إرتدى أحسن مايملك من ملابس كان قد إحتفظ بها في خزانة ملابسة حينما كان موظفاً في دائرة” ….” وضع عطراً رخيصا على وجههِ كأنه ذاهبٌ الى عرسٍ في الطرف ألاخرِ من المدينةِ. نظر الى زوجتة التي أعياها السهر من خياطةِ جزءأ من ملابس إبنتها التي ستتزوج بعد أيام. كان يدندن لحناً قديماً لايعرفه الجيل الذي ينتمي الى جيلِ إبنتهِ العزيزة. راح ينظر الى هيئتهِ في المرآةِ القديمةِ المعلقة على جدارِ المدخل المتآكل منذ سنوات دون أن يتمكن من إصلاحه بسبب إرتفاع مواد البناء وأجور العمل. اليوم سيذهب الى دائرةٍ تتعلق بأنجاز معملات التقاعد وزيادة ألأجور. إنها الدائرة التي تلتصقٍ بمصرفٍ في وسط المدينة. تفحص جميع ألأوراق والوثائق الرسمية التي تُثبِتُ أنه كان قد تخرج من جامعةٍ من جامعات البلد المنشرة في مناطق متعددة. سيذهب مباشرةٍ الى الطابق الثاني من البناية التي تحمل الرقم – 36- حسب الرقم التقاعدي المدون في وثيقة التقاعد التي يستلم بها راتبه كل شهرين. اليوم سيتم إحتساب شهادة التخرج وربما الزوجية وسيضاف المبلغ الى راتبه وسيزداد راتبه التقاعدي دنانير معدودة تكون له ولزوجته ولأبنتهِ الوحيدة سنداً لمواصلة الحياة الصعبة.
على طول الطريق المؤدي الى دائرة إحتساب شهادة التخرج سافر ذهنه بعيدا وراح يحتسب المبلغ الذي سيضاف الى راتبه البسيط وكيف سيكون لهذه الزيادة دور فعال في شراء بعض ألأشياء التي يحلم بها منذ أن ترك الوظيفة وأنخرط مع جيوش المتقاعدين وتلقفتهم المقاهي البائسة وزوايا البيت ليلاً ونهاراً. دخل البناية الشاهقة معتقداً أن جميع الموظفين سينهضون واقفين إجلالاً لأنه كان قدم خدم البلاد سنواتٍ طويلة في ظروفٍ مناخية وسياسة وأقتصادية متباينة. لا بل سيقفون إحتراماً لشهادته التي حصل عليها يوما بجهدٍ جهيد وساعات ليلٍ من دراسة على ضوء المصباح النفطي. المكان في الطابق الثاني يزدحم برجالٍ أصغر منه وفي عمره وأكبر منه. شعر بألأعياء يدب الى كلِ مفصلٍ من مفاصلهِ. راحت عيناه المرهقتانِ تبحث عن أي مكانٍ للجلوس قبل أن ينهار من ألأرهاق. حرارة الصيف اللاهبة تخترق المكان المزدحم بلا رحمة. رائحة ألأجساد النتنه من شدة العرق المتصبب منها يكاد يسبب له الغثيان. إستفسر من بعض ألأشخاص في عمرهِ عن كيفية الشروع في تقديم الطلب لأستلام أوراقه الثبوتية. عرف أنه ينبغي عليه التوجه الى النافدة القريبة من الرقم -36- ولكنه كيف سيصل الى تلك النافذة؟ جميع كبار السن أمثالهِ يتدافعون كأنهم أطفال في روضة مخصصة لفئآتٍ في عمر حفيده. لا أحد يهتم له . لا أحد يعترف بوجوده. تراجع متقهقراً الى الوراء خشية السقوط بين ألأجساد المتحركة بعنفٍ شديد. جلس على ألأرض غير عابئاً بأتساخ ملابسة التي تعبت زوجته لتهيئتها له لحضورِ مناسبة كهذه. أخرج لفافةِ تبغٍ رخيصة وراح ينفث دخانها بثورةٍ همجية غيرُ مهتما لتلوث المساحة المكتظة بألأجساد البشرية بدخانِ سيكارتهِ. بلا توقع جلس قربه شيخ طاعن في السن بلا مقدمات طفق يتحدث بهمسٍ كأنه لايريد ألأخرين أن يصلوا الى مايدور في ذهنه المرهق طيلة سنواتٍ وسنوات. ” منذ الصباح الباكر وأنا هنا أستجدي هذا وذاك كي أصل الى تلك النافذه لتسليم أوراقي الثبوتية .هل صحيح أنهم سيضيفون الى راتبي شيئاً آخر ؟ ” . قبل نهاية الدوام الرسمي إستطاع الرجل أن يثبت لهم أنه كان قد تخرج من جامعة معترفة في هذا البلد. أخبره الموظف المختص أنه سيستلم الزيادة في الشهرين القادمين.
عاد الى البيت منتشياً كأنه إنتصر في معركةٍ ظروس. طيلة شهرين وهوينتظر متى تأتي الزيادة كي يشتري شيئاً إضافياً كان يحلم به منذ فترة ليست بالقصيرة. وجاء اليوم الموعود لأستلام الراتب التقاعدي.كانت صدمته كبيرة. لم تُحتسب الزيادة بعد وعليه أن ينتظر شهرين إضافيين. وراح ينتظر وينتظر. ذهب مرة أخرى وكانت النتيجة سلبية ومر نصف عام آخر ولم يتحقق شيئاً. عرف أنه ينبغي عليه أن يذهب مرة أخرى لأثبات وجوده. ذهب في بواكير الصباح وشرح لهم حالته العلمية وتخرجة قبل سنوات طويلة. أخبره الموظف المختص بأنه سيستلم الزيادة في الشهرين القادمين. عاد الى البيت يحلم من جديد. في صباح اليوم التالي كان جثة هامدة على سريره وصياح زوجتة الكبيرة يعم أرجاء البيت في كل زاوية كان قد جلس فيها يوما. رحل الى العالم ألاخر دون أن يشتري شيئا إضافياً كان يحلم به سنوات وسنوات.