18 ديسمبر، 2024 9:11 م

السؤال دائما ، هل آن الاوان ، ليناقش العراقيون بصدق وشفافية ، ما هم به الان؟ هل آن الاوان ، ليراجع العراقيون بموضوعية ادبياتهم وحيثياتهم وامتداها التاريخي وانعكاساتها الايجابية والسلبية على الواقع الحالي للشعب العراقي؟ هل آن الاوان ، لنرتدي من جديد وبفخر الثوب الذي البسنا اياه التاريخ المكتوب كأول حضارة على وجه الارض؟ هل آن الاوان لنعرض صفحة جديدة من التسامح تليق بماضينا وتليق بمستقبلنا الذي نتطلع اليه؟ هل آن الاوان ، لينسى العراقيون كل ما هو مر ومؤسف ويقولون عنه انه من الماضي؟ كلها اسأله مطروحة وتنتظر الاجابة ، ولكن من المفيد ان نقول ان هذه الاسئلة مزمنة ولا تنحصر في التاريخ المعاصر وان كانت الاجوبة مطلوب عليها الان اكثر من اي وقت مضى.
وقبل كل شيء نود ان نثبت ان كل خطأ لا بد ان يتبعه انحراف وان كل انحراف لا بد ان يسبقه خطأ وان حجم الانحراف يكون بحجم الخطأ ولا يمكن تصحيح الانحراف من غير تصحيح الخطأ.
وعلى وفق ذلك فأنه لا يمكن وصف الترياق الشافي لاية محنه لا سيما ان كانت كالتي نعاني منها الان ما لم يتم تشخيص الوباء الذي جاء بها. فهل آن الاوان لتشخيص الوباء؟
الانتماءات السياسة الفئوية والتنوعات الثقافية المتباينة والنزاعات الاثنية هي العلامات البارزة التي ترسم هوية الشعب العراقي. والاكثر ان البعض لا يقر ان الشعب العراقي شعب واحد. ان تحقيق اي مستوى من الوحدة الوطنية يعد ضربا من الخيال. المساواة في الحقوق والواجبات تمارسها الانظمة السياسية كافة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة على القدر الذي يقرره النظام السياسي او الطبقة الحاكمة القائمة في حينه. والممارسة الديمقراطية والحرية ممكنة ومسموح بها على القدر الذي تمجد النظام القائم وطبقته الحاكمة. والوطنية مقصورة على اتباع النظام السياسي القائم وقياداته. اما القسم الباقي من الشعب العراقي وهو الغالب فهو موضوع شك وريبة من قبل الانظمة السياسة وطبقاتها الحاكمة.
وقد لا نغفل ان الاساس الذي تقوم عليه الدعوات المريضة الان ، سواء كانت دعوات دينية متشددة او سياسية مريبة ، يكمن في تقمص هذه التيارات الفرصة لتستحوذ على الناس وحسب احوالهم. فمنهم من يدخلون اليه عبر العوز والفقر. ومنهم من يدخلون اليه عبر الجهل وقلة الوعي. ان القضاء على هاتين الأفتين او اضعافهما في الاقل سيوفر قاعدة رصينة لوحدة وطنية لا تخترق وتصد الدعوات المريضة التي تنخر الان المجتمع العراقي في كل ربوع العراق من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه.
تتمايز الشعوب عبر العصور ، قديما وحديثا ، في درجات وعيها وتماسكها الوطني وتتمايز ايضا بمقدار توحدها واستيعابها للمحن والنكبات التي تحيط بها لمختلف الاسباب. ويطلق على الشعوب من هذا النوع تسمية الشعوب الحية. وعلى وفق ذلك لا يمكن ان نصنف الشعب العراقي خارج مجموعة الشعوب الحية في العالم. وطالما حصرنا الحديث عن التاريخ المعاصر فأن الاحداث تروي لنا ان ردة الفعل الايجابية للشعب العراقي للنهوض لا تقل عن ردة فعل الشعوب الواعية الاخرى. وربما يمنحنا التاريخ الفرصة للمقارنة.
فرضت الحرب العالمية الثانية نتائج الربح والخسارة على الدول الرئيسة المنخرطة فيها وفرضت الدول الرابحة للحرب شروطها على الدول الخاسرة. غير ان الشعبين الالماني والياباني استوعبا بسرعة المحنة ورضخا لكل الشروط التي فرضها عليهما الواقع المر الجديد وقالا ان الاسباب التي ادت الى الوضع الجديد هي من الماضي. انظراليوم الى المانيا واليابان وعظمتهما.
ونفس الظروف وربما اسوء ما حصل للشعب العراقي. فبعد تحرره من الاستعمار العثماني ، وهو استعمار سيء وطويل ، أبقى العراق لعدة قرون خارج العصر الذي كانت تعيشه الشعوب الاخرى في انحاء المعمورة ، وكانت تركيا تستحوذ عليه وتقهره بأسم الدين كونه جزء من الامبراطورية الاسلامية العثمانية. ولكن وان كان العراق قد وقع تحت استعمار اخر لا يقل عن الاستعمار الاول اساءة ، اذ وقع تحت وطئة الاستعمار البريطاني ، لا انه بتحرره من هاجز الدين ، الذي كان يخيم عليه ويقيده ، استطاع الشعب ان يوحد صفوفه
ويشد على جراحه ويخوض معركة التخلص من الاستعمار الجديد بالمقاومة والحكمة ويبني دولته الموحدة والمستقلة. قد ما حققه الشعبان الالماني والياباني خلال فترة وجيزة قد ابهر العالم ولكن ما حققه الشعب العراقي تأسيسا على ماكان عليه العراق من تخلف في كل مناحي الحياة قد يفوق مرات ما حققته المانيا واليابان.
ومع ذلك فأن السند الذي تقوم عليه اية دولة ويقوم عليه اي نظام سياسي يكمن في العمق الشعبي لتلك الدولة او ذلك النظام وهذا ما لم يتوفر في حينه. صحيح كان انجاز النظام الملكي في مرحلته الاولى تحت قيادة المرحوم الملك فيصل الاول رائعا ولكنه لم يستمر بنفس الفاعلية والعطاء في ما بعد ذلك اي بعد وفاته. ان غياب القيادة الحكيمة والمخلصة التي اسست الدولة العراقية الحديثة بسرعة ، وعدم توفر قيادة (ملكية) بديلة بنفس المواصفات للقيادة المؤسسة ، وغياب او تقلص دور النخب الاجتماعية المؤثرة التي اسهمت كثيرا في تأسيس الدولة العراقية لصالح القيادات العسكرية والسياسية الناشئة ، وبقاء الاستعمار البريطاني لاعبا اساسيا في الاحداث والمقدرات العراقية خلف الكواليس ، والتراكمات الهائلة المستارثه عن الماضي ولاسيما عن الحكم العثماني والتي كانت تثقل كاهل الدولة العراقية الناشئة ، كلها عوامل ادت الى عدم توفر الاستقرار السياسي الذي يقوم على اساس المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات والذي يقوم على قاعدة شعبية واسعة رغم ان ظاهرة المساواة بين ابناء الشعب العراقي ابان النظام الملكي كانت اوسع نطاقا عما ألت اليه في الانظمة الجمهورية المتعاقبة وحتى يومنا هذا. ان تزايد الاخطاء مع مرور الوقت والمراحل وتفاقم الاوضاع مجتمعة اوجدت حالة مستعصية على الحل. ومن الواجب القول ان بعض الاخطاء اكبر بكثير من الجرائم مهما كان حجمها.
ان المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين دون اي تمييز وفق اي شكل من الاشكال هي عقيدة راسخة تدعو اليها كل التشريعات السماوية وتدعوا اليها كل القوى الخيرة سواء كانت تستند في دعواتها الانسانية الى تشريعات وضعية او تشريعات دينية سماوية. فاختلاف الاراء السياسية والتنوعات الثقافية ضمن اطار الوطن الواحد لم تعد تجيز لهذا او ذاك ان يتهم الاخر بعدم الولاء او انعدام الوطنية. الكل متساون في الحقوق والواجبات امام القانون والكل يمارسون الحرية التي كفلها لهم الدستور.
ان احتجاجات كثيرة نشاهدها هنا وهناك بخصوص امور كثيرة تبدأ بالعملية السياسية القائمة حاليا والفساد المنفلت وتنتهي بالدستور النافذ المثير للجدل فضلا عن الكثير من القوانين اوالممارسات لتي يرى فيها البعض انها غير عادلة وغير منصفة. ولكن ما يقابل ذلك ان نضوجا واسعا يعم الشعب العراقي في كل مكان من ربوع العراق ويطرح حلول عقلانية تعالج بشفافية المحنة العراقية المزمنة. وربما تلك العقلانية تأخذنا الى جوهر المسألة التي ستنهي قلق ومعاناة العراقين عبر تحقيق العدالة الاجتماعية وتفتح الباب واسعا لانهاء كل الاشكاليات الثقافية والاثنية.
والخلاصة يمكن ان نستوعبها من العودة الى عنوان المقالة “المبادرة الوطنية” او موطني وكما انا افهمها وفهمتها من راعي المبادرة د. غسان العطية فان هذه الدعوة لكل العراقين بدون استثناء. ان استثنت احدا اي احد ، فأنها لا تصبح مبادرة وطنية ولا تمسي كونها قادرة على الحياة والنمو. ومن هنا فأن المبادرة الوطنية هي عامة شاملة تلبي كل طلبات الاصلاح مهما كان شكلها وبعدها ولكن بالطريقة الديمقراطية الواقعية والتدريجية التي تجمع الشمل ولا تشتته. انها المبادرة التي تجمع كل الشعب على هدف واحد رئيسي هو وحدة الشعب بكافة تنوعاته الثقافية والاثنية ، وحفظ حقوقه حقوق الشعب المشروعة في الحرية والامن والرخاء ، وصيانة وحدته وسلامته الاقليمية كوطن واحد موحد لكل العراقيين مهما كان انتمائهم الثقافي والاثني. انها لا تصدق وتبارك جهد طرف عراقي بعينه وتكذب وتلعن جهد طرف اخر طالما ان كل الاطراف تؤمن بالمباديء السامية للشعب العراقي. تؤمن بالمساواة بين المواطنين كافة وتؤمن بالمساواة بين المرأة والرجل. انها تحترم كل الجهود الخيرة من اي طرف كان طالما ان تلك الجهود تنشد الاهداف الموصوفة في اعلاه وتقر بشكل واضح وصريح ان التنوع الثقافي والاثني جزءا من الطبيعة العراقية ، دائما وابدا ، ملازم لها ولا ينفصل عنها.