رواية القاص علي عباس خفيف “عندما خرجتُ من الحلم” ، لم يتم الاهتمام المناسب بها مع أهميتها، وان حصل ذلك، فثمة تباين في الرؤى والأحكام حولها. إن قلة الاهتمام النقدي بالرواية العراقية ،عربياً، يكشف عن مشكلتها التسويقية أساساً. يمكن استثناء روايات “غائب طعمة فرمان” في هذا الشأن ، وبعض الروايات العراقية التي كتبت ونشرت بعد سقوط النظام ، واغلبها صدر خارج العراق . لعل فوز” أحمد سعداوي” بجائزة (البوكر) قد يفسح للرواية العراقية آفاقاً نقدية عربياً مستقبلاً. “عندما خرجتُ من الحلم” تجاوزت فخ السقوط في الأيديولوجية وتجريدياتها وتوجهاتها (الدوكوماتية) و هو ما أعطاها بعداً فنياً وبذا كانت بعيدة بمنهجية، روائية، عن سلطة الأيديولوجية الملفقة وتحكم سلطة الوعي المنحاز،وإسقاطاته، ويمكن قراءتها اجتماعياً فـ”عندما خرجتُ من الحلم” أمسكت بالتحولات التاريخية للمجتمع العراقي في فترة ملتبسة من تاريخه ، وهي مرحلة الستينات، واستطاع بناءها الفني والبنية الاستذكارية فيها أن يرتقيا بها بعيداً عن النظرة التاريخية الواحدة وقوالبها الجامدة كاشفة النامي والمتحرك في الحياة الإنسانية العراقية وتاريخها المأساوي من خلال مأزق الإنسان الفرد المرتبط بالجماعة ومصائرها العامة. إن تحولات البنية الروائية في”عندما خرجتُ من الحلم” وتخطي ” خفيف” ما هو شائع و مكرور من خلال “الزمن الروائي” الذي احتال على تاريخية الحدث كماضٍ ، وأجملَ مسيرة فترة مهمة من التطور الاجتماعي في العراق منذ الحرب العالمية الأولى حتى لحظة كتابتها، في أسبوع واحد ، نلاحظ في الميثولوجيا والمرويات
الدينية إن العالم قد اكتمل (خلقه) في سبعة أيام فقط ، ولم نشعر في “أسبوع – عندما خرجتُ من الحلم” أننا غادرنا هذا الأسبوع العاصف ، وبقينا حاضرين فيما نحن نسافر في حلم الماضي إلى الحاضر.كما يمكن النظر للرواية نظرة انطباعية من خلال بنية الاسترجاع فيها وقد أعتمد المؤلف تكنيكاً مغايراً لما هو سائد في البناء الروائي الذي يعتمد التاريخ مرجعية له، من خلال تداخل السرد ،وعبر هيمنة الماضي كذكرى، وسطوة الحاضر كفعل، إلى الحد الذي لا يمكن الفصل بينهما دون تعسف أو افتعال، وفي جدلية العنوان – المتن، تداخل اشتقاقي يتشابه و الاستشعار وذلك لورود العنوان مكرراً وحاداً في ثنايا المتن، و الرواية تميزت بالتنوع الذي نأى بها عن الاجترار الذي عهدته بعض الروايات التي تضع التاريخ مشجباً، أو متكأً تعتمده دون أن تغادره فيما كان مسرح “عندما خرجتُ من الحلم” الفرد- المجتمع- التاريخ، دون الخروج عن فنية الرواية التي تمنحنا متعة لا نهاية لها لأنها مليئة بالحياة ، كونها تناولت المكان المقصي- المهمل اجتماعياً. إن ” محاولة تتبع واستقصاء حضور البعد الواقعي في المتن الروائي من أجل الاستدلال على هيمنة الرؤية الواقعية التي تحضر في النصوص السردية بصورة لافتة، حيث يكشف النظر إليها منذ فترات التشكل إلى مرحلة التبلور ، قد مثلت نمطاً مهيمناً إلى درجة تدفع إلى التساؤل عن نصيب التخيل داخل المنجز السردي؟. ويصبح هذا الإشكال أكثر إلحاحاً عندما نستحضر خصوصية التشكيل النوعي في العمل السردي الذي يتحدد من الناحية الإجناسية باعتباره نوعاً أدبياً منضوياً ضمن (التخيل) مهما تجذر في الواقع ومهما أعلن انتسابه إليه” – د. مصطفى الغرافي،مجلة المثقف الالكترونية19 / تشرين الأول/2014، بتصرف. ولقد وضع الروائي- علي خفيف- روايته عند نقطة (تقاطع الحواف) التي يجد فيها الإنسان نفسه أنه
سيتحول أو سيحصل له شيء ما مجهول ، ونلاحظ أن لغة الرواية تعد أهم الأبطال الفاعلين في بنية السرد الروائي.كما إن انسياب الزمن فيها ،لا يمكن قطعه بفاصلة، حيث تميزت الرواية في ذلك. أن بنية الاسترجاع في الرواية قد لازمتها منذ البدء وكأنها “مطهر” للخلاص من آثام الماضي وأزماته الاجتماعية- الروحية وانعكس ذلك على شخوص الرواية التي حفلت بالوقائع كما حدثت، و المؤلف احتفظ بكل شيء يعرفه عن ذلك الماضي وأحداثه وزمنه بطريقة “تسجيلية” ومنها الأسماء الفعلية لأشخاص الرواية ، و بعضهم يجلس أحياناً في المقهى معنا، أو نلمحه في أماكن عامة أخرى،أو قذفه الوجع العراقي، مرغماً نحو المنافي النائية، وثمة امتداد لأسلافهم والأماكن التي انحدروا منها مستثمراً،علي عباس خفيف، “بنية الاستذكار” و وثائقيته مبتعداً عن التغريب وتجلياته في البناء الروائي ، لكن نلاحظ ثمة نزوع للمثاقفة في البناء السردي الروائي. نرى إن أي مؤلف، غير ملزم بتفصيل عما كتب ويكفيه أنه يخاطب إنساناً ما ، وأنه يتمكن على قدر ما يعرف ويرى وخبر وجرب، و على الكاتب أن يمنح كلماته معنى أكثر نقاوة،لكي يؤكد حضور القراء وحريتهم اللامحدودة تجاه النص وقراءاتهم وتأويلاتهم فيه ، ويمكن حسب الناقد “فيتش” للقارئ أن يواجه إشارات على الصفحات ويّولد المعاني عن طريق الاستجابة الواعية لتلك الإشارات، وعليه فأن القارئ لا يخلق نصاً فحسب وإنما يخلق مؤلفاً فلاشيء يطمئن مؤلف الرواية وغيرها من الأعمال الفنية ، أكثر من أن يكتشف القراءات التي لم يفكر بها، والتي يوحي له بها القراء. ” عندما خرجتُ من الحلم” تضمنت عوالم كان يمكن الاستفادة منها في أغناء مشهدية الرواية وتطوير جوانب مهمة فيها،خاصة مذكرات بطلها(محمد علي فردريك) التي لم تُستثمر،بحدودها القصوى ، كما لم تكتشف عوالمه الداخلية.
“عندما خرجتُ من الحلم” تسد فراغاً في بعض رواياتنا ، فلم تعد الأحداث الكبرى والمصائر البشرية الساخنة فقط الساحة الوحيدة للرواية آلآن ، بل المناطق المهملة و المنسية ، والمصائر الهامشية ، يمكن أن تغدو مجالاً روائياً خصباً وهذا ما تميزت به “عندما خرجتُ من الحلم” حيث أعادت مكاناً و زمناً تسربا منا ، ولا يمكن استعادتهما ثانية وشخصيات لا يمكن أن توجد آلآن في فوضى حاضر حياتنا، العراقية، الراهنة ، وان ذلك المكان والزمن وتلك المصائر وذلك التاريخ ، لا يمكن أن يبقى إلا في الحلم الذي خرجت منه الرواية بميزتها في الانتماء لزمنها الذي كانت شاهدة عليه ، وموثقة له مع التباساته و قسوته، لذا فمفتتح الرواية يؤكد على قول: (ب.ب.شيلي) ، في (برومثيوس طليقا):” لا… تجزعوا، فما هو إلا انقباض سيزول..”. رواية “عندما خرجتُ من الحلم” خضعت لرحلة غريبة حيث كتبها القاص “علي عباس خفيف” خلسة في احد معسكرات الأسرى خلال الحرب العراقية -الإيرانية. والكيفية التي كتب علي عباس خفيف “عندما خرجت من الحلم” يمكن أن تكون رواية بحد ذاتها ، فلسنوات تكلمت حوادث الرواية معه بإصرار ، وحينما بدأ الكتابة كانت أوراق سلوفين السكائر هي الأوراق الوحيدة التي يمكن أن تقع تحت يده في كتابة ما نوى تدوينه وكانت علب السكائر التي يجري توزيعها بالمفرد تزوده بهذه الوريقات الغالية ، بدأ” خفيف” بكتابة الرواية عام 1996 ، بأقلام متنوعة ، أقلام الرصاص وأقلام الحبر الجاف المختلفة الأزرق والأحمر والبنفسجي والأسود . بعد أن انتهى منها عام 1998صار سمكها حوالي 15 سم . في إثناء الكتابة كانت معاناته تتزايد مع كل صفحة جديدة ، لأنه لم يكن قادراً على ضمان الحفاظ على أوراقه تلك من الضياع أو الفقدان . ففي إحدى حملات التفتيش التي يشنها حرس الأسر ، ثم ( ألقوا القبض ) على تلك
الوريقات العزيزة ، الثمينة. بعد ذاك أصر على كتابتها مرة أخرى وباشر الكتابة و جاء التفتيش اللامفاجيء الثاني ، وتم تمزيقها كذلك.مرة استعان بأحد أطباء المعسكر وهو احد معارفه وتحدث معه بخصوص أمر الرواية وتمزيقها مرتين ، والطبيب كان قد طلب اللجوء قبل أكثر من أربع سنوات ، وعاش في طهران و كان طبيباً للأسرى . و للمرة الثالثة كُتبت الرواية ، على ورق دفاتر كان يحضرها لـ(علي) صديقه الرسام العراقي اللاجئ الذي يعمل في (متحف للأسرى) في ذات المعسكر . عام 2000 اتفق العراق وإيران على تبادل للأسرى ، عبر منظمة الصليب الأحمر ، وكان اسمه ضمن الأسماء في عملية التبادل . واتفق(علي) مع (الطبيب) على الاحتفاظ بها لحين يتيسر استردادها وحالما وصل للعراق بدأ محاولاته باسترداد الرواية . الراحل (قاسم علوان) كان يعمل مدرساً في ليبيا ، وفي إحدى زياراته إلى البصرة اتفق معه (علي) على مراسلة ( الطبيب) عبر صديق عراقي يقيم في المانيا. فقام بذلك ونجحت المحاولة. فأرسلت الرواية إلى المانيا بالبريد الرسمي على ثلاث دفعات ، ثم منها بالبريد – أيضاً- إلى ليبيا ، وتمكن (علوان) أن يعبر بها الحدود العراقية ، كاملة ،وتصدر بعد سقوط النظام في الأردن- عن دار- أزمنة.