5 نوفمبر، 2024 12:25 م
Search
Close this search box.

المثقف العراقي في جلباب السياسة

المثقف العراقي في جلباب السياسة

لانكاد نقرأ مرجع من مراجع الثقافة أو نطالع مصدر من مصادرالمعرفة ، حتى نلمس ان هناك شبه اجماع على  وجود لازمة معيارية ، لا تفتأ تتسيد في مضمار النص وتتربع على عرش الخطاب ، تنطوي – تلميحا”أو تصريحا”- على حكم تقييمي مسبق ، يلزم وعي القارئ على قبول بديهية تصورية مفادها ؛ ان المظنون بالمثقف أن يكون بارومتر فائق الحساسية يؤشر لاتجاهات حراك المجتمع الذي ينتمي اليه ، ويشير لانماط التفاعلات الصاخبة بين مكوناته ، فضلا”عن كونه بمثابة عنصر رصد دائم التيقظ وشديد الانتباه ، لتشخيص مكامن العلل وتأشير مصادر الاختلالات . ولهذا فقد أناط اليه المفكر العربي (عبد الاله بلقزيز) مهمة ((الدفاع عن الفكرة العقلانية في الوعي والاجتماع ، وعن الحرية والتسامح في السلوك الفردي والاجتماعي ، وعن النهضة كأختيار حضاري للأمة ، وعن العلم كسلاح لا غنى عنه للتقدم )) . وخلافا”لمألوف ما تواضع عليه العرف الثقافي ، فقد اعتاد المثقف العراقي على الظهور بهيئة (ملاك طاهر) حين يكون خارج معطف السياسة وبعيدا”عن حضانتها ، ولكنه لا يلبث أن يتحول الى (شيطان ماكر) حين يرتدي جلبابها ويندس بين ثناياها . كما وأنه يجيد دور الضحية البريئة عندما يكون بمنأى عن حرم السلطة وبلاط السلطان ، ولكنه سرعان ما ينقلب الى جلاد قاس لحظة دخوله رواق الأولى ويغدو من ندماء الثاني . بعبارة مختصرة ؛ ان المثقف العراقي ما أن يتسلطن في مرابع السياسة – سواء أكان ضمن طوائف النظام أو قبائل المعارضة – بعدما كان منبوذا”يعاني التهميش والاقصاء ، ويمسك بين يديه صولجان السلطة – لا فرق هنا بين أنواع السلط التي يتقلدها – بعدما كان هدفا لطغيانها ودريئة لتنكيلها ، حتى يستحيل الى أي شيء يمكنك تصوره / تخيله ، باستثناء أن يكون مثقفا”. اذ ان بوصلة مصالحه المتقلبة وبندول مواقفه المتذبذبة ، قمينة بأن تحيله الى (كائن صلصالي) يمتاز بطابع المرونة في المبادئ والمطاوعة في القيم ، للحد الذي يتيح لمن يروم استثمار دوره الطليعي واستغلال وظيفته العضوية ، تشكيل شخصيته كيفما يريد وقولبة تفكيره حسبما يشتهي . ولعل المشكلة لا تكمن فقط بحيازته قصب السّبق لهذه الخاصية السلبية على أقرانه من مثقفي بعض البلدان المجاورة ، ولا حتى امعانه بها واسرفه فيها ، بقدر ما أضحت مظاهرها في المجتمع العراقي تتخذ أبعادا”خطيرة ، ليس من مصلحة أحد أن يجري التعتيم عليها أو التهوين من شأنها ، بحجة أن العراقيين يجتازون الآن مرحلة انتقالية ملتبسة ، لا مناص من قبول بعض التضحيات وتقديم بعض التنازلات ، بحيث تزيغ الأبصار وتشوش الأفكار وتترجرج المواقف . وعلى ما يبدو فأن عقود القمع السياسي والانسحاق الاجتماعي والحرمان الاقتصادي والتخلف الثقافي والاذلال النفسي ، أجبرت الانسان العراقي على العيش في كنفها والترعرع بين أجوائها ، بحيث لم تلزمه فقط بالتطبّع على صفات / رذائل – وان بدت موازية لقيمه ومحايثة لواقعه ، الا انها لا تعدم أن تبقى رابضة في حالة كمون ضمن ثنايا عقله الباطن – علّها تقيه من شرّ السلطة وتحميه من بطش السلطان فحسب ، بل وأورثته جملة من الرواسب والعقد التي ما فتأت تستوطن كيانه وتهيمن على تفكيره ، بحيث ما أن يندثر الوازع الذاتي / العرفي لديه ويتلاشى المانع الاجتماعي / الوضعي عليه ، حتى تفيق (= الصفات / الرذائل) من سباتها وتشرأب من مكامنها لتؤطر سلوكه وتنمط وعيه . ولهذا فليس هناك كالمثقف العراقي في سخائه بأطلاق الوعود وفبركة الادعاءات ، طالما انه لا يغامر بتخطي ضفاف السياسة ، ولا يجرؤ على الاقتراب من عرين السلطة ، وهو الأمر الذي يظهره بأشد حالات النقاء الاخلاقي والصفاء الفكري والتعاطف الانساني . بيد انه ما أن تتغير الأحوال وتتبدل الظروف ، بحيث ينخرط في لعبة السياسة ويلج الى معترك السلطة ، حتى يشرع بفسخ عقده الاجتماعي ونسخ موقفه الوطني ، واعلان طلاقه مع كل ما كان ينتمي اليه من خلفيات ومرجعيات ، واسدال الستار على كل ما كان يربطه بالماضي من علاقات والتزامات . وهو ما باتت تدلل عليه حقيقة أن الاعتبار الاجتماعي الذي ما برح يحظى به ويمتح منه  لم ينشأ على خلفية مناقبيات اجتماعية مارسها ، أو مواقف وطنية تبناها ، أو مبادرات ابداعية اجترحها ، وانما بواقع تدني مستويات الوعي الفردي وركاكة أنساق المعرفة الاجتماعية ، وانحطاط بنى الثقافة الانسانية ، التي كان يعول عليها ، ليس فقط تسليح المواطن / القارئ بعدة نقد الخطابات السياسية ، وتفكيك النصوص الايديولوجية ، وتعرية الخلفيات الرمزية فحسب ، بل وتمنحه حق مقاضاة كل من يتلاعب بعواطفه ويتاجر بقضاياه ويساوم بمصالحه . ومن جملة مفارقات المثقف العراقي انه حين يكون مستبعدا”عن بهارج السياسة ومحجوبا”عن أضواء السلطة ، ليس له قرين أو شبيه لا في كشف العيوب الاجتماعية وفضح الانحرافات السياسية فحسب ، بل وفي دقة التحليل للقضايا وصرامة النقد للطروحات . ولكن ما أن تغريه مغانم السياسة وتغويه لذة السلطة حتى ينقلب على عقبيه مرتدا”الى مرابض جاهليته الأولى ، لدرجة انه يصعب معه ايجاد تفسير منطقي لمظاهر نكوصه وحالات تقهقره ، لا في مجال تخليه عن حماسته المعهودة في مقارعة الاستبداد ومناهضة الفساد ، فضلا”عن تنصله من التزاماته الأدبية حيال الثوابت الوطنية العليا فحسب ، بل واستسلامه اللامشروط أمام مظاهر التعجرف والتكبر والانانية ، بعدما كانت سجايا البساطة والتواضع والغيرية هي ما يمتاز ويتميّز به عن عامة الناس فضلا”عن خاصتهم ، على خلفية ما كان ينوء به من هموم انسانية ويرهص به من أفكار عقلانية . ولأن رجل السياسة مجبول على انتهاج سبل المساومات والانهماك بعقد الصفقات ،
فان اللغة التي يساق لاستخدامها في تعامله مع الآخرين غالبا”ما تكون مفرداتها عارية من حيث القيمة الجمالية ، ومباشرة من حيث المصلحة السياسية ، ومحددة من حيث الدلالة الاجتماعية . مما يستتبع أن تكون الغايات التي يستهدفها واضحة والأهداف التي ينشدها معلومة ، بحيث تترك للآخر/ الغير هامش من الحركة النسبية ليمارس ذات اللعبة التي يزاولها خصمه ، ولكن بشروطه الخاصة وأسلوبه المختلف . وخلافا”لذلك نجد ان داعية الثقافة / المثقف المسيّس ، عادة ما يعمد – لاخفاء ملابسات تورطه في المشاريع السياسية وطمس معالم انزلاقه في الصراعات الحزبية – الى أساليب التزويق البياني والزخرف اللفظي ، ليس فقط لاظهار رصيده المعرفي والابهار بفاعلية جهازه المفاهيمي فحسب ، وانما لابهام مواقفه وتعتيم دوافعه وايهام قرائه وتضليل مريديه . ولذلك فقد أعتبر الفيلسوف الفرنسي  (ريمون رويّه) ان (( ديماغوجي السياسة ليبدون شرفاء اذا ما قيسوا بديماغوجي الفكر: ان أولئك يخدعون الآخرين ويضللونهم بغية الاستيلاء على السلطة ، في حين ان ديماغوجي الفكر يكتفون – بالتخريب وبالاذى – طلبا”للشهرة وذيوع الصيت )) . ونحن اذ نعيب على المثقف العراقي انغماسه المفرط في المماحكات السياسية واندلاقه الزائد عن الحدّ نحو ما يعتقد انه منجم ثرائه المادي ومعين نفوذه الاعتباري ، فاننا ، بالمقابل ، لا نريد له ان يترهب في صوامع الثقافة ويتبتل في محراب الفكر ويختار ، من ثم ، حياة الانعزال والانزواء عما يمور في رحم المجتمع من تناقضات اجتماعية وصراعات سياسية ، فتلك- على أية حال – مهمة لا تليق به كمواطن ولا تشرف تاريخه كفاعل اجتماعي . فاذا كان هناك من دين ينبغي على المثقف – أي مثقف – ايفائه لمن هو صاحب الفضل عليه ، فان المجتمع الذي ينتمي اليه ويتغذى على قيمه ويرتشف رحيق أفكاره ويحمل وشم هويته ، أحق أن يمنحه جهده المعرفي دون اسفاف ويمحضه ولائه السياسي دون ديماغوجية .      

[email protected]  

أحدث المقالات

أحدث المقالات