18 ديسمبر، 2024 9:04 م

المثقف والسلطة، وحقل المعنى

المثقف والسلطة، وحقل المعنى

لا أحسب أن المثقف العراقي قد شعر بالعجز واللافاعلية طوال العقود العشرة الأخيرة، أو منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، مثلما يشعر الآن.. إنه مشوّش، قلق، محبط، تربكه التساؤلات، ولا يمتلك الإجابات المقنعة والشافية عمّا يدور في بلاده.. ساخط، سخطه ينصب على عجزه مثلما ينصب على العالم من حوله. وقد يصح أن نطلق على هذا الجيل من المثقفين ( جيل خيبة الأمل، وانهيار الأحلام! ).
   من هنا يطل علينا سؤال منطقي برأسه؛ أين يكمن الخلل؟ أهو في طبيعة النخب الثقافية نفسها، وبنيتها الذهنية، وتكويناتها المؤسساتية؟ أم في أشكال السلطات القائمة ومستوياتها وتركيباتها، وحواضنها الإيديولوجية والاجتماعية؟. أم هو في المجتمع الأوسع بتناقضاته ومشكلاته وتعقيداته حيث يفشل المثقفون في فهمه وتمثّله؟. أم في هذا كله، وفي مكان آخر؟.
   لم يكن الحقل الثقافي في أي يوم حكراً على من نطلق عليهم تسمية “المثقفين”، أولئك المنشغلين بقضايا المعنى والإبداع والجمال، والداعين لمشروع ثقافي تنويري. والصحيح أن هذا الحقل، لاسيما في بلداننا العربية والإسلامية، كان على الدوام مفتوح الحدود ومخترقاً ومحتلاً غالباً، ولم يكن للمثقفين بالتوصيف الذي ذكرناه سوى مساحة محدودة هامشية في زاوية ضيقة منه.. وهذا يقودنا إلى حقيقة العلاقة الإشكالية بين السلطة بأشكالها، والمثقفين بوصفهم فاعلين اجتماعيين فكريين. تلك العلاقة التي تتجلى في الصراع على تمثيل المعنى.. فالثقافة هي حقل اكتشاف وصياغة المعنى، والمثقف هو من ينشغل بوظائف هذا الحقل والذي فيه تتحدد المفاهيم والرؤى والقناعات، ويتبلور الرأي العام، ووجهات النظر، وتتخلق الذائقة الجمالية والحس الفني، ويجري حوار ( والأدق صراع ) العقول، والتنازع حول امتلاك وتأويل ( استثمار ) رأس المال الرمزي والاجتماعي. ولأن السلطة بأشكالها ( السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية ) متعالقة بالمعرفة ومنتجة لها ( في الغالب هي عمليات إعادة إنتاج وتكييف وتفسير على وفق مقتضيات المصالح والأهواء ) فإن المثقفين في بلداننا يجدون أنفسهم شبه عاجزين، ومقصيين، أو مدمجين في البعد الواحد للسلطة والمجتمع مثلما كرّستها مجموعة الظروف التاريخية المتقلِّبة، الموروثة والقاهرة، إلى الحد الذي يبدو معه المثقف مغترباً في حقله.
   وإذا حصرنا القضية الثقافية، الآن، في مسألة تشكيل رؤية الأفراد إلى أنفسهم ووجودهم ومستقبل بلدهم، وإلى العالم، فأعتقد أن مساهمة المثقفين ( المفكرين والمبدعين من الكتّاب والفنانين والإعلاميين التنويريين ) ضئيلة وبائسة، في هذا المضمار، قياساً إلى مساهمة السياسيين، والإعلاميين الديماغوجيين، وأصحاب العقائد المتورمة والجامدة، ومن يمنحون أنفسهم حق حراسة المقدّس وتمثيله، إلى جانب أبطال مجتمع الاستهلاك البرّاق من نجوم الدراما التلفزيونية والسينما والرياضة، الخ.. بعبارة أدق؛ إن من يشكِّل الوعي واللاوعي الجمعيين والرأي العام والقناعات والذائقة الفنية والجمالية، في أحايين كثيرة، ليس هم المثقفون التنويريون بل تلك الفئات الأشد رجعية وسطحية وانفعالية وديماغوجية وتخلفاً وقصر نظر. أو تلك الجهات ( الداخلية منها والخارجية ) التي لها أجنداتها الذكية الخاصة، والتي تسيطر على قنوات اتصال ثقافية وإعلامية ومدنية متطورة، وذات تأثير عالٍ. 
   قلنا أن المثقفين التنويرين في بلادنا لا يشغلون سوى مساحة ضيقة وهامشية من الحقل الثقافي الذي يدور فيه الصراع حول المعنى. وغالباً ما يعلو أصوات المثقفين بالشكوى من حالة تهمشيهم.. نعم، هم مهمشون، ولكن أليسوا هم أنفسهم، من يتحملون جزءاً من مسؤولية تهميشهم؟. إن التحدي الذي يواجههم يتلخص في الكيفية التي يستطيعون بها أن يوسِّعوا من تلك المساحة عبر ممارسات ثقافية منتجة ومؤثرة تستند إلى إستراتيجية فعالة وقابلة للتطبيق. وكل حالة توسّع ناجحة إذا ما تحققت تعد بمثابة تحرير لجزء مما يُفترض أنه أرضهم ومملكتهم.
    وحين أشير إلى عزلة المثقفين واغترابهم.. لا أتحدث فقط عن عزلة اجتماعية بل قبل ذلك عن انعزالهم عن حقلهم أولاً.. إنهم مغتربون فيما كان يجب أن يكون مملكتهم وساحة لعبهم. وأرى ان ما أخفق فيه المثقفون ليس في إيجاد خطاب ثقافي، ذي شحنة سياسية، مؤثر في الحقل الاجتماعي، فقط. بل افتقادهم إلى وسائل الاتصال مع الناس، والكيفية التي يصلون بها إلى الشارع والتعرف على نبضه وهمومه، والحوار مع المجتمع. وهذا يقودنا إلى لب المشكلة.. فنحن نعيش في ظرف يتطلب مساهمة المثقفين عبر وسائل الاتصال المتاحة في التأثير في الواقع والرأي العام من أجل أن يمارسوا سلطتهم. والمثقفون حين يتحولون إلى جزر معزولة تقل فاعليتهم، وهم بهذا بحاجة إلى مأسسة نشاطهم.. وبطبيعة الحال لن يكون ثمة مشروع ثقافي عراقي حقيقي إن بقي المثقفون ذواتاً معزولة بعضها عن بعض، مأزومة ونرجسية تضيق ذرعاً بالنقد، ولا تنتظر سوى المديح المجاني من الآخرين على منجزات تكون، أحياناً، شاحبة، لا قيمة إبداعية ومعرفية حقيقية لها.
   إن ما حصل طوال السنوات العشر الماضية، في العراق، على صعيد الثقافة، هو أن كثراً من المثقفين خاضوا معارك خارج منطقتهم، في أرض ليست لهم، وبوسائل يجهلون آلياتها، ومن غير إستراتيجية تقود مسعاهم. ولعلهم استدرجوا إلى مثل تلك المعارك، ليخسروا الجهد والوقت، وأحياناً السمعة، حتى بدا وكأن لا همّ لهم سوى معاداة السلطة، أو التنازع على كراسي الحكم. في الوقت الذي يجب ألا ينصب نقد المثقفين على الممارسات السياسية فحسب بل، وقبل ذلك، على الموجِّهات الإيديولوجية لتلك الممارسات والمناخ السياسي والاجتماعي الذي يوفر لها شروط إعادة إنتاجها واستمراريتها، مع فضح تلك الآليات والممنوعات والممتنعات والإكراهات التي تحول دون خلق مجتمع عصري منتج وفعال ومشارك في مسيرة التقدم والإبداع الإنسانيين. مع التأكيد أن ما ينبغي أن ينقده المثقف يقع، غالباً، في المنطقة المحظورة الملغومة والخطرة، هناك حيث يُعاد إنتاج معرفة مقنّعة بالموروث أو المقدّس.. معرفة هي غطاء كثيف لمصالح مؤسسات وفئات اجتماعية صنعت مكانتها عبر مدة طويلة من الزمن، وبقيت تحتكر التفسير والتأويل، وترسم أنطقة المحرّم.
*   *   *
   أجرؤ على القول أن المثقفين العراقيين الساخطين لا يمتلكون الحلول، وأحياناً لا يطرحون الأسئلة الصحيحة. وفي هذا الزمن الصعب ليس من حق المثقف أن يقول انه ليس معنياً بالأجوبة، ما عليه سوى أن يطرح الأسئلة.. لسنا في بلاد مستقرة لننعم بمثل هذا البطر.. والأدهى أن المثقفين لا يمتلكون حتى مشروعاً ثقافياً وطنياً واضحاً ذا صبغة عصرية حداثية..
   ثمة فرق بين الإنتاج الفكري والإبداعي وبين الخطاب والمشروع الثقافيين. ولم يكن المثقفون العراقيون المنتجون للثقافة مقصِّرين من ناحية الإنتاج المعرفي، الفكري، والإبداعي.. فعلى الرغم من الظروف الصعبة والمحبطة بقي النشاط الإنتاجي ذاك ينمو بنسب معقولة. لاسيما في مجالات النشر والإبداع الفني على الرغم من محدودية وتخلف البنى التحتية التي تساعد في هذا الإنتاج والترويج له وتوزيعه وتداوله. وأحياناً كان هناك نوع من الإفراط في الإنتاج أيضاً؛ ( الروايات مثالاً ). غير أن تداول ( المنتج الثقافي العراقي ) بقي مقتصراً على أوساط المثقفين أنفسهم.. ولم يكن هناك مشروع مؤسساتي ثقافي واضح، فيما بقي جانب كبير من الخطاب الثقافي متصنِّعاً، نخبوياً، استعلائياً، طناناً، وغير مفهوم من قبل غالبية أفراد المجتمع.
   أعتقد أن مهمة المثقفين، ومسؤوليتهم الوطنية والأخلاقية، في هذه الفاصلة الحرجة من التاريخ الوطني، تتحدد في إنشاء خطاب ثقافي واضح يؤصل مفهوم الدولة الوطنية المدنية الحديثة بعدما أشاع كثر من السياسيين ( الطارئين ) منظوراً للدولة يعود للقرون الوسطى، حيث الدولة من وجهة نظرهم، غنيمة تتقاتل من أجل الاستحواذ عليها واحتكار إدارتها وثرواتها الجماعات والطوائف والأحزاب المؤطرة أساساً والمتصارعة على وفق أعراف ومعايير القرون الوسطى.. وإن أخطر خطيئة يمكن أن يقع فيها المثقف، هو أن يكون تسويغياً؛ يسوِّغ الممارسات السياسية بدعوى أن لا بديل لها، وأنها أفضل الممكن. ويسوِّغ القناعات والممارسات الاجتماعية الضارة، بحجة أنها من الموروث أو المقدّس، أو المتعارف عليه. وتكون الخطيئة أكبر إذا ما كان مقصدها انتهازياً يبغي مصلحة شخصية.
   ولكي يكون المشروع الثقافي في العراق حقيقياً وجزءاً، أو مفصلاً أساسياً، من مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة فإن أول ما يجب أن يفكر فيه المثقفون هو مأسسة فعالياتهم الثقافية. أي تكوين مؤسسات توفر فضاءً للتواصل والتحاور فيما بينهم إلى جانب قنوات للتواصل والتحاور مع فئات المجتمع الأخرى.
   أما فحوى الخطاب الثقافي التنويري فلابد من أن ينصب، فضلاً عن تأصيل مفاهيم الدولة والمواطنة وثقافة التسامح والسلام والتعددية والتنوع، على نبذ ثقافة العنف بأشكاله ( الرمزي، والاجتماعي والسياسي ). وأيضاً على تحليل ومناقشة وتقويم أشكال السلطة وطبيعتها وحدودها وآليات إداراتها، ونمط العلاقات السوسيوسياسية بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، وكيفية تنمية الثروة وتوزيعها. وتكريس الرؤية العلمية والمنهجية والموضوعية، في موازاة فكفكة الرؤية السحرية والخرافية إلى العالم.
[email protected]