(( كلما كانت الدولة قوية ، كلما كان الفرد محترما”))(1) – دوركهايم
لقد استهلكت موضوعة الدولة من حيث طبيعة تكوينها كمؤسسة ونمط إدارتها كسلطة ، في المجتمع العراقي المخترق الكثير من مداد النقّاد والمحللين ، سواء أكان ذلك من أهل الشأن (العراقيين) أو من سواهم ممن تأثر بهذا القدر أو ذاك بتداعيات الأحداث التي وقعت في هذا البلد الغارق بالخرافات والمكتنز بالأساطير ، حتى أضحى الحديث عن هذا الموضوع الشائك والحساس ، أشبه بمن يروم التنطع في حقول مليئة بالألغام ومصائد المغفلين . وحقيقة الأمر أن المسألة لتبدو كذلك ، فيما لو تركنا نوازع الرغبة الذاتية ودوافع التوق الشخصي ، هما من يتصدى للقيام بهذه المهمة الصعبة والمعقدة ، بدلا”من اللجوء إلى أساليب البحث العلمي وطرق التحليل الموضوعي ، لاسيما وان العلاقة بين الدولة المركزية وطبيعة المجتمع العراقي ، كانت على الدوام علاقة إشكالية وذات طابع ملتبس ، لا بل هي أشبه بمحاذير التابو الطوطمي ، الذي ما أن يجرؤ أحد على تخطي حدوده وتدنيس قداسته ، حتى تحل عليه اللعنة المباشرة وينزل به القصاص الفوري ، لاسيما وان هناك من يعتقد (مارسيل غوشيه) إن ((مفتاح مسألة الدولة ينبغي أن نبحث عنه في الجذور العميقة للواقعة الدينية))(2) . ولهذا قلما وضعت هذه العلاقة موضع الشك والتساؤل – إن كان هناك من يجرؤ على ولوج مثل هذه المغامرة – فما بالك بالحفر في أرضيتها والتفكيك في علاقاتها والتنقيب في ملابساتها . وإذا كانت مؤسسة الدولة ، في اغلب بلدان العالم ، تميل بطبيعتها إلى احتكار مصادر القوة والاستحواذ على عناصر النفوذ ، من حيث إن (( واقع الدولة – مثلما يؤكد المفكر الجزائري عبد الله العروي – مفهومها هو التسلط . لا يمكن تصور دولة بلا قهر وبلا استئثار جماعة معينة للخيرات المتوفرة ))(3) ، فان نزوعها في معظم بلدان العالم المتخلف ، لا يني يخلع عليها طابع التوحش والتبربر . ليس فقط كون علاقتها بالمجتمع المسلوب الإرادة والمخصيّ الوعي ، تتسم بالتوجس والاحتراس بحيث تبدو غريبة عنه ومفروضة عليه فحسب ، وإنما لاستشراء نوازع التغالب بين الجماعات الأولية ، واستفحال ضروب التنازع بين الكيانات البدائية ، وتفاقم مظاهر العنف بين الأصوليات الهامشية ، على خلفية تباغضها الاقوامي وتنافرها الطوائفي وتنابذها القبائلي . وهو ما يعطي تلك الدولة / المولوخ(*) المبرر الواقعي والمسوغ الأخلاقي لشرعنة قوتها وعقلنة سلطتها ومثلنة إيديولوجيتها . ولهذا فقد أشار المفكر السوري (برهان غليون) إلى ((إن الانقلاب الحقيقي في تاريخ المجتمعات العربية والعالمثالثية عامة ليس ما نشهده من انقلابات عسكرية على الدولة أو داخل الدولة ، ولكنه الدولة ذاتها بما تمثله من أداة استثنائية لقلب الأوضاع والتحكم بالمجتمعات والتلاعب بمصيرها ومستقبلها . وهذا ما يجعل منها مصدر العنف الرئيسي ومحوره ، بقدر ما يشكل هذا العنف – القابلة القانونية للتقدم والتحويل المتسارع ، كما كان يقال – الثوري أحيانا”، والأبيض في بقية الأحيان ، الوسيلة الأولى للحفاظ على الدولة ، إن لم يكن تحقيق تراكمه مبرر وجودها))(4) . ولعل هذا الملمح الغريب ليس بدون سبب طبعا”، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ظروف نشأة تلك الدولة وشروط تكوينها وآليات اشتغالها وقوى إدارتها وملابسات شرعيتها . ففي الوقت الذي تبلورت فيه مستلزمات وجودها المؤسسي ، ومقومات نضوجها السلطوي ، وسياقات تطورها التاريخي ، في المجتمعات الأوربية التي خرجت لتوها من رواق عصورها المثخنة بالحروب السياسية والصراعات الدينية ، بعد أن أدركت كم هي عقيمة وبلا جدوى تلك الأسباب والدواعي ، التي استنزفت طاقاتها وأهدرت ثرواتها والتهمت شعوبها وعطلت نهضتها ، بحيث أضحت بمثابة المعيار الكوني لأرخنة فكرة الدولة ولحظة تحققها . فان واقعة تجسيد الدولة في المجتمعات المستتبعة ، لم تبرح تشكل حدثا”إشكاليا”بامتياز يثير عنه وحوله الكثير من الجدل ، ليس بواقع أنها دولة عنينة وظيفيا”ومترهلة أمنيا”فحسب ، بل لكونها دخيلة على الواقع الوطني ومتطفلة على المجتمع المحلي . ذلك لأن (( مجتمعات العالم الثالث الغريبة عن الثقافة الأوروبية وتاليا”عن الصيغ التي كانت في أساس الدولة ، والمندمجة في نظام اقتصادي مراقب خصوصا”من الخارج ، والتي عرفت غالبا”هيمنة عسكرية واستعمارية ، قد شرعت في بناء الدولة بالمحاكاة أساسا”، وبتبن قسري تقريبا”لنماذج خارجية المنشأ ملبّسة اصطناعيا”على بنى اقتصادية واجتماعية وسياسية ، كانت تتطلب على الأرجح نوعا”آخر من التنظيم ))(5) . وبرغم كل ما أشيع عن تلك الدولة من نعوت ؛ (مدحية) باعتبارها باكورة حقبة الاستقلال السياسي ومؤشر على نهاية عصر الاستعمار ، أو (قدحية) من منطلق كونها صنيعة ذات الإدارة الاستعمارية ، وشكلت مدخلا”من طراز مموه لتقويض سيرورة المجتمع وتفكيك بناه وتقطيع أواصره . إلاّ أنها على العموم أرست دعائم واقعة لا مجال لإنكار حقيقتها أو طمس معالمها ألا وهي ؛ إن شتات المكونات السوسيولوجية ، وشعث المرجعيات الانثروبولوجية ، وشظايا الذاكرات التاريخية ، ما كان لها – بعيد فترة الاستقلال السياسي – أن تلتئم على مستوى خصوصياتها الجماعية ، وتتقارب على صعيد وعيها الجمعي ، للتعبير عن كيانها الوطني / السيادي والانخراط في العلاقات الإقليمية / الدولية ، لولا وجود مؤسسة الدولة – سمها ما شئت – بحيث شرعت بالتدريج تتلمس طبيعة شخصيتها الاجتماعية ، واستأنفت بالتجربة تتحسس طراز هويتها الوطنية . وهو الأمر الذي دفع بالفقيه الفرنسي (جورج بوردو) إلى الإقرار بأنه ((إذا ما فكرنا في ضرورة سلطة الدولة ، لا نستطيع أن نفسرها إلاّ بكون الدولة هي القدرة الوحيدة المؤهلة لضبط التنافس بين السلطات . إذا استطاعت صراعاتها أن تصل إلى ذروتها فأنها تدمر المجتمع ، وتحصل نفس النتيجة إذا توصلت إحداها إلى فرض الصمت على الأخريات ، إذ إن المجتمع يتقوقع حينئذ في جمود قاتل))(6) . واللافت إن (لوياثان) الدولة العراقية – حتى وان جرى تناوله بصيغة مفهومية مجردة – لم يلبث يثير حالات من الاحتراس كحد أدنى والرعب كحد أقصى ، لدى معظم أفراد المجتمع العراقي ، ليس فقط على مستوى شعورهم المدرك وما يمثله من تجارب قاسية وممارسات مؤلمة فحسب ، بل وعلى صعيد لا شعورهم الباطن وما يستدعيه من هواجس مقلقة ولواعج مكبوتة ، للحد الذي باتت معه تلك الحالة أشبه ما تكون بالوضعية السايكوباثية المزمنة . هذا على الرغم من كثرة تغني إنسان هذا البلد بأمجاد تاريخه الماضي ، واستمرار تفاخره بتفرد مواريثه العتيقة ، باعتباره سليل أول / أسبق المجتمعات البشرية ، التي أنشأت المدن وشرعت القوانين واستحدثت الدولة واخترعت الكتابة وأبدعت الحضارة ، لاسيما وان كل منجز من تلك المنجزات الفريدة والمبتكرة ، لا يمكن تصور حصوله وامكان تحققه دون غطاء الدولة وخارج عرين سلطتها . ولهذا فان ((تشكيل مركز الدولة – يكتب أحد المتخصصين (جارلس تيلي) – في إطار التاريخ الغربي ، قد تحقق بالارتباط مع انكفاء أجهزة المشاركة التقليدية ، ولاسيما على مستوى القرى والأقاليم ، وكرس أيضا”اختفاء عدد كبير من الأدوار الاجتماعية ، سواء كانت أدوار زعيم العشيرة أو أسياد القصور))(7) . ولما كانت الدولة تحتل كل هذا القدر من الأهمية ؛ لجهة ضبط التفاعلات وموازنة التناقضات ولجم التناحرات من جانب ، وجمعنة العلاقات وعقلنة التصورات وأنسنة التطلعات من جانب ثان . فلماذا يا ترى جلبت لنفسها الدولة العراقية كل هذا الاستعداء والكراهية من لدن أطراف المجتمع العراقي ، في الوقت الذي إن هذه الأخيرة هي بأمس الحاجة إلى من يحميها من عنف نزعاتها ، وينجيها من عدوانية عصبياتها ، ويجنبها من تعصب ذهنياتها ، ويربأ بها عن تطرف سلوكياتها ؟! . ولكي نصل إلى قناعة راسخة حيال حقيقة أن الدولة بالنسبة للمجتمع العراقي – خصوصا”في ظل هكذا نمط من الانعطافات التاريخية الحادة والفجائية – أمست تشكل بالنسبة لمجمل أطيافه ومكوناته خيارا”وحيدا”، وان يكن صعبا”، إلاّ انه مصيري لا بد من التسليم به والتعويل عليه. وباتت تتراءى أمامه كضرورة قصوى ، وان تكن قاسية ، إلاّ أنها تاريخية لا مناص من القبول بها والتعامل معها ، أما بخلاف ذلك فان كل الدلائل السياسية والمؤشرات الاجتماعية توحي باقتراب بوادر الانحطاط الحضاري ، وتنبئ بدنو مقدمات الفناء البنيوي . وكما لاحظ بذكاء المفكر العراقي فاضل الربيعي فقد (( لعب عنف الدولة الوطنية الحديثة في العراق ، واستطرادا”في الأدوار التي سبق ولعبتها الدولة العراقية القديمة ، دور المادة الصمغية اللاصقة للثقافات المحلية والطبقات والطوائف ؛ بل ولسائر التعبيرات والحساسيات الاجتماعية التي ترعرعت في العراق التاريخي والعراق الحديث ))(8) . وهكذا فنحن ملزمون باستخلاص بعضا”من سلبيات / عيوب الدولة العراقية ، التي وضعتها أمام مواجهة مستمرة وعداء دائم مع سائر المكونات الاجتماعية ، التي يفترض أنها جاءت كوسيلة قانونية وعقلانية ؛ لتأمين حقوقها وحفظ كرامتها وصيانة مصالحها والذود عن أمنها ، بحيث إن كل أزمة أو محنة تطال سلطتها وتنال من هيبتها ، ستغدو بمثابة دعوة مجانية للفوضى السياسية ، ونداء مسعور للتطاحن الاجتماعي . ولعل من أبرز تلك المثالب يمكن تشخيص داء (الشخصنة) العضال ، الذي لازم سيرورة الدولة العراقية منذ لحظة انبثاقها ولحد الآن ، والذي يبدو – من وجهة نظر علم السياسة – انه الثمن الذي ينبغي على المجتمع العراقي تحمله ، لقاء ظاهرة الاغتراب التي تعانيها دولته على صعيد نشأتها الملتبسة وانتمائها الإشكالي ، وتاليا”جراء القطيعة المستدامة في علاقاتها مع تكوينات المجتمع المفروض أنها تحكم قيادها بتجرد وتقود مسارها بموضوعية . ولأن الدولة في مثل هكذا حالة لا تستطيع أن تمارس سلطتها وتفرض هيبتها ، بدون حدّ أدنى من الشرعية الوطنية ، وقدر معقول من المشروعية المؤسسية ، فهي ملزمة بانتهاج أحد الخيارين وكلاهما مرّ ؛ إما الذهاب شوطا”بعيدا”في عملية الشخصنة ، لحد الوصول إلى حافات التأليه الشخصي للزعيم أو القائد ، وهنا لا مناص من تحول هذا الأخير إلى طاغية مطلق ، تمكن الفيلسوف المصري (إمام عبد الفتاح إمام) من رصد الكيفية التي تتم بموجبها هذه الاستحالة بالقول ((إن المجتمع الذي يرتبط فيه الشعب بالزعيم القائد الملهم بحبل سري ، يتنفس كلما تنفس شهيقا”وزفيرا”هو مجتمع يحكمه طاغية بغض النظر عما يفعل ! ، فليست العبرة بما قدمه الحاكم الملهم من أعمال مجيدة ، فقد يبني السدود ويقيم الجسور ، وينشئ المصانع ، لكنه في النهاية يقتل الإنسان ! ، يدوس كرامته وقيمه ووجوده كإنسان . انه يدمر (روح المواطن) – كما قال أرسطو – بحق لحيل المجتمع إلى مجموعة من النعاج تسهل قيادتها))(9) . وإما أن تضطر للجوء إلى ما يمكن تسميته (بدولنة) أدوارها و(مثلنة) وظائفها ، بحيث تتحول إلى دولة شمولية / توتاليتارية ، لا تحدد النشاطات وتقنن الفعاليات وتنمط الذهنيات فحسب ، بل وتمارس الرقابة وتفرض الهيمنة على كل صغيرة وكبيرة ؛ ابتداء بالرأي الشخصي للفرد وانتهاء بالموقف السياسي للجماعة . وهو الأمر الذي ألمحت إليه الخبيرة في هذا المجال (حنّه آرندت) حين توصلت إلى (( انه لفي طبيعة الأنظمة التوتاليتارية ذاتها أن تدّعي سلطة دون حدود . لذا فان سلطة قائمة على هذا النحو ، لا يمكن أن تضمن ديمومتها إلاّ إذا كان الناس ، بكل ما للكلمة من معنى ودون استثناء ، خاضعين وبصورة أكيدة ، في كل مظاهر حياتهم ))(10) . واستطرادا”مع هذه الوضعية المأزقية ، فالمتوقع أن تراوح الدولة المأزومة في إطار متذبذب من المزدوجات المبهمة – غالبا”ما تفضح حيرتها وتعري تخبطها – بين النزوع إلى (التبقرط) المؤسسي ، لا بالمعنى (الفيبري) المقرون بالعقلانية الوظيفية ، وإنما بالمغزى (الأمني) المجبول على ممارسة القمع السياسي والردع النفسي من جهة . في حين أنها تحاول ، من جهة أخرى ، أن تظهر حرصها على التمسك بمظاهر (الدمقرط) السلطوي ، لا على صعيد العلاقات الاجتماعية والسياسية ، وإنما على مستوى الخطابات الإيديولوجية والإعلامية ، مما يجعل منها أداة جبارة للتضليل الفكري والتجهيل السياسي ، بدلا”من كونها مؤسسة للتفاعل الاجتماعي والتواصل الثقافي ، هذا بالإضافة إلى إيحائها المستمر بشأن انصباب جهودها وانكباب مساعيها ، على نشدان فضائل التنوير الفكري والحداثة الحضارية ، وهو ما لم تفلح – والأحرى أنها لم تجرأ – هذه الدولة على تحقيقه لحد الآن . هذا من ناحية ، أما من الناحية الثانية ، فهي لأجل أن تتخطى هذه المفارقة وتتجاوز ذلك الإحراج ، مسوقة – تحت وطأة الاستغراق في التمذهب الإيديولوجي – لإسباغ مظاهر الطوبى على كل ما تتخيله من أهداف وكل ما تتوهمه من إنجازات ، دون أن تلاحظ – والحقيقة أنها لا تكترث – أنها تؤسس للفوضى وتمأسس للتفكك ، بواقع (( إن كل مذهب قابل للتحول إلى طوبى ، والطوبى في قضية الدولة هي الفوضوية ))(11) . وهكذا فقد تورطت الدولة العراقية في الكثير من المنازعات الداخلية والصراعات الخارجية ، لا بدافع الحرص على المصالح الوطنية ، بقدر ما كان بوازع التجاذبات الفئوية والاصطفافات الحزبية والتخندقات العصبوية . بحيث فرطت من حيث لا تدري بقضية الولاء لسيادتها والانتماء لهويتها والامتثال لسلطتها ، وبالتالي شرعت ، كتحصيل حاصل ، لشتى أنواع الانقسامات الاثنية ، والانشطارات الطائفية ، والتذررات القبلية ، والمسبقات الدينية ، والحساسيات المناطقية . ولهذا فان (( عجز الدولة – كما يجادل الباحث العراقي هشام داود – عن القيادة هو الذي حفز الأفراد على العودة إلى شرائح ما دون الدولة . وهذا ما يسميه (برتران بادي) الفضاءات الاجتماعية الفارغة ، أي المجالات الاجتماعية التي لا تطالها سلطة الدولة ))(12) . ولما كانت (فكرة) الدولة أسبق من (وجودها) كمؤسسة – كما يرى الفقيه (جورج بوردو) – فانه ليس من الحكمة المنطقية والإنصاف الأخلاقي ، إن نحملها أوزار من يتولى سلطتها ، وأخطاء من يمارس القيادة باسمها ، ورزايا من يفرض الواحدية بقوتها . لتغدو ، بالتالي ، صيحات إسقاط سلطانها وإضعاف مركزيتها وتقليص سيادتها ، كما لو أنها دعوات مغرية للثأر من استبداد(ها) ، وإيحاءات جذابة للانتقام من طغيان(ها) ووساوس معسولة للإجهاز على كيان(ها) ؟؟! . دون أن نضع في اعتبارنا حقيقة ، طالما أفضى إهمالها وتجاهلها إلى كوارث سياسية واجتماعية مروّعة ، مفادها ؛ انه في المجتمعات المتشظية والمتذررة وفقا”للأسس الاثنية / العنصرية ، والدينية / الطائفية ، والقبلية / العشائرية ، والمناطقية / الجهوية ، واللسانية / اللغوية . لا مناص من توقع إن غياب سلطة الدولة وانعدام قدرة مؤسساتها واضمحلال هيبة سيادتها ، سيؤدي حتما”ليس فقط إلى تصديع وحدة الرموز الوطنية ، وتقطيع أواصر الذاكرات التاريخية ، وتضييع روابط العلاقات الاجتماعية فحسب ، بل وتأجيج نوازع الهيمنة السياسية بين الجماعات المتخالفة ، وإثارة مطامع الاستئثار الاقتصادي بين الكيانات المتغايرة ، واستنفار دوافع الاستتياع الإيديولوجي بين التكتلات المتنابذة . من حيث انه (( لا توافق ولا توفيق بين الوجود المؤسسي للطوائف ووجود الدولة المركزية الواحدة . لا تعايش بين الوجودين ، فكل من الاثنين ينفي الآخر ، والعكس بالعكس . ذلك إن الشرط الأساسي لوجود الدولة كدولة مركزية ، تجد نموذجها الأمثل في الدولة البرجوازية ، هو ألا تكون طائفية . بانتفاء طابعها الطائفي هذا ، ينتفي ذلك الوجود المؤسسي للطوائف ، الذي هو ، بالدولة وحدها ، وجودها السياسي ، ولا أقول ، بالطبع ، وجودها الديني ))(13) . وفي ضوء معطيات الواقع العراقي الآخذ بالتردي والتقهقر ، ليس فقط على صعيد مضامير الأمن والسياسة والاقتصاد والخدمات فحسب ، وإنما على مستوى حقول التاريخ والجغرافيا والاجتماع والثقافة والهوية أيضا”، فان الرهان المصيري للشعب العراقي أضحى ، لا على جعل الدولة الوطنية مجرد واجهة بروتوكولية لأغراض الاتكيت الدبلوماسي ، كما تقتضي الأعراف والقوانين الدولية ، ولا حتى في استغلالها لتمارس دور الشريك المستغفل ، في تقطيع أوصال الكيان العراقي وتقسيم أشلائه كغنائم وأسلاب ، بقدر ما بات يتطلب – الآن قبل الغد – تقوية سلطتها لرأب الصدوع السياسية ، إذ ((في الدولة وبواسطتها تحل الخصومة بين جميع سلطات الأمر الواقع ))(14) ، هذا أولا”. وتعزيز هيبتها لرتق الشقوق الاجتماعية ، باعتبار إن ((مبدأ علم السياسة – كما أوضح هيجل – هو إن الحرية متيسرة فقط حيث يتمتع الشعب بوحدة قانونية داخل الدولة))(15) ، هذا ثانيا”. وتوسيع سيادتها لاستئصال النزعات العصبوية ، لاسيما وان ((الدولة – كما يرى دوركهايم – قد تحبط الجماعات الثانوية والعكس بالعكس ، بينما يتسع مدى حرية الأفراد وكرامتهم باتساع مجال عملها))(16) ، هذا ثالثا”. وترصين مؤسساتها لاحتواء الولاءات الجانبية ، من منطلق إن ((التعددية والمواطنة ليستا هدفا”بذاتهما ولذاتهما ، وانهنا على الضد من هذا تتلازمان بشكل وثيق كل من جانبها ، وإحداها مع الأخرى بوجود الدولة ، وان شرط وجود الدولة والحفاظ عليها هو شرط حاسم للحفاظ على المواطنة . كما أن التعددية تصبح عديمة القيمة وقد تصبح خطرا”مخيفا”، إذا ما اقترنت بتلاشي ومحو الدولة ))(17) . وهكذا تتوضح الأهمية الفائقة / القصوى ، لانضواء مكونات المجتمع العراقي المتنافرة تحت ظل دولة مركزية ، تستلهم معايير القانون الوضعي بدلا”من أعراف القبلية ، وتستوحي مبادئ المواطنة بدلا”من تقاليد الطائفة ، وتستدعي ثوابت الولاء للهوية الوطنية بدلا”من النعرات الفرعية ، وتشترط ضوابط الكفاءة والنزاهة بدلا”من علاقات الاستزلام والاستتباع . وأخيرا”فالدولة (( ذات جوهر مختلف عن جوهر الجماعة المغلقة أو القبيلة . وفي حين تنتج هذه الأخيرة عن اشتراك عفوي للأفراد ، تحتاج الدولة لكي تتكون أن يمارس كل واحد منا المراقبة على نفسه ، وان يفكر بمتطلبات النظام القانوني ، وان يفهم أخيرا”الدولة على أنها أداة لتحقيق مصيرنا الزمني . وبهذا المعنى ، تعتبر الدولة قبل كل شيء ، فعل الإرادة التي تتحرك بموجبها تطلعات وميول ولا مبالاة الفرد الذي يميل إلى الانسياق وراء غريزته الأنانية ))(18) . فهل وصلت الفكرة إلى بناة عراق ما قبل الدولة وما دون المجتمع ؟؟! .
الهوامش والمصادر
(1) مقتبس عن برتران بادي وبيار بيرنبوم ؛ سوسيولوجيا الدولة ، ترجمة جوزيف عبد الله وجورج أبي صالح ، (بيروت مركز الإنماء العربي ، د . ت ) ، ط /1 ، ص 14 .
(2) مارسيل غوشيه وبيار كلاستر ؛ أصل العنف والدولة ، ترجمة الدكتور علي حرب ، (بيروت ، دار الحداثة ، 1985 ) ، ص 147 و 148 .
(3) الدكتور عبد الله العروي ؛ مفهوم الدولة ، ( بيروت ، دار التنوير ، المركز الثقافي العربي ، 1983 ) ، ط/2 ، ص 114 .
(4) الدكتور برهان غليون ؛ المحنة العربية : الدولة ضد الأمة ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993 ) ، ص 301 .
(5) برتران بادي وبيار بيرنبوم ؛ سوسيولوجيا الدولة ، مصدر سابق ، ص 92 .
(6) جورج بوردو ؛ الدولة ، ترجمة الدكتور سليم حداد , (بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات / مجد ، 1985 ) ، ص 113 .
(7) أورده برتران بادي وبيار بيرنبوم ، سوسيولوجيا الدولة ، مصدر سابق ، ص 47 .
(8) الدكتور فاضل الربيعي ؛ العسل والدم : من عنف الدولة إلى دولة العنف ، ( دمشق ، دار الفرقد ، 2008 ) ، ص 10 .
(9) الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ؛ الطاغية : دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي ، سلسلة علم المعرفة / 183 ، ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1994 ) ، ط/2 ، ص 153 .
(10) حنه أرندت ؛ أسس التوتاليتارية ؛ ترجمة أنطوان أبو زيد ، سلسلة الفكر الغربي الحديث ، (بيروت ، دار
الساقي ، 1993 ) ، ص 235 .
(11) الدكتور عبد الله العروي ؛ مفهوم الدولة ، مصدر سابق ، ص 85 .
(12) الدكتور هشام داود ( المجتمع والسلطة في العراق المعاصر) ، ضمن كتاب ؛ المجتمع العراقي : حفريات
سوسيولوجية في الاثنيات والطوائف والطبقات ، تحرير مجموعة من الباحثين ( بيروت ، معهد الدراسات
الاستراتيجية ، 2006 ) ، ص 165 .
(13) الدكتور مهدي عامل ؛ في الدولة الطائفية ، ( بيروت ، دار الفارابي ، 2003) ، ط/3 ، ص 30 .
(14) جورج بوردو ، الدولة ، مصدر سابق ، ص 114 .
(15) أورده الدكتور عبد الله العروي ، مفهوم الدولة ، مصدر سابق 24 .
(16) مقتبس عن جورج بالاندييه ؛ الانثروبولوجيا السياسية ؛ ترجمة جورج أبي صالح ، (بيروت ، منشورات
مركز الإنماء القومي ، 1986 ) ، ص 103 .
(17) الدكتور فاضل الربيعي ؛ العسل والدم ، مصدر سابق ، ص 24 .
(18) جورج بوردو ؛ الدولة ، مصدر سابق ، ص 52 .
(*) المولوخ ، كما تفيد التوراة ، اله الأشرار أو الخبثاء ، اله الكنعانيين ، والعمونيين ، الوثن الذي يذبح على
مذبحة البشر . المولوخ ، كما تعرفه قواميسنا هو ( القوة التي تطلب القرابين في نهم لا يرتوي ، قرابين
جددا”دائما”، والتي تعمل على التهام كل شيء ) . للمزيد حول هذا المصطلح ، راجع كارلهاينتس دشنر ؛
المولوخ : اله الشر : تاريخ الولايات المتحدة ، ترجمة محمد جديد ، ( دمشق ، دار قدمس ، 2003 ) ص33
وما بعدها .