23 ديسمبر، 2024 3:03 م

المجزرة الكبرى .. حرق سومر

المجزرة الكبرى .. حرق سومر

الانهيار الأخير للدولة العراقية ليس من الغريب ان يشترك في صنعه الأكراد ، فهم اصحاب مشروع انفصال ، يستلزم بالضرورة هدم واضعاف الدولة العراقية ، لذلك كان إيوائهم للشخصيات الإرهابية المطلوبة للقضاء الاتحادي أمرا متوقعا . وليس غريبا كذلك ان يشترك فيه السنة العرب غالبا لافتقادهم الدائم الى مشروع بنيوي ، وارتباط ساستهم وكبار مشايخهم بالأجنبي ومشاريعه ، وتكوينهم البدوي المتصف بالانتهازية والتهام الذات عند الانكسار ، وكلّنا نعرف كيف سلّمتهم بريطانيا الحكم بعد ١٩٢٠ ، وكيف خان اغلبهم الحكومة العثمانية المساندة لهم تاريخيا .

ومن الطبيعي ان تساهم أمريكا في هذا الانهيار باعتبارها صاحبة المشروع الشيطاني لتقسيم العراق وإطفاء نوره .

لكن من السذاجة ان نقتصر في تصوراتنا على ان غاية المشروع الامريكي هي تقسيم العراق وحسب ، فليس مشكلة أمريكا والغرب قطعة من الارض ، بل مشكلتها في شعب عميق في الحضارة وله عقل كبير ينتمي لرسول الله وعلي . لذلك تسعى أمريكا الى مشروع اهم ، يسير مع مشروع التقسيم ، يتمثّل في كسر الشخصية العراقية الشيعية ، ثقافيا ودينيا واقتصاديا وسياسيا .

ان مراحل ذلك المشروع التغييري التغييبي المفقد للهوية بدإت من زمن طويل ، ولعل البريطانيين كان لهم قصب السبق في هذا المشروع بالتعاون مع جماهير البدو ، لكن نهضة الشيعة في عقد التسعينات من القرن الماضي بقيادة الشهيد الصدر أسقطت الكثير من الرهانات ، فلزم دخول الأمريكان بأنفسهم لتنفيذ خطوات اكثر دموية وشيطانية ، يكون للوجه الاسلامي الشيعي فيها حضور ، لموازنة الذهنية الشيعية ، ومن ثمّ استغفالها واستغلالها ، عبر عناوين كاذبة في حضورها الشيعي ، لكنها مناسبة لامالة الكفّة القيادية نحو المرجعية المخالفة لمدرسة الشهيد الصدر الحركية ، وهو المطلوب الكافي لتحقق حركة أمريكية بانسيابية معقولة .

ودخلت قوافل الساسة والمؤسسات ، الاسلامية والعلمانية والالحادية ، القوميات والنعرات ، التعصب والتحضر ، لكن كانت أمريكا حريصة على ان يتم في المرحلة الاولى الامتلاك الإعلامي والمالي لأمراء الحرب المتأمركين او الاغبياء .

التشوّه والضبابية هي مقدمة إفقاد الهوية ، لذلك تم صنع فوضى لا اخلاقية ، منتجة لعدّة مشاريع شيعية ، متضاربة ، متقاطعة ، بعضها جزء من المشروع الامريكي ، وبعضها غبي فقط ، وبعضها محاصر ، وبعضها انتهازي .

لنأخذ أمثلة بسيطة على الطريقة التي يعمل بها بعض ابرز قادة الشيعة في المجالين الاجتماعي والسياسي ، فهذا عمَّار الحكيم يدعو واحدة من اهم دعاة الخلاعة والوضعية الملحدة هناء أدور في احياء ذكرى الزهراء عليها السلام ، فيما يفشل في العمل على سن قانون واحد يعكس عقيدة الزهراء ضمن الدولة العراقية ، بل هو ربما احد اهم المعرقلين لهذا التوجه . لذلك هو مناسب جدا لهذه المرحلة أمريكيا ، ولهذا ايضا كان التخلص من السيد محمد باقر الحكيم ضروريا ، فالقضية ليست بالأسماء ، بل بالاعتقادات . وليس غريبا بعد ذلك انه يريد إعمار الرمادي باموال البصرة ، فيما هو يعرف مدى تضرر البصرة بما يفوق الرمادي باضعاف .

شخصية اخرى كالسيد مقتدى الصدر تعاني الانفعالات وغياب المشروع وصبيانية التحرك ، تكون مناسبة جدا للمرحلة الامريكية الراهنة ، فنحن نتذكر كيف ان حركة السيد مقتدى الصدر وانصاره إبّان كتابة قانون إدارة الدولة ساهمت في عرقلة الأخذ بتوصيات وتوجيهات المرجعية الدينية والنخب العراقية لتعديل القانون ، تحت ذريعة السرعة والاضطرار أمريكيا . لذلك لم يكن مهما لدى الادارة الامريكية ان يكون على رأس وزارة الصناعة احد أنصار السيد مقتدى الصدر ، وزيرا ، وهي تروم الغائها ، ضمن مشروع هدم الصناعة العراقية ، لانه لن يكون بمستوى من الوعي يمكّنه من ادراك ومعالجة شذوذ اللعبة ، وهذا ما حصل ويحصل اليوم ، حيث تنهار الوزارة دون مشروع مواجه لانقاذها على يد التيار الذي يحكمها .

أمّا الحزب الأشهر شيعيا ، حزب الدعوة الاسلامية ، وبعدة استلامه الحكم لفترة طويلة نسبيا ، أوصل البلاد الى معضلة وهاوية ، حيث ثلثها محتل من شرار الخلق ، والميزانية خاوية على عروشها ومديونية الدولة كبيرة ، بعد ان كانت في السابق انفجارية ، وقد امتلأ البلد بمجاميع من عصابات المقاولين ، وانهارت القيم العسكرية والسياسية ، وأصبح الجيش العراقي اكبر مورد سلاح لعدوّه ، في مفارقة عجيبة ، حيث اكبر خيانات وأكثرها ، في ظل غياب المحاسبة والمحاكمة ، ولم تنجح لجنة من اللجان في الوصول الى نتيجة مقنعة ضمن اي ملف في اي وزارة عراقية .

ولعلّ أشهر انواع الفشل الاداري كان في ملف البطاقة التموينية ، التي تمس المواطن العراقي مباشرة ، وضمن أوسع شريحة فيه ، فهي حتى الان تثبت ان الحكومة العراقية فاشلة في ابسط الملفات .

هذا النوع من القيادات والمؤسسات الشيعية مقبول أمريكيا ، لانه جزء مهم من لعبة التشويه وموازنة الفوضى ، لذلك نرى مدى الاندماج بين عمل الحكومة العراقية والحكومة الامريكية رغم معرفة العراقيين بدعم الأمريكان للارهاب ، الى الدرجة التي قامت القوات الامريكية بقصف مواقع الجيش العراقي لحماية القطعات الإرهابية ، فيما منعت طيران الجيش العراقي من التحليق ، لكن مع ذلك تصمت الحكومة العراقية ، وتذهب ابعد من ذلك في دعم المشروع الامريكي ، من خلال الإبقاء على الضباط السنة في المناطق الحاضنة للارهاب ، رغم خيانتهم المتكررة وتسليم قطعاتهم ، او ذبح أفرادها ، فيما كان الصحيح هو تنسيبهم للعمل ضمن القطعات المتواجدة على الحدود الإيرانية ، لابقاء هاجس الخوف والالتزام والترقب ضابطاً لتحركاتهم .

صفقات الأسلحة الفاسدة التي ورّدتها حكومة المالكي كانت جزءا من خطة الانهيار العسكرية ، وكذلك كانت الأسلحة الموزعة على العشائر والقوات الأمنية في مناطق احتضان الاٍرهاب ، ومن ثم تسليم اكبر مخازن الجيش العراقي لدواعش أمريكا ، في سهولة تامة ، كما في مخازن الغزلاني في الموصل والقاعدة الكورية في الرمادي ، حتى أصبحت الأسلحة المنهوبة عن الجيش العراقي تشكّل ضغطا على الحكومة والجيش السوري المجاور . كل ذلك تم دون محاكمات ودون متابعة جدية ، لتكرر الحالة مرات ومرات ، بل لتصل الأمور الى اهداء الجنود العراقيين مع السلاح للدواعش ، في أقذر مرحلة سياسية لا اخلاقية تقودها أمريكا .

بعد ذلك لا أجدني استغرب فرض الحكومة العراقية لمجموعة قوانين وأوامر من شأنها إنهاك الاقتصاد والمواطن الجنوبي ، حين رفعت نسبة الفائدة الگمرگية الى ٢٠ ٪ ، واسعار الوحدات الكهربائية الى ما يقارب ضعف معدّل الراتب الشهري للمواطن الشيعي ، واسعار الى الماء الى نحو ثلث راتبه ، فيما هي تعلم انّه لا يملك راتبا في الواقع العملي ، بسبب مديونيته للإسقاط الشهرية التي يحاول من خلالها سدّ احتياجات البنى التحتية ، التي تركها حكم البعث خرابا ، على خلاف المواطن السني الذي كان منعما زمن البعث ، لكن الغريب انّ هذه الأوامر تم حصر تطبيقها في مناطق الفرات الأوسط والجنوب تحت مدّعى الظرف الأمني للمناطق السنية والوضع الخاص لكردستان .

الحقيقة الواضحة انّ هذه الأوامر هي جزء من خطة الإنهاك ، ضمن مشروع حرق بلاد سومر الشيعية ، لا سيما وأنّ الحكومة فشلت بعد ١٢ سنة وانفاق اكثر من ٢٠ مليار دولار في معالجة ملف الكهرباء كمثال ! ، وليس ذلك طبيعيا ، الا لدى العقول المدجّنة اعلاميا واجتماعيا ، والجاهلة بفعل مشروع التجهيل الأكبر ، بل هي جزء من مشروع الحرق .

انّ هذه القرارات الانهاكية الاخيرة التي خرّبت الوضع الاقتصادي الشيعي ، مع غياب البديل المحلي ، حيث تم قبل ذلك هدم وزارة الصناعة في خطة ممنهجة ومدروسة ما كانت الا عقوبة متعمدة لعوائل ثلاثة ملايين شيعي اشتركوا في قوات الحشد الشعبي التي واجهت المشروع الامريكي ، ولو كان رئيس ووزراء الحكومة من داعش لما وجدوا عقوبة أفضل من تلك القرارات .

ويمكن اجراء مقارنة صغيرة بين تصرّف الحكومة تجاه المناطق الشيعية وبين تصرّفها تجاه غطرسة وسرقات كردستان لمعرفة حقيقة الجريمة ، حيث بعد ان توفر البصرة ثمانين بالمئة من أموال العراق يرفض القائمون على الدولة الانتباه لمشاكلها ، لكنّهم يذهبون بعيدا في تنازلهم لإقليم يريد الانفصال بكل قواه وخداعه ، رغم انه لا يملك اي ورقة ضغط تجاه بغداد ، فهو لا يوفر اي مصلحة تهم باقي مناطق العراق ، بينما يعيش هو – وقد بنى مؤسساته – على أموال وثروات الجنوب .

انّ دلائل حرق سومر العلوية واضحة جدا ، وقد كانت محمية سابقا بآلية وفّرها أهل بيت العصمة عليهم السلام ، تمثّلت بالمرجعيات الدينية الرسالية ، يدعمها مشايخ القبائل من ذوي الوعي ، لكن اليوم وبعد تذويب فكر القبائل عبر المراحل البريطانية والبعثية ، لم يعد هناك الا القيادة المرجعية ، وهي على قسمين ايضا .

انّ توفر المرجعيات الدينية الرسالية إرادة ربانية ، لكن تصدرت المشهد اخيراً – في تناقض مع فكرها – مرجعية تقول انها العليا ، وسيطرت اعلاميا ، لكنها فاقدة للمشروع المضاد ، بل فاقدة لكل صفات التأسيس ، وليس من كلمة تطلقها في كل أزمة الا ( التطويق ) ، حتى بتنا نحن المطوقين بالأعداء والمشاكل .

انّ هذه المرجعية العليا طالما نادت الحكومات المتعاقبة انها تستمد شرعيتها منها ، وطالما انها لم تجبهم ولم ترفض كلامهم فكل مراحل الفشل استمدت شرعيتها من ذات المرجعية ايضا ، شاء من شاء وابى من ابى . وهذه المرجعية أمّا انها جزء من خطة الحرق لسومر ، او انّ كوادرها مستفيدة من الوضع الراهن ماديا ، او انها غافلة وخاملة ، وانا شخصيا أميل لأول احتمالين ، لكن اترك الفرصة في الثالث لمن يعيش عقله الخدر والتهجين . فهذه المرجعية ترى دماء ابنائنا التي تسيل تحت الحماية الامريكية للدواعش ، وتحت الرعاية الحكومية للضباط الخونة ، وترى مشروع رعاية الاٍرهاب في أربيل وفنادقها ، لكنها لم تحرك ساكنا .

الآلاف من ابنائنا في حشد الله الشعبي يضحّون ، لكنهم عرضة للاتهام والالتهام ، فيما هي تعجز عن حمايتهم وسد الأفواه الصالقة بأنيابها ضدهم ، وتعجز بصورة اكبر عن توفير شيء من الاحترام والخدمات لعوائلهم . من هنا لست ارى انها ستقف الى جانبهم فيما هو قادم .

بعد تكريت وديالى هناك كمين كبير في الرمادي تقوده الولايات المتحدة لسحق ابنائنا في الحشد الشعبي ، بعد ان سلّم أهل الأنبار السلاح لدواعش أمريكا ، ولم يعد فيها من شريف نثق به ، وما هذه الدعوات لدخول الحشد الشعبي بعد رفضه سابقا الا بداية لفخ اكبر .

نعم ، رسالتي لفصائل الحشد الشعبي وقادته ، والى المرجعيات الرسالية في العراق وإيران ، هناك مؤشرات خطر كبيرة جدا على الحشد ، لا سيما بعد تسليم الرمادي ، رغم وجود اكثر من ١٥٠٠ ضابط أمريكي هناك ، ووجود طيرانهم وتقنياتهم ، حيث تسير قوافل داعش في الرمادي بكل حرية ، وبعد التسليم الغريب – ولا غرابة – للاسلحة والمعدات الكاملة من قبل شرطة الرمادي ، وبعد التغييرات العملياتية المريبة لوزارة الدفاع السنية الأبعاد والأركان ، والكردية المتابعة ، وخروج اَهلها دون مقاومة تذكر ، وكإنّ تاريخ المعارك ما اراهم أسطورة آمرلي .

وهناك خطر اكبر ربما يكون من جهة البصرة ، حين ينشغل أبناء سومر في الرمادي وانبارها ، فيكون التحرك الخليجي تحت دوافع طائفية يقودها أهل الرمادي ذاتهم ، ويعمل الأكراد على تعزيزها . فتتحرك قوات رسمية ، او شبه رسمية داعشية الفكر والعمل من هناك ، لتبدأ مرحلة الحرق الامريكي .

اتمنى فعلا ان تكون فصائل الحشد المرتبطة بقيادة رسالية بمستوى من الوعي وعدم الانجراف للعاطفة والحماسة الواهمة ، لتسلم ويسلم اخواننا معهم ، وكيلا نكون قد اعنّا على أنفسنا ، فلن يكون أهل الرمادي بافضل من الذين تم تحريرهم من استعباد داعش على يد أبناء سومر ، لكنهم ذهبوا ليشكروا البارازاني ، ويمجدوا أمريكا ، ويهتفوا لأردوغان . نعم هناك فيهم من يستحق الحياة الكريمة ، فلنعمل على استنقاذه بعقل وحكمة ، وبأقل الخسائر ، ولا نترك جهة مفتوحة ومكشوفة لعدونا .

كما اننا من الضروري ان نقطع أيادي أمريكا في كل مؤسسة حكومية ، عسكرية ، مدنية ، تجارية ، زراعية ، صناعية ، وغيرها ، لنفكّ الطوق عن رقبة سومر ، فليس التحرك العسكري وحده هو من يذبحنا .