23 ديسمبر، 2024 11:02 ص

المجمع العلمي العراقي : تحدٍ كبير ورهان صعب

المجمع العلمي العراقي : تحدٍ كبير ورهان صعب

بمناسبة الذكرى الماسية لتأسيسه
ان تبدأ من جديد رغم شدة الرمضاء وطول الطريق خير من ان تنتظر ظلالاً وقد لاتأتي الا بعد حين ، وان تواجه الهدم المبرمج بالقليل من امكانات البناء افضل بكثير من ان تظل محدقاً في الخراب ومن يمارسه عمداً – من داخل المجمع – وبشكل مبطن.
لقد تعرض المجمع العلمي كغيره من مؤسسات الدولة العراقية الى التخريب والنهب والحرق وكان نصيبه من الدمار قد ادمى قلوب الناس جميعاً ، وخصوصاً اولئك الذين اعتادوا على ارتياده بين الحين والآخر ليستمعوا الى محاضرة او يقدموا تعقيباً في مناظرة او ندوة فكرية او يطلعوا على كتاب جديد صدر عنه.
لقد اتت عملية الهدم والتدمير والحرق في المجمع العلمي على كل مافيه من كتب ومخطوطات ووثائق واجهزة وبناية … كان المنظر مروعاً يدعو الى اليأس بقدر مايدعو الى الحزن . ولم يكن احد يتوقع ان يتحول هذا الصرح الى رماد واكداس … لكن بهمة ( بعض الغيارى ) من العاملين فيه ، تكاتف هذا ( البعض) من اجل اعادة اعمار المجمع ومواصلة العمل في رحابه.
وفي هذا السياق ، عادت مجلة المجمع العلمي للصدور ، وتبعتها في السياق ذاته اغلب اقسام المجمع العلمية والفنية – على الرغم غياب اعضاءه – لتواصل اداء رسالة علمية وطنية ، ليس لها من مرجعية غير الوطن ، وطموحات اعماره… انساناً ، وبُنى ،.. لكي يستعيد عافيته على طريق تحرير ارادته.
مهما كانت المشاكل التي عانى ومازال يعاني منها المجمع العلمي .. فلا شك في ان من حقه ان يفخر بالمكانة المتميزة التي احتلها عراقياً وعربياً وحتى عالمياً . وهو امر لم يعد مثار شك ، فاستمرارية عمل المجمع لأكثر من سبعين علماً ، على الرغم من كل الظروف المأساوية التي مرت على العراق ، ونوعية الاصدارات التي ينشرها ، وتأثيراتها الفكرية ، واستمرار صدور مجلته الرئيسة في وقت اختفت فيه معظم المجلات المثيلات او تعثر صدورها ، وعلى الرغم من التخصيصات المالية المحدودة جداً ، بقي محافظاً نوعاً ما على نهجه واستقلاليته العلمية والمهنية … وبخاصة – بائساً – في تقديم نموذج متميز للعمل المؤسسي البحثي العلمي ، سواء داخل العراق او خارجه … كلها امور تدعو الى الاعتزاز بالانجاز على رغم كل الصعوبات التي لايزال المجمع يواجهها والتي يخطط لتجاوزها.
ان تجربة المجمع العلمي خلال السنوات الماضية ( بعد 9 / نيسان / 2003) مثال صغير ومتواضع لما يمكن ان تصنعه الاورادة ، على رغم صعوبة كل الظروف المحيطة به. وما كان من الممكن تحقيق كل ذلك من دون تعاون وتكاتف وحرص بعض اعضاء الهيئة العلمية والادارية والفنية للمجمع . كما لم يكن ذلك ممكناً من دون رئاسة مجمع متميزة ، كفؤة ، مخلصة للعمل ، وفق ( ليس بالإمكان افضل مما كان ).
فقد حرصت رئاسات المجمع ابتداءاً من ماضياً ( حصراً) على اختبار نهج العمل المؤسسي والعقلانية الصارمة في ادارة شؤون المجمع البحثية والعلمية والترجمية… من خلال اعتماد مبدأ المؤسسية وتوفير اطرها التنظيمية والادارية والعقلانية للبرنامج العلمي ، معتمدة على قواعد صارمة لا تقبل الانتهاك ، وهو ما ضمن للمجمع العلمي مبدأ الحوار الداخلي عبر اقسامه وشعبه ، ومبدأ الاحتساب الصارم في كل ما يتصل بشؤون تنفيذ برامجه العلمية . وبذلك يعد المجمع من المؤسسات العلمية الفريدة ليس في العراق فحسب بل في الوطن العربي ، كونه يعمل على وفق منهج الاكاديميات المرموقة في العالم .
لكن للأسف الشديد جداً ، انتابت الباحث / الاكاديمي العراقي بعد 9 / نيسان / 2003، احساس في ان بلاده بدأت تنتشر فيها موجة من خيبة الامل والاحباط في شأن مجمعه العلمي وما أل اليه من انحطاط … وشعور بأنه قد عجز عن ان يحقق كثيراً من الوعود البراقة ، والآمال العراض التي واكبت الحماس في العقود السابقة عند انشائه ، وتوفير قدر من متطلباتها.. وتأتي هذه الموجة وهذا الشعور معها، بردت فعل لاتخلو من الحدة ، تنحو نحو تضييق الخناق على هذه المؤسسة العريقة وبمحاولة تقزيمها ، بل حتى الاستغناء عنها ، والامر الملفت للنظر ، هو هذه الردة يصاحبها افكار لأهمية العلم او لدوره في التنمية ، فما زال مجتمعنا العراقي وحكوماته المتعاقبة بعد 9/نيسان/2003 ، لا تقدر الدور الذي يمكن ان يؤديه المجمع العلمي لو تولته رئاسة نيرة بعقلها لا متحجرة متخلفة مليئة بمركبات النقص والعقد النفسية والغيرة والحسد من الاكفأ منها – كما كان مع احد رئاساته السابقة – ولست اعرف مسؤول عراقي كبير واحد او صانع قرار فيه ، يمجد العلم في افعالهم وخطاباتهم وتصريحاتهم وينوها بدوره في التنمية الوطنية.
ان التناقص المقلق بين الطموح والانجازات ، يستحق المزيد من الفهم والمتابعة ، ومن ثم العمل المجدي لإزالته او على الاقل لتخفيف وطأته . ولنؤكد بداية ان من حق المجتمع في كل فئاته ان يُقيم النشاط العلمي للمجمع العلمي وان يبدي رأيه في انجازات القائمين عليه واخفاقاتهم ، وان يعدل مساره ، وبالقدر والاسلوب ذاتيهما اللذين يمارس بهما هذا الحق في شأن اي نشاط اجتماعي أخر، فليست للمعلم والمشتغلين فيه حصانة او قدسية خاصة تضعهم فوق مستوى المسائلة الاجتماعية او تعطيهم حقوقاً متميزة لغيرهم . ومن هذا المنطلق يكون الاخفاق في تحقيق التطلعات والآمال فشلاً مزدوجاً يشترك الطرفان فيه ويتحملان مسؤوليته معاً.
لكن الذي يبدو للمتأمل في حياتنا العلمية / الفكرية الراهنة ، اننا نعود من حيث ندري او لأندري ، بقصد قد يكون مبطناً- والله اعلم – او بدون قصد، الى نقطة الصفر ، وليست هذه العودة قد يظهر لأول وهلة نتيجة لمراجعات فاحصة للتجارب التي مرت بنا ، وتقييمات دقيقة لأسسها ومعطياتها ونتائجها … ولكنها اعادة لنفس التجربة او التجارب انطلاقاً عن نفس الاسس والمقدمات ، وكأنه محتوم علينا كباحثين وكتّاب ، ان نظل ندور داخل محيط دائرة مغلقة.
ان الخطورة الكبيرة الطاغية الآن في مجمعنا العلمي ، هي وجود ( نفر ) ممن يتولى ( للأسف) مسؤوليات اقسامه وشعبه لا علاقة لهم بالفكر والابداع والابتكار ، لا من قريب ولا من بعيد ، ادعياء معرفة ، يشكلون عبئاً بغباواتهم على من هم اسمى وارفع منهم في كل شيء .. وعلى الآدمية التي يحملون بالخطأ بطاقة الانتماء اليها . بوجود مثل هذا ( النفر) بلغ الامر بأكثر باحثينا ، ان احجموا عن الكتابة والبحث والمشاركة بنشاطات هذه المؤسسة ، احتراماً لانفسهم واعتزازاً بإنتاجهم العلمي ، لان لمهنة الكتابة / البحث فروضها ومنطقها ، ونصيحتي لهذا ( النفر) الذي يتعاطى مع ( ذوات) علمية ارفع مستوى منهم بالتأكيد ، ان يتعاملوا معهم بأسلوب مشفوع بالكياسة والعلمية ، وبأسلوب فيه التصرف الذي يغذي العلاقة بين الطرفين ولاينال من الكرامة ولاينشئ حقداً.
وعليه ، يستوجب التنصيب / التكليف في الوظائف القيادية لأي مؤسسة ان يكون وضع الشخص المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن المنابت والاصول .. ومن هنا ، فأن التكليف في تولي هذه المناصب والمسؤوليات ولاسيما العلمية ، يجب ان يكون وفق اسس موضوعية مجردة قائمة على الكفاءة والخبرة اللازمة للوظيفة ولأتخضع للأمزجة والاعتبارات الشخصية او لأية اعتبارات اخرى مهما كانت . ومن الضروري اعطاء هذه المهمات فرصاً عادلة ومتكافئة وتحقيق العدالة والمساواة فيما بينها في عمليات التنصيب او التكليف ، وان اي خلل في تطبيق هذه القاعدة الاساسية ، لابد ان تكون له انعكاسات سلبية على العملية الوظيفية برمتها ، بالإضافة لما يولده ذلك من شعور بالمرارة والألم في نفوس من تم تجاوزهم وعدم اعطائهم حقوقهم بسبب الاعتبارات التي اشرت اليها.
وتأسيساً عليه ، فان الخطوة الاولى لأي رئيس مجمع يكلف بقيادة عملية اصلاح هذه المؤسسة ، هي وضع الضوابط الموضوعية والقواعد والاسس المناسبة لعملية انتقاء وتعيين الموظفين بما فيهم رئيس المجمع ومساعديه ، بما يضمن تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب ، والتأكيد من تطبيق هذه القواعد والاسس بعدالة وانصاف.
واود ان اؤكد هنا ، انه مهما كانت الاسس والقواعد التي توضع لهذه الغاية ، نموذجية او مثالية ، فان المهم تطبيق تلك القواعد والاسس بأنصاف وعدالة دون التحايل عليها او الالتفاف من حولها بطرق واشكال واساليب مختلفة.
واؤكد انه لو كان قد تم او يتم تطبيق مثل هذه القواعد التي نكررها ونؤكد عليها دائماً بأمانة وجد وعدالة وانصاف ، لما وجدنا من يشكو ويتذمر … ولكن من المؤلم الاشارة هنا الى ان من يتجاهلون هذه القواعد والاسس او يطالبون بتجاوزها والتحايل عليها ، هم في الغالب ممن ينادون دوماً بوجوب التقيد بها ومراعاتها.
واذا كان مبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب اساسياً في عملية التعيين او التنصيب بشكل عام ، فأن اكثر اهمية في عملية الانتقاء والتعيين في الوظائف القيادية ، لان نجاح العملية الادارية يعتمد الى حد كبير على حسن اختيار القادة الاداريين . ولذا ، فان من الضروري التأكيد من ان اختبارهم يتم على اساس من الكفاءة والخبرة الشخصية القيادية ومراعاة الكفاءة والجدارة وحسن الاداء ، وخلوه من مركبات النقص والعقد النفسية والاحساس بالدونية من هو اكفأ منه من الموظفين الذين يترأسهم.
وعليه ارى ، انه لابد من اعادة النظر في تقييم اداء رئيس المجمع – اي رئيس مجمع – واعادة النظر في قرارته التي تتعلق بأسلوبه في تقييم اداء الموظفين والمعايير التي يعتمد عليها في عملية التقييم ، اذ ان عملية التقييم هذه ترتبط في كثير من الاحيان بأمزجته الشخصية وعقده النفسية وعلاقته بالموظفين من هم الاكفاء والارقى خلقاً وعلماً منه.
ونظراً لان تقديراته – اي رئيس المجمع – اصبحت سلماً للحصول على امتيازات استثنائية ، فان حرصه على ارضاء بعض ( تابعيه ) في بعض الاحيان وحرص هؤلاء على ارضاء رئيسهم هذا ، وتلبية كل طلباته ورغباته حتى لو كان بعض تلك الطلبات والامتيازات لا ينسجم مع القوانين والانظمة المرعية ، مما تدفع رئيس المجمع للتكرم بإعطاء تقديرات ومسؤوليات لهذا ( النفر) من الموظفين من عديمي الكفاءة ، بغض النظر عن مستوى ادائهم الفعلي ، وبالمقابل فان عدم رضا هذا الرئيس عن موظف عامل معه لاعتبارات شخصية اكثر منها وظيفية ، قد يحرم ذلك الموظف الذي يكون كفؤاً وجديراً بالتقدير من الحصول على الاعتبارات التقديرية التي يستحقها والذي بالنتيجة هو عائدية منجزه العلمي منفعة للصالح العام.
فمثل هكذا موظف في المجمع العلمي ، لايشعر بالاستقرار ولا بالاطمئنان ، لان وضعه الوظيفي يرتبط باعتبارات شخصية وامزجة مريضة ، ويخضع لاسلوب المعايير المزدوجة في التعامل ، فهو يهدد بشكل او بآخر من قبل رئيس المجمع بعقوبته او بنقله او بأحالته الى التقاعد .. وبذلك يبقى هذا الموظف في دوامة من الخوف والبلبلة والقلق بسبب تلك السلوكيات سواء كان وراءها مسؤول قسم او متنفذ او من يتوسط باسم اي من هؤلاء من هو احط من المتملقين والمتزلقين .. .
ولايشعر مثل هكذا موظف بأن كرامته مصانة ، فيتعرض للاهانة – بأي شكل من اشكالها – اذا لم يلب رغبات مسؤول او متنفذ اذا كانت تلك الرغبات تتعارض مع القوانين والانظمة والاصول المرعية او كانت لمصلحة طرف او جهة دون وجه حق وعلى حساب من هم احق . فيتعرض مثل هذا الموظف لضغوط ومداخلات من اجل القيام بمثل تلك الاعمال سواء كانت تلك الممارسات من رؤوساء له او ذيولهم.
ما الواجبات الاساسية التي من المفروض يضطلع بها رئيس المجمع ؟ وماهي الصفات والمؤهلات التي يجب ان يتمتع بها ؟
قبل كل شيء ، لابد ان يقوم رئيس المجمع العلمي بتنظيم المجمع الذي يتولى مسؤولية ادارته او يقوم بمراجعة التنظيم القائم له ليطمئن الى ان هذا التنظيم والهيكل التنظيمي من حين لأخر للتأكد من تكيفه مع أية واجبات او مسؤوليات جديدة والتحقق من ريادة الكفاءة الانتاجية لهذه المؤسسة الخطيرة ويرتبط بذلك تحديد واجبات ومسؤوليات العاملين في المجمع في وصف وظيفي واضح ومحدد لتلافي التضارب في الاختصاصات والصلاحيات والازدواجية في العمل .
ولابد لرئيس المجمع من وضع نظام داخلي او برنامج عمل لازم لتنفيذه من قبل موظفي المجمع ، وربط هذه البرامج بجدول زمني للتنفيذ وتوجيه الموظفين لتنفيذها بالشكل المناسب ومراقبة ومتابعة التنفيذ ، وتعتبر هذه العملية خطوة هامة في العملية الادارية.
ان اهم ما يجب ان يتميز به رئيس المجمع العلمي الكفء هو ايمانه بعمل الفريق ، لان القائد الاداري الناصح هو الذي يستطيع ان يعمل مع الآخرين ومن خلالهم ويوجه مسيرة عملهم لتحقيق اهداف المؤسسة التي يتولى ادارتها . ولاشك ان للاجتماعات الدورية مع رؤساء الاقسام وبعض الموظفين في المجمع – ان وجدوا بمستوى مؤسسة اسمها المجمع العلمي – أثراً كبيراً في تعمق روح الفريق … في رأيي ، انه لا خير في المجمع العلمي اذا كان يعتمد في وجوده او عمله على فرد واحد تتحكم فيه امزجة نفسية مريضة … مهما كانت كفاءته او ما يحمله من مؤهل علمي – كأي حرفي مسلكي – ولذا فان من المهم جداً ترسيخ مفهوم العمل المؤسسي في المجمع العلمي .
هذا اولاً ، وثانياً ، وهذا المهم المفروض في رئيس المجمع العلمي القادم – ان كانت الدولة فعلاً حريصة على ديمومة ومكانة مثل هكذا مؤسسة عريقة وتحافظ عليها من الخراب – ان يكون اميناً مخلصاً لعمله، عادلاً منصفاً في تعامله مع الموظفين العاملين معه . ومع الباحثين والمترجمين وذوي العلاقة … ولا يسمح للمداخلات والضغوط التي قد يتعرض لها بأن تجعله ينحرف عن جادة الحق والصواب في تسيير عمله فينظم البعض لحساب البعض الاخر.
هذه بعض الافكار التي يجب ان يتمتع بها اي رئيس مجمع علمي سواء الآن او القادم .. ولا شك ان بالإمكان كتابة الكثير عن هذا الموضوع الذي كتب عنه الكثير ، لكن رأيت هنا التركيز على عدد من الامور التي اعتبرها اساسية وجوهرية في هذا المجال.
يبقى ان نذكر في ختام دراستنا هذه :- ان للمجمع العلمي هيكل تنظيمي منصوص عليه في القانون التأسيس ، مؤلف من رئاسة المجمع تشرف على البرنامج العلمي له ، وامانة عامة مخولة بمتابعة تنفيذ البرنامج ، من قبل اقسام علمية يرأسها عضو وعدد من الباحثين والمؤازرين ، ويشترط فيهم ان يكونوا من كبار العلماء في مجال تخصصهم ، وكذلك الحال بالنسبة العضو المؤازر والمشارك ، فضلاً عن طاقم عمل مكون من اداريين وفنيين ومدراء اقسام.
والمفروض في اغلب الفئات العاملة في المجمع ، تحمل مواصفات فنية راقية تتعلق بتخصصها وامتلاكها الخبرة والسمعة المهنية والعلمية المتحققة عن اسهاماتها النظرية او التطبيقية ، ولها الاقدمية في دخولها هذا المجال العلمي من بين ذوي الاختصاص نفسه .
والمفروض كذلك ، يمثل حملة الشهادات الاكاديمية ، الجزء الاعظم من العاملين في المجمع ، وحيث ان امتلاك البعض من هؤلاء للشهادات العليا ، تعني تعرضهم خلال سني دراستهم العمليات الاحتكاك والتكيف للبيئة الجامعية والمجتمعات المتميزة ثقافياً وحضارياً بحكم تواجد الجامعات المتقدمة فيها . اضف الى ذلك ، اطلاعهم المستمر على ما ينشر من نتاج فكري في مجال اختصاصهم وقراءاتهم المستمرة ، مكنتهم من امتلاك خزين معرفي متنوع ليس بقليل . وعلى هذا الاساس ، فأن البناء العلمي البحثي للمجمع العلمي يجب ان يتمتع بنسبة عالية من الملاكات المتميزة بثقافتها وقدرتها على التواصل والتفاعل مع بيئات ثقافية مختلفة ، والانتفاع منها بالقدر الذي تحتاجه . وقد حرص المجمع العلمي منذ تعديل قانونه الاساس، على ان يكون مجمعاً علمياً شاملاً للمعرفة ، كما نصت على ذلك قوانينه وانظمته المختلفة ، التي لم ينفذ اي بند منها.
عُرف عن المجمع قبل 9 / نيسان / 2003 ، تخطيطه العلمي لبرامجه البحثية ، وقد تضمنت عناوين الاولويات العلمية ، ان على صعيد الكتب – مؤلفة ، محققه ، مترجمة – التي يكلف باحثين ومحققين ومترجمين ، بإنجازها ، او على صعيد تلك التي يتقدم بها باحثون الى المجمع . فراعى فيها مدى الانسجام بينها وبين اولوياته قبل الموافقة على طبعها ونشرها او على صعيد المخطوطات المعروضة عليه والخاضعة لتحكيم موضوعي دقيق.
والبرنامج العلمي للمجمع ، كان يقوم والمفروض مازال يقوم على مجموعة وسائل لتنفيذ خططه العلمية :-
برامج البحث الموجهة التي يصنعها المجمع ويدعو الباحثين والمحققين والمترجمين من مختلف الاختصاصات الى المساهمة في انجازها من خلال التعاقد حسب الاصول المرعية في المجمع وهي الارقى عراقياً حتى اليوم بشهادة العديد من الاكاديميين.
الندوات العلمية التي تدور موضوعاتها ومناقشاتها في الفكر والتاريخ والتراث والحضارة والاجتماع والاقتصاد والترجمة .. مما يعده المجمع من الموضوعات ذات الاولوية في برامجه العلمية.
الحلقات النقاشية ، وهي ندوات مصغرة ضمت عادة بين الخمسة مشاركين والعشرة ، لكنها توسعت في الآونة الاخيرة، واصبحت تستوعب عدداً اكبر من المشاركين يصل احياناً الى العشرين . والغالب على حلقات المجمع النقاشية تناولها لموضوعات تقع في صميم برنامجه العلمي او تفرضها ظرفيات ومتغيرات ضاغطة تقتضي حواراً حولها لبناء رأي في معطياتها وكيفيات التعاطي مع نتائجها.
اصدارات المجمع من الكتب ، ويدخل في جملتها انتاجه المباشر من مشاريع علمية ( بحث ، تحقيق ، ترجمة …) يكلف عدداً من الباحثين بإنجازها او مخططات كتب بادر مؤلفوها الى عرضها على المجمع قصد نشرها وخضعت لتحكيم علمي من قبل خبراء اعتمدهم المجمع من كافة التخصصات ، وقد اصدر المجمع منذ عام 1950 ، وحتى كتابة هذا الموضوع ( كذا) كتاب ، وهي في مجموعها ليست اغلبها بالمستوى العلمي الرفيع الذي يشهد به كثيرون لأتمثل على الاقل مكتبة مرجعية لأغنى عنها لأي باحث او اكاديمي او قارئ متابع.
مجلة المجمع العلمي الاساسية التي بلغت اعدادها حتى نهاية عام 2020 ، اكثر من سبعين مجلد . وقد انتظم صدورها ولم تتوقف حتى في احلك ظروف البلد الصعبة ، وكان الاجدى بها مواكبتها بالرصد والتحليل مجمل المنعطفات التي شهدها العراق ولاسيما في السنوات الاخيرة . ومجمل الاشكاليات الفكرية التي طرحت على الوعي العراقي في هذه المدة. وبهذا الرصد ( ممكن ) تصبح مصدر مميز من مصادر المعرفة الذي لاغنُى عنه لأي اكاديمي ومثقف في المجالات التي تكرست المجلة للإطلالة عليه.
ومن خلال المحاضرات والحلقات النقاشية ( المفقودة) ، يتمكن المجمع من خلال هذا المنهج دعوته العديد من رموز الفكر والثقافة والعمل الاكاديمي في العراق الى القاء المحاضرات ، غير ان التخصيصات المالية المحدودة للمجمع لم تسمح بالذهاب في هذا الاسلوب بعيداً ولاسيما بعد 9 / نيسان /2003 ، ومع ذلك ، فقد تمكن من تنظيم (كذا) محاضرة – فقيرة بمضمونها وبمشاركات باحثيها – خلال الاعوام الاخيرة ، ويتطلع المجمع الآن الى تحقيق انتظام المحاضرات بحجم تطلعه..
كان الاجدى بالمجمع منذ تأسيسه ، ان يؤمن بالحاجة الحيوية الى التعاون مع المؤسسات العلمية العراقية والعربية المختلفة لتحقيق الاهداف المشتركة، ويسعى من جانبه من بناء الجسور واواصر الصلة مع الكثير منها . ليكون من ثمار ذلك ، اقامة علاقات تعاون بينه وبين بعضها ، لينجم عن ذلك التعاون الكثير من النتائج العلمية ، من ندوات وحلقات نقاشية ومشاريع ابحاث …
ان المجمع العلمي العراقي يدعي انه قد طرح اهدافاً علمية عراقية بعيدة المدى ، اما في صورة غير معلن عنها ، على نحو ما ورد في بيان التأسيس وفي نظامه الاساس او بشكل غير معلن ، ولكن يجري تنفيذه بتؤده وحرص علمي – على حدّ قول بعض ( النفر ) العاملين فيه.
واذ حرص ( ويحرص) المجمع اشد الحرص على الوفاء بما التزم به ، وهو في ذلك انفرد عن المؤسسات العلمية والبحثية الاخرى ، وقدم من تجربته ثلاث ملاحظات تشهد له بالتفرد.
الاولى:- هي ان المجمع العلمي هو اهم مؤسسة علمية عراقية اشتركت المئات من الاقلام العراقية والعربية في برامجه العلمية من مختلف التخصصات ، ومن سائر التيارات الفكرية ، وهو ما تشهد به وله مئات المقالات والدراسات المنشورة في مجلته.
الثانية :- هي ان المجمع ما توقف يوماً على وفرة من تعامل معهم من الباحثين والمحققين والمترجمين وحتى الكتّاب ، عن البحث الدؤوب عن طاقات فكرية جديدة من الاجيال الناشئة من الباحثين ودعوتها الى الاشتراك في برامجه العلمية عبر الكتابة في مجلته او الدعوة الى المشاركة في الندوات والحلقات النقاشية او استكتابه لأعداد دراسات موسعة قصد نشرها في كتب.
الثالثة:- تتصل بسعة الصلات التي نسجها المجمع مع الباحثين من خارج العراق على امتداد مواقعهم الجغرافية المختلفة.
أخيراً من الجدير بالملاحظة ان العمل الآن في المجمع نتمنى ان يمضي قدماً على الدوام دون ان يصل شعور الى خارج نطاقه بمشكلة المشاكل فيه، وهي التخصصات المالية اللازمة التي تحد من الكثير من طموحاته.
ان المجمع العلمي الذي نهض (سابقاً) بأدوار لم تنهض بها جامعات ومؤسسات علمية مماثلة في المجالات البحثية وبأقل الامكانيات المالية ، لا يستطيع اليوم ان يؤمن لنفسه مبلغ (كذا) يغطي به مشاريعه الطموحة ، فهل ثمة من خجل على المال العراق اكثر من ترك مؤسسة عراقية عريقة علمية بأهمية المجمع العلمي لمواجهة هذه المصاعب الخطيرة على مستقبله ومستقبل العمل العلمي العراقي.

Waleed [email protected]