23 ديسمبر، 2024 6:06 ص

المثقف وأعراض مرض العصر

المثقف وأعراض مرض العصر

لا يركن المثقف العراقي، التغيير الذي ينشده، بالنزول في الميدان، بل في الخطاب التنظيري عبر الكتاب ووسيلة الإعلام، وقد هُمّشت هذه أيضا في سلّم وسائله، لصالح التواصل الاجتماعي حيث التغريد والتدوين، ليترنّح فكريا بكتابة التدوينات والمناكفات والإسقاطات التنظيرية التسطيحية، الأمر الذي يجعله يتوهم بانه سوف يغيّر العالم، لما تلقى ملاحظاته من حفاوة، لدى أصدقاء التواصل.

على هذا النحو يستشعر المثقف، بانه سوف يؤثّر في المجتمع، فيما الواقع تحركه قوى اجتماعية واقتصادية ودينية، لا قِبل له عليها بعد أن انفصل المتعلمون عن نسيجهم الاجتماعي والطبقي.

..

مرض العصر هو التنظير، الذي أصاب النخب العربية المثقفة، والتي جهدت لتشخيص أسقام المجتمع من خلف “الكي بورد”، من

دون خبرة ميدانية وأدوات مختبرية، تنزل بها إلى الواقع، وقد آلت كتب التحليل والرواية إلى تلال من ورق. وفي العراق بصورة خاصة، استعمرت الكتب، رفوف المكتبات وأرصفة الشوارع، من دون ان تساهم في تغيير السائد، وتعطيل الجهل، وتحسين أداء الفرد الاجتماعي والاقتصادي، بل ومن دون أن تساهم في التنوير الثقافي.

وأحد أسباب ذلك، ان المثقف العراقي، يضَع العَرَبةَ أمام الحصان، ولا يجيد دور المهندس للرأي العام المنغمس في تحليل ظواهر المجتمع وتحولاته الفكرية، متعاليا عن الخطاب الشعبوي الذي يجذب الجماهير، وكان الحريّ به، تطبيق قاعدة “حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ”، كما قال الإمام علي، لكن الذي يحدث هو عدم الانسجام مع الموروث الشعبي، والتاريخي، ما جعل النخبوي عاجزا عن القوة الاسقاطية للفكرة على التطبيق.

بل قل العكس، ففي المدينة العراقية، أصبح النفوذ للأميّ بدل المتعلّم، والترييف ساد على التمدن، والخرافة غلبت العلم، وحتى في المجال الديني، اصبح الفرد الأمّي المتدين، هو القائد، فيما انزوى الأمي المتعلّم خلفه، وعلى ذلك شواهد كثيرة.

لا يلمس المراقب أية دلالات واقعية على دور النخب المتعلمة والمثقفة في خارطة الحياة اليومية، فعلى افتراض ان العراق خرج على مدى عقود الآلاف من الفنانين من الأكاديميات الجميلة، فان لا جمالية رسمها هؤلاء في مدن البلاد، يمكن رصدها في الساحات، وواجهات البنايات، ومداخل المدن.

وتخرّج من جامعات العراق منذ تأسيس الدولة العراقية، الآلاف من الأدباء والكتّاب، وأصحاب القلم والفكر والفلسفة، لكنهم لم يخترقوا النظام الاجتماعي ويتركوا بصماتهم الثورية عليه.

العقلية الجمعية العراقية بشكل عام، باتت على قدر واضح من التخلف وعدم القدرة على التماهي مع تطورات العصر، فضلا عن انتشار الأمية اكثر من ذي قبل، على رغم الآلاف من المدرسين والمعلمين الذين خرجتهم الجامعات.

وزِد على ذلك، أن الدولة العراقية أتاحت المجال لتخريج الآلاف من المهندسين الزراعيين، فيما أراضي البلاد تزداد ملوحة، والزراعة تضمحل، ووسائل الزراعة الحديثة، لا تكاد تتوفر.

وأكثر من ذلك، ان المعاهد الدينية، الرسمية وغير الرسمية، خرّجت الآلاف من رجالات الفلسفة والفقه، فيما الخطاب الديني الشعبي لايزال يقوده غير المتعلمين، وقد آل الآمر الى فعاليات ارتجالية أثارت انتقاد حتى المرجعيات الدينية.

ولا نتحدث، عن دور الأدب والفن في المجتمع، الذي فشل في فرض ذائقة جمالية جمعية على المجتمع، وانزوى خلف فعاليات نخبوية محصورة في المكان والشخوص، ليس لها من تأثير اجتماعي على الإطلاق، ودليل ذلك ان الشعر الشعبي المتدني في الاسلوب والموضوعة، هو السائد.

اطرح هذه الأسئلة، لأننا في مفترق طريق تاريخي، نضرب فيه أخماسا في أسداس، بين أن يبقى الانفصام واضح بين التنظير والمؤسسة التعليمية، وبين الواقع، معّرضين أنفسنا إلى تهديد وجودي هوياتي، وبين ان نقف على أسباب التخلف وعدم القدرة على النهوض بالمجتمع باستخدام أدوات المعرفة والعلم ومهارات المهنية التي نعتقد إننا نمتلكها.

لقد بات من غير الممكن ان ندع المجتمع يسير على هدي الأميين، والطارئين الذي جاء بهم الفراغ الذي أوجدته النخب بانزوائها

وأنانيتها وترفّعها عن المجتمع.