القواعد المعمول بها في الحروب ، وجود خصمين رئيسين يتقاتلان على ارض معلومة وواضحة..تنتهي هذه الحرب أما بانتصار احدهما أو استسلام الآخر، أو باتفاق إعلان الهدنة بين الطرفين بدخول أطراف تهدئة لإنهائها. وفيها تكون قضية النزاع واضحة والأهداف واضحة تماماً، والتضليل الإعلامي وتغطية أحداثها محدوداً، والتوجه العسكري والخطط متوجه صوب هذا الهدف .. إلا في (حرب الانبار)، فهي الحرب الداخلية الأولى في تاريخ العراق الحديث التي يمكن وصفها بأنها (حرب المفتوحة) لتعدد فرقاء الحرب ولتنوع قضاياها.
فمن جهة ، القوات الحكومية من ( جيش وقوات مكافحة الإرهاب ، والفرقة الذهبية ، وغيرها من فصائل عشائرية متعاونة مع القوات الأمنية ، يقابلها عشائر منتفضة على الحكومة ، وبعض الخلايا البعثية من ضباط سابقين ، ومن فدائيي صدام ، وبعض الفارين من سجون الحكومة ، والقاعدة ومن تحالف معها من داعش ، وبدفع من ممولي الإرهاب الدولي ( السعودية وقطر وتركيا) ، مع دخول مقاتلي من الشيشان ، وأفغانستان ، امتهنوا القتال حتى أصبحوا متفننين في القتال الشرس ، وحرب الشوارع ، والتفخيخ والذبح ، فهي حرباً بالنيابة عن دول وحكومات لاتريد للعراق النهوض ، ونجاح مشروعه الوطني ، وحكم الأغلبية المقهورة في العراق .
ومنذ أيام تخوض القوات الأمنية العراقية ومسلحون ينتمون إلى العشائر، حرب شوارع مع عناصر هذا التنظيم، تمكنوا من السيطرة على مناطق في مدينتي الرمادي فيما زالت مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار تحت سيطرة القوى الإرهابية والشعائر المتحالفة معه . واستغل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» إخلاء قوات الشرطة مراكزها في الفلوجة والرمادي، وانشغال الجيش بقتال مسلحي العشائر الرافضين لفض اعتصام الرمادي، لفرض سيطرته على مناطق في المدينتين ، كما أن الصورة الوردية التي رسمها قادة الجيش العراقي قد تكون خدعت الجيش والذي لايعرف عن المنطقة شيء، وربما المالكي نفسه الذي يفترض أنه، كقائد عام للقوات المسلحة، يعرف طبيعة القوة التي لديه، وجغرافية ومناخ ونفسية المنطقة التي تقاتل فيها، كما عمليات هروب سجناء القاعدة المتكررة من السجون العراقية، وتغاضي الحكومة عن تدهور الأمن، ودخول الجماعات المسلحة من سوريا، وعدم اعتماد الخطط الاستباقية المهنية، أدت دوراً في انحراف المسار الأمني عن اتجاهاته الصحيحة ، وانحراف الهدف الذي من اجله انطلقت العملية العسكرية في الانبار .
من جانبهم يشبه المسؤولونُ العسكريونُ المعركةُ الجارية الآن في الانبار بحرب فيتنام, حيث إن القوى الإرهابية ، هم ممتزجين ومحميين من قبل السكانِ، و يُحاولُون كَسْر إرادة الجيشَ العراقي بدلاً مِنْ هَزيمته بشكل تامّ وكذلك إضْعاف دور الجيش العراقي في حماية الوطن والمدنيين ، والتي كل التوقعات تشير إلى أن الحرب ستدوم طويلاً ، فالمقاتلون في الانبار يهاجمون القوت الأمنية العراقية من خلال الكمائن السريعة وبالقنابل والألغام والقنص ، وبأسلوب قتالي متمرس ، مسلحي القاعدة يسيطرون حالياً على نصف مدينة الفلوجة، ويقيمون حواجز في مناطق سيطرتهم، والنصف الآخر في أيدي مسلحي العشائر.
تداعيات هذه الحرب التي أشعلها السيد المالكي في الأنبار تتجاوز ما تسببه من خسائر بشرية ومادية، ومن تكريس للانقسام الداخلي، إلى فتح أبواب البلاد أمام التدخل الأجنبي.
فمجلس الشيوخ الأميركي يتجه لتأييد تأجير وبيع العشرات من طائرات الهليكوبتر من طراز أباتشي للحكومة العراقية، بينما تدرس حكومة أوباما إمكانية تدريب قوات عراقية خاصة في الأردن، محوّلة بذلك الحرب التي أعلنها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في الانبار تحت عنوان محاربة الإرهاب إلى مغنم مادي وسياسي ، خصوصاً مع دعوات البعض من نواب دولة القانون بضرورة عودة الجيش الأمريكي لضبط الأمن في العراق ، خاصة وأن الحرب في الأنبار حققت لإدارة أوباما هدفا عاجلا يتمثل في استعادة نفوذها في المنطقة عبر العراق بعد أن تخلخل بشكل كبير بفعل فشلها في السيطرة على الملف السوري الذي وقع بأيدي قوى عربية وأجنبية على رأسها السعودية وروسيا وإيران ، لهذا المالكي بات واثقا من الدعم الأميركي في هذا المجال، ولذلك أعلن أن الانتخابات ستجري في موعدها .
هذه الحرب المفتعلة وحّدت السياسيين السنة في البلاد وزادت من الشد والشحن الطائفي وسط مخاوف من تفجره مجددًا وتدخل البلاد في نفق مظلم يفضي لتأجيل الانتخابات العامة ويقودها لأزمة سياسية ودستورية خطيرة ، لايمكن أن نعرف عواقبها في ظل تخبط واضح ، وقرارات ارتجالية تعتمد في الغالب علة العاطفة ، بعيداً عن مصلحة المواطن والتي سيكون حطب هذه المحرقة ، والتي أريد لها ان تكون جسراً للفوز بالولاية الثالثة ، والتي بالتأكيد هي بدماء شهدائنا من الجيش العراقي ، وقوى الأمن الذين قدموا أنفسهم ثمناً للكرسي الزائف .