كثيرة هي التقارير و التسريبات التي ” تبالغ” في ضمانات المالكي مقابل التنحي، و كثيرة ايضا خرائط المرحلة المقبلة، لكن الصحيح أن المالكي مسؤولا مباشرا عن كل مصائب العراق بسبب أحادية الراي و قلة الخبرة وانعدام المشورة، وهو رأي قلناه و هو في الحكم و نعيد التذكير به لمنع استنساخ الفشل، خاصة وأن بعض ” الحيتان” بدأت تزحف نحو مناصب و مسؤوليات و اعادة تلميع وجوه ، سنأتي على تفاصيله في مقال لاحق.
لكن ما يهمنا اليوم هو كيفية التعامل مع ملفات الفساد و القتل و التهجير التي اتسمت بها المرحلة الثانية من تجربة المالكي في رئاسة الوزراء، حيث لا يجوز التسويق لفكرة ” عفا الله عما سلف” لسبب بسيط في أن المالكي شخصيا ادار ظهره و اغلق مسامعه عن دعوات كثيرة للمصالحة مع الماضي و طي صفحة العداء الحزبي و الطائفي، لكنه أصر على العقاب الجماعي لشرائح واسعة من المجتمع العراقي بتهمة باطلة وهي العمل في صفوف النظام السابق، وهو ما أعاد المالكي التذكير به حتى في “الخطاب الأخير” الذي ودع فيه السلطة مكرها، حيث حاول حتى الرمق الأخير تأجيل الهزيمة.
وضمن واقع حساس من هذا النوع فانه تقع على عاتق رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي مسؤولية الاستشارة و قبول وجهات النظر المطالبة بمحاسبة الماضي بعيدا عن أي صومعة حزبية او علاقات شخصية ،لأن الحق غير قابل للتجزئة و المطالب مشروعة طالما التزمت الحدود القانونية، و من هنا يجب التعامل الايجابي مع أي توجه لمحاسبة الماضي بقسوة تناسب حجم الدمارالذي أصاب مجتمع العراق بأيادي و عقول لم تجتهد الا في المكان الخطأ، حيث تحولوا الى طغاة تحت مظلة الديمقراطية” الانشطارية” و القمع الطائفي الى أبعد الحدود.
ان التأسيس لمرحلة جديدة يحتاج الى فتح ملفات الفساد و القتل لا التغليس عليها مثلما حصل في السنوات الأخيرة، عندما أصبح النهب ثقافة و القتل هواية و التهجير اشباع لغرائز مريضة، ربما ليست من أولويات المالكي لكن مجرد السكوت عليها يعني الاشتراك فيها، في معادلة تاريخية لا يجوز تفصيلها حسب مزاج الحكم، بل التعامل معها بعقلية مفتوحة لمنع الوصول الى نفس النتيجة، فبدون جرأة في القرار” الدستوري” تبقى الاجتهادات الشخصية معول هدم يذبح العراق ليل نهار، ويزرع اليأس الأبدي في النفوس.
رحل المالكي لكن يجب التعامل مع تركته الثقيلة بعقلية مفتوحة و اجراءات قانونية تؤسس لمرحلة جديدة من تفعيل سيادة القانون، بحيث لا يشمل بالصفح او العفو عند المقدرة أي شخص شارك في فتنة قتل العراقيين بغض النظر عن حجم دوره، لان قائمة الضحايا تنوء الجمال بحملها، وأن كشف المستور بداية ضرورية لايقاف ” قهر” المؤسسات الحكومية ومنع فوضى السلاح و القتل، و محاسبة المتورطين أمام قضاء عراقي يوازن بين الجريمة و الضحايا بعيدا عن مجاملة الحلفاء و الايغال في الانتقام من الخصوم، المرحلة الجدية لن تبدأ الا بسيادة القانون على الجميع و هدم دكاكين الفتنة المذهبية و الحزبية، و طمر بؤرة الانتقام من التاريخ، ولأن الشهود على كل هذه الجرائم على قيد الحياة ، فيجب حصولهم على براءة ذمة قانونية من دم العراقيين و كرامتهم قبل العودة من النوافد و الدهاليز للعب دور في المرحلة المقبلة، فالذي تعود العيش خارج القانون يجب أن يقع تحت طائلة العقاب على الجرائم الموثقة لا تصفية الحسابات بحقد شخصي أو مذهبي!!