18 ديسمبر، 2024 10:14 م

المثاقفة النبيلة

المثاقفة النبيلة

إذا كان بعض العاجزين فكرا ً أو فعلا ً لا يرتاحون إلى المثاقفة ، وإذا كان بعض الإنتهازيين تجار الشعارات الإنفعالية يرفضون منطق المثاقفة رفضا إنفعاليا جاهلا أو حتى رفضا منافقا في أحيان ؛ فإن الحقيقة التي تقف ضدهم إلى جانب الحكمة السامية والثقافة الرفيعة والحياة الكريمة هي أن المثاقفة ضرورة حياتية تقتضيها المعرفة الحقيقية والحكمة النافعة والحياة الغنية الممتلئة . بل إن الله أحكم الحاكمين يدعوا إلى المثاقفة النبيلة الشريفة الخيرة . يقول تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمك عند الله أتقاكم ) . وإن الأنبياء يدعون إلى المثاقفة الحقيقية النافعة : يقول الرسول محمد عليه الصلاة والسلام : ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ) ومما ورد عن المسيح عليه السلام : ( الحقيقة تحرركم ) .
إن موجودات الوجود ليست حكرا على أحد . بل هي ملك لله أولا ثم للبشر جميعا بتمليك مالك الملك. والثقافة الشريفة النافعة ليست ملك أحد من الناس . إنها ملك لله أولا ، ثم ملك من يستوعبها ويمتلكها ويستفيد منها من البشر العقلاء . وبعيدا عن الأوهام والإنفعالات الركيكة ، فإن الإستيراد الرشيد لما هو حقيقي وخير ونافع خير من التصدير السفيه لما هو وهمي وباطل وشر وضار . الغرب ربح التكنولوجيا والفوضى التي تفرض نظامها الباهر المغري بالعنف والكذب والخداع والغدر ، مقابل خسارة الحق والخير والجمــــــــــــال ، وخسارة الحياة والإنسان كنتيجة حتمية .
المثاقفة تعني فيما تعنيه ( ببراءتها الأصلية ) : الرغبة في التأثير والتأثر النافع الشريف . و تعني استلهام الحقائق والأفكار والرؤى والإنجازات التى اكتشفها وأبدعها الآخرون ولو كانوا أعداء وخصوما . والإستفادة منها ومزجها بما عند الذات من حقائق وأفكار ورؤى وإنجازات . وتوظيف جميعها من أجل بناء نظام ثقافي محكم مؤسس على الثوابت الحقيقية ، لا على ما يسمى ثوابت ، وعلى الهوية الحقيقية التي تميز الإنسان الحقيقي كما أراده الله عن غيره . نظام يستمد قوته من قوة تلك الثوابث ، ومن امتياز تلك الهوية الممتازة امتياز الحق عن الباطل والخير عن الشر والجمال عن القبح .
إن ثنائية ( نحن والآخر ) ، التي هي أحد موانع أو معوقات المثاقفة الصحيحة النافعة , هي ثنائية وهمية لا وجود حقيقيا له ، باعتبار أكثر مظاهرها الواقعية النفسية والإجتماعية والسياسية وغيرها في تفاعلها أو استقلالها . فكما أن الذات تدخل في صناعته وتجليه الواقعي الإجتماعي أوهام غالبا ، فكذلك (وبالأحرى ) أن الآخر ومظاهره تصنعه وتصنعها أوهام كذلك .. فالمثاقفة الحرة الشريفة النبيلة الإنسانية الحقيقية ينبغي أن تنطلق ، من هذه الحقيقة النبيلة : أن ما عند الآخر من ( حق وخير وجمال ) ، أو أشكال ومظاهر وتجليات وواقعات هذا الثالوث الحسن ، هي أمنية الذات ومطلبها واحتياجها وشرفها ، وأن ما عند الذات من (باطل وشر وقبح ) أو أشكال ومظاهر وتجليات وواقعات هذا الثالوث السيء هي شر وضرر وعار ، يجعل (الذات لذاته ) عدوا ونقمة وسبة . وهذا ما يجعل الآخر في الحقيقة ، صديقا ووليا وحبيبا ، وخيرا للذات من الذات . كل ذلك بعيدا عن الأوهام التي تعيش علينا ونعيش عليها .
وليس من الحكمة سد باب المثاقفة بدعوى الرد على الغزو الثقافي .. بل أكثر من ذلك : أن سد باب المثاقفة بهذا الشكل الساذج الركيك الإنفعالي ، هو في الحقيقة شكل من أشكال الإستسلام للغزو الثقافي وترسيخ له وإنجاح .. لكن بشرط ان تكون المثاقفة حكيمة واعية رشيدة . لا تستنسخ إستنساخا أعمى أو أحمق . وإن كان ليس كل استنساخ – في الحقيقة – استنساخا أعمى أو أحمق كما توحي السمعة غير المرغوبة لهذه الكلمة – أعني الإستنساخ – في هذا الواقع المعرض دائما للخلط والتخليط .
وبسبب استيلاء النقص على البشر , فإن المثافقة الحكيمة هي سعي إلى تحقيق الكمال الإنساني بالتأثير والتأثر . على أن يكون الهم وتكون النية دائما تغليب الصواب على الخطأ ، وتغليب الأصوب على الصواب . فكل ثقافة تتضمن حسنات وسيئات . فإذا كانت سيئات ثقافة ما ضارة حتى بأصحابها ، فإن حسنات ثقافة أخرى ولو كانت ثقافة عدو ، هي نافعة وضرورية للجميع . على أن يكون المقياس دائما نظاما ومنهجا مزيجا من الحق المنقول المتمثل في الوحي ، والحق المعقول المتمثل في العقل الإنساني السليم ، حيث الوحي يوجه العقل والعقل يكشف الوحي ..
المثاقفة مثاقفتان : مثاقفة إنسانية حسنة ومثاقفة شيطانية سيئة . المثاقفة الإنسانية تعني أن ننظر إلى ما عند الغير ولو كان عدواً ( أو صنعناه عدوا بعجزنا عن كسبه وإدارته بالحكمة والإحسان والتسامح ) من صواب ونافع على أنه ملكنا وحقنا نحن أيضا وأن ما عندنا من صواب ونافع هو ملك له وحق . وأن لا نمجد ما عندنا من الباطل والخاطئ والضار تعصبا وخضوعا للإنفعالات الزائفة والأوهام والتقاليد !
الحضارات الإنسانية كلها إنجاز إنساني واحد ، خيرها وشرها . وهي ملك لكل إنسان . هكذا يريد الله الذي تذوب لديه الإنتماءات الجزئية الشكلية ، وهكذا يريد الشيطان كذلك ، ولكن بمعنى مختلف جدا . يريد الله من الأنسان أن يطلب الحق والحقيقة والخير والحكمة والصواب أيا كان مصدرها . ويريد الشيطان من الإنسان أن يطلب الباطل والوهم والشر والحماقة والخطأ أيا كان مصدرها . وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان كما يريد الله له : أن يطلب الحق والحقيقة والخير والحكمة والصواب أيا كان مصدرها !
هذه قاعدة من قواعد الحياة البديهية والواضحة وضوح الشمس ، خالفها وخانها البشر وزورها الساسة الأنانيون والمثقفون المصطنعون الجهلاء ، فكانت النتيجة : الشر والفساد والفوضى ، تحت غطاء التقدم والديمقراطية وأشكال الحرية المصطنعة والثقافة الزائفة !