كانت منزوية في أحد الازقّة المزدحمة في البصرة ، ملتفعة بعباءتها التي كانت سوداء ، والان مشربة بلون قرمزي من مكابدة الشمس، ملوّثة بأوحال الطريق ، ولزوجة كلمات الاستجداء والتوسل وما تبقى من غبارالكرامة ،بدت ككتلة سوداء غير منتظمة كالصخرة ، لا تعرف عاليها من سافلها الا من خلال يدها التي اخرجتها من أحد ثغرات ذلك السجن الاسود ، كل شيء من هذه المرأة مصنوع من بقايا الليل ، كانت يدها سوداء هي الأخرى، تميل الى الخضرة الداكنة كتمثال برونزي صدئ ، توقعت ان اسمع رنينا معدنيا عندما القى اليها أحد المحسنين قطعة نقود صوب ذلك الكف .
استجابت ككائن بدائي ، يتلمس طعامه في الظلام ، لا تقوده سوى الغريزة ، أعلمتها حاسة اللمس لديها بالغنيمة ،فسحبتْ كفها ببطء الى حيث الظلام الدامس ليبتلع قطعة النقد تلك لتنظم الى أخواتها ، اخرجت كفها ثانية ببطء ليأخذ هيئة الاستجداء ، كف مفتوحةتوجّه راحتها الى السماء ، كمن يستشعر المطر.
بقيت اسأل نفسي ، عن كنه هذا الكائن المشتمل باسماله البالية التي بدت لي بلا الوان ، كائن أختار السجن بأرادته ، كائن ساكن بلا حراك ، لا يعكر صفو حتى الذباب الذي أختاره مكمنا أمنا .
منذ متى هي قابعة هناك؟ ربما لفترة كافية لتمد الجذور ، كالنخيل الذي كانت تعج به ارض البصرة ، ولكن لا ، النخلة لا تستجدي ، بل تعطي بلا مقابل ، ربما هي بقايا نخلة ، بصقتها ارض أوتها منذ الازل ، والان صارت سبخة ، وها هي تجرب الاسمنت الذي تتخلله مجاري مياه سوداء قذرة ، فيها كل أفات الناس ونفاقهم وحزنهم ، بدلا من شط العرب .
حتى النخلة في بلدي صارت تتسوّل ، قد عرفتْ ، متأخرة جدا ، ان لا شيء بلا ثمن ، ظلت تعطي بلا مقابل منذُ ظهور ادم ، حتى استهلكت نفسها ، حتى ساخت بها الارض فلفظتها ، ففي هذا الزمن ، كل شي ممكن ، ولكل شيء ثمن ، انه زمن العولمة ، حيث لا مكان ، ولا حياة لمن يعطي بلا ثمن .