكرة العدو)، وهي اهم الذرائع التي يطرحها العقل الجمعي العربي لتفسير حالة التخلف. في نفس الوقت هي الجزء الدافيء والحميم في جسد الثقافة العربية، حيث تنتج المضادات الحيوية اللازمة لتخفيف حدة الشعور بالدونية. فكرة العدو تشبه الى حد ما ( فكرة الحظ ) التي يتذرع بها الكسالى لتبرير فشلهم في الحياة. من المرجح ان يكون الدين هو المسؤول عن زرع هذه الفكرة في نفوس العرب المسلمين، بعد نجاحه في زرع (فكرة الخطيئة). يمكن تسمية ( اليهود والنصارى) كعدو مفترض للعرب المسلمين، ويمكن ايضا وضع بداية تاريخية لهذا الشعور مع ظهور الدعوة المحمدية قبل ١٤ قرنا، ورفض اليهود والنصارى الدخول في الدين الجديد او الاعتراف بنبوة محمد، وما ترتب على ذلك من حوادث تنكيل وقتل ونهب وسبي وتهجير لهاتين الملتين، وصولا الى وضع الاعلان الصريح بانهم ( اعداء الاسلام)، وجعل ذلك بند في دستور المسلمين ( القرآن). هذا الجذر الديني هو المسؤول برأينا عن رفض الحضارة الغربية المعاصرة، فهو متغلغل في خطاب ( العلمانيين) ولكن بتسميات اخرى، وقد اشرنا الى ذلك في اكثر من مناسبة. الملفت للنظر ان المدارس والجامعات طوال قرن كامل لم تفعل شيئا يذكر لزحزحة هذه الفكرة من مكانها. المتعلمون لم يعترضوا عليها، بل فعلوا العكس، اذ قاموا بتدعيمها ومنحها بعدا (معرفيا). المتعلمون كانوا ضد الغرب رغم انهم نتاج العلوم والمناهج الغربية. وبدل ان يكونوا هم قادة المجتمع، فقد اصبحوا تابعين للقوتين المحليتين ( الدين والعشيرة) وافرازاتها السياسية: الاسلاميون و القوميون والشيوعيون، او اختصارا ( الاسقوش). من الناحية العملية فان فئة المتعلمين واصحاب الشهادات العليا في العالم العربي هي اكثر الفئات دفاعا عن التخلف. لقد اصبحوا وبالا على تلك المجتمعات، ومن المحتمل ان يكون المجتمع اسهل انقيادا وتوجها نحو الحضارة لولا وجود هؤلاء المتعلمين. هذه المفارقة تتطلب منا بحثا معمقا لاستيعابها والتدليل عليها. لقد انتج التعليم نمطا مشوها لايؤمن بعملية السلام، بل يتفنن في وضع العراقيل، وتسفيه مبادرات السلام ورجالها، مذكرا الجماهير دوما بفكرة العدو كمبدأ اخلاقي صارم، معرقلا لعملية الانضمام الى العالم. المتعلم العربي هو الوسيط السيء بين المتحضر والمتخلف. بل هو اكثر ضررا من المتخلف ( الامي) نفسه. وظيفة (المتعلم العربي) هي ابتكار العراقيل لمنع الاتصال الحضاري. فكرة العدو مع كونها نوع من الجهل الضار، لكن بسبب المتعلمين اصبح لها ركائز على الارض: دول ومنظمات وميليشيات واحزاب وصحف ودور نشر ومناسبات ومصارف وشركات واندية ثقافية واجتماعية. هي الخطاب الثقافي والقضية المركزية والشعور الجمعي. ولو واصلنا البحث فقد نرسم خارطة اكثر وضوحا للتخلف نفسه. (فكرة العدو) تحتل مكانة مرموقة في العقل العربي، وتجعله فريسة سهلة لمعظم نظريات المؤامرة، عدا جوانبها السلبية الاخرى مثل الاحتقان والتردد والحذر والرقابة وضعف الاتصال بالعالم الخارجي. من جهة اخرى فهي تمثل افضل المسكنات امام الهوة الكبيرة التي تفصلنا عن العالم المتحضر. لكي يتخلص الفاشل من الشعور بالدونية لابد من اختراع عدو دائم، لايجوز التصالح معه. هناك منتفعون من هذه الديمومة طبعا: العاطلون عن العمل، واصحاب الدكاكين السياسية والمغامرون، لكن هؤلاء لايمثلون الدافع الاكبر لديمومة ( فكرة العدو). هذه الفكرة هي جزء من الجدار العازل لصد الحضارة. المتعلمون في العالم العربي يقومون طوعيا ( بدون منفعة) برفض الحضارة والسلام. هذه الفكرة تشكلت منذ التماس الاول بالحضارة الغربية ( بريطانيا وفرنسا). بدأ التشويه الفوري للحضارة الغربية طبعا: احتلال، استعمار وصهيونية ، هيمنة ، نهب، غزو ثقافي، صليبيون ، اعداء الدين، الخطر على الهوية، انحلال، اعداء الشعوب، رأسمالية و امبريالية، صهيونية، ماسونية، شركات احتكارية، استكبار عالمي، بلاد الكفر، شيطان اكبر، ، وووو . تشويه على كل الاصعدة لخلق قكرة العدو الذي يتوجب محاربته واقتلاعه. ولا توجد مؤشرات قوية للنظر اليها كأزمة. هناك سلاسة في خلق الاعداء مقابل صعوبة بالغة في الاتجاه المعاكس، اي تحويل العدو الى صديق. العدو لا يتحول الى صديق في معظم الصراعات العربية مع الآخرين. الزمن وانقراض الاجيال هو الكفيل بتخفيف العدو او نسيانه، وليس الارادة او الغفران.. مثال ذلك معاهدة السلام بين مصر واسرائيل، التي مضى عليها اكثر من نصف قرن دون ان تتحول الى علاقة صداقة. حتى على المستوى الفردي تترك العداوة للزمن كعامل حاسم. العقل العربي لم يصل الى مستوى النظر الى هذه الفكرة كأزمة في التفكير، رغم الاثار الكارثية المترتبة عليها: هناك على الدوام عدو يتربص بنا.من النادر ان يتحول العدو الى صديق. واذا ما وقعت العداوة او النزاع تصبح مهمة الثقافة تعميقه واعطائه شكلا وجسدا وروحا وتوجيه الخطاب برمته نحوه. الطائفية مثلا لاقيمة لها من الناحية المعرفية حيث لاتوجد بين السنة والشيعة فروقات تساوي حجم العداوة التي تفصل بينهما. اغلب النزاع المذهبي يدور حول قصص حدثت قبل ١٤ قرنا. الطائفية هي ميدان فسيح لممارسة فكرة العدو الذي يتوجب التصدي له، وتعبئة الجماهير ضده، . المتدين يعطي للعدو بعدا سماويا وخارج هذا العصر حين يجعل منه (عدو الله وملائكته ورسله). الطائفي يمارس نفس الآلية. الشيعي يسمي السني ( عدو آل البيت)، و السني يسمي الشيعي ( عدو الصحابة). كلاهما يتعاديان عن بعد ( ١٤ قرن الى الوراء). لاتوجد في تقاليدنا وأدبياتنا مراجعة لهذه الفكرة، ناهيك عن وجود ماسحات لها. حتى الزمن رغم تبدلاته لم يؤثر كثيرا على مكانة هذه الفكرة في عقول الاجيال العربية المتعاقبة. كأن هذه الفكرة هي جزء من التكوين البيولوجي للانسان العربي. يرثها مثلما يرث لون شعره وعينيه. اليهود والنصارى، هم اعداء منذ ظهور دعوة محمد في الجزيرة الى هذا الوقت. الفرس اعداء للعرب منذ ان ( وضعوا السم لعمر بن الخطاب)، السني يعادي الشيعي منذ ( مقتل عثمان)، والشيعي يعادي السني منذ ( مقتل الحسين). ولايوجد اي حل. فرنسا وبريطانيا وامريكا اعداء للعرب لانهم ورثة الصليبيين. ولايوجد حل ايضا. انهم يتربصون بنا ويحوكون المؤامرات لتفريق العرب ونهب ثرواتهم . اسرائيل هي دولة اليهود ( هكذا ينظر اليها العرب المسلمون)، ولايجوز التصالح معها. اذن لايوجد حل ايضا. السلام فكرة شبه معدمة. السلام (الذي هو نقيض العداوة) لا يأتي الا بعد الفشل والكلل والانهاك الكامل، واحيانا بالصدفة وحدها. السلام هو وضع عشوائي هش ومؤقت، مقابل صلابة وديمومة العداوة. العراك ( الحريق) لا يحتاج سوى عود كبريت، اما رجال الاطفاء فلا وجود لهم ، بل هم يخجلون من مهنتهم او ينكرونها. الحرائق تنطفي لوحدها بعد ان تاكل الاخضر واليابس فلا يبقى اي شيء تاكله. الحروب الاهلية العربية او صراع الشعوب والانظمة هي نماذج جيدة . لايوجد في الصراعات العربية صفحة الحل، بل توكيد فكرة العداوة وتحشيد كل القوى النفسية والعقلية لها. العدو الذي ينبغي فنائه لا التفاهم معه او التوصل الى حل معه، او فناء الطرفين او وصولهم الى مايقرب من الفناء. التاريخ العربي الاسلامي يعج بالامثلة على مدى تغلغل فكرة العدو وسهولة اندلاع الحرب. في موقعة ( صفين) توقفت الحرب لابسبب رفع المصاحف، بل بسبب الانهاك التام للطرفين. بحيث وصل الامر الى العراك بالايدي والاسنان). رفعت المصاحف بعد مقتل ٧٠ الف من الطرفين، من اصل ١٦٠ الف شاركوا في هذه المجزرة. هذه الوحشية المفرطة ورجالها مازالت حتى هذه اللحظة بعيدة عن الادانة. البعض يراها من (ملاحم العرب). لاحظ الرومانسية المفرطة في التغني بمصرع ٧٠ الف رجل. البعض كان اقل رومانسية واكثر ايمانا بالقتل، فاعتبرها صراع الحق والباطل. بينما اندفع البعض كثيرا فجعل من صفين ( صراع اليسار واليمين في الاسلام). وهكذا تتحول المجازر الى مناسبات للتغني والتفاخر، مثلما تحولت قادسية صدام الى اغان واناشيد وانواط وعز وشرف وسيارات سوبر وبيوت وامتيازات شتى . صفين هي حرب عبثية تشبه الى حد كبير قادسية صدام. صفين هي الجذر والنسخة الاولى، التي تم تكبيرها لاحقا لتبتلع مايقرب من مليون ضحية ( قتيل، جريح، معوق ، اسير، مفقود). الحرب العراقية الايرانية هي( صفين صدام والخميني ) اكثر من كونها (قادسية صدام). الحرب العراقية الايرانية نموذجا حيا للتوافق العربي الفارسي في تبجيل (فكرة العدو) وهزيمة باهضة التكاليف للحكمة، وانعدام الاحترام للارواح، وهي عار لكل من شارك بها عن قناعة وايمان او ابدع او قتل او استبسل او حصل باستحقاق على نوط الشجاعة وهي تزكية رائعة لكل من فر من هذه الحرب، فهم المخلصون للحياة وقيمتها. هذه الحرب هي الدليل على ديمومة (فكرة العدو).

فكرة العدو عندنا اكثر جاذبية من فكرة التسامح، فهي ترتبط بموروث تعززه القبيلة والدين والمناهج الدراسية . الشعر الكلاسيكي العربي لوحده هو منجم هائل للعداوة. نحن لا نؤمن بالتسامح، نسميه عادة ( الجبن) او ( التخاذل) او ( الانبطاح) او ( الاستسلام ). واذا وجد السلام فسيكون مفروض عادة كما حصل في كمب ديفيد. وسنبطش بمن يبادر بالسلام كما حصل للرئيس انور السادات، ونطمغه بالخيانة. لايوجد في ثقافتنا وشعرنا وادبنا ما يدعم التسامح. طيلة ٧٠ عاما لم يخرج منا شاعر واحد يدعو للسلام مع اسرائيل. بل لم تكتب حتى قصيدة واحدة. بالمقابل هناك اطنان من المهيجات العدوانية والمقبلات والتوابل الخاصة بالعدوان. مع اول حادثة يتشكل العدو ( او الخصم) في رؤوسنا ويصبح همنا وهم ثقافتنا هو التعبئة الدائمة، وضخ اكبر كمية من الكراهية، والبحث عن مايعزز هذه الكراهية وامتدادها افقيا .قضية فلسطين نموذجا ممتازا لفكرة العدو.

كل هذا ينبع من مصدر واحد هو العشق الايروسي لفكرة العدو وتقبيح صورة السلام والتبرؤ منها قدر الامكان