23 ديسمبر، 2024 3:13 م

الماركسية والدين:التباسات العلاقة وأسس المصالحة

الماركسية والدين:التباسات العلاقة وأسس المصالحة

مقدمة
تستحق ندوة الدين والدولة التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية، والتي شارك فيها ما يقارب من 100 باحث ومختص ومفكر، وبدعم من المعهد السويدي بالاسكندرية، وقفة تأمل، فهي تشكّل إحدى منتديات الحوار الجادة والجريئة، ولا سيما أنه قد اجتمع في هذه الندوة متديّنون وغير متدينين، إسلاميون وعلمانيون، حداثيون وتقليديون، وجرى فيها نقاش عميق ومسؤول في الموقف من علاقة الدين بالدولة.
وإذا كانت الندوة قد فتحت شهية الحوار، فإن هناك الكثير الذي يمكن مناقشته على هذا الصعيد، فقد غاب مثلاً الموقف الماركسي من الدين والدولة، وهو الذي شكّل أحد أركان المشهد السياسي الخمسيني والستيني من القرن الماضي، والذي يمكن أن يستقطب اليوم بعد إعادة قراءته على نحو جديد، ولا سيما بعد الربيع العربي، أوساطاً جديدة مهتمة باحتدام الصراع والجدل بين الإسلاميين والمتدينين من جهة، وأوساطاً واسعة من اليسار الماركسي والعروبي، أو ما يمكن أن نطلق عليهم العلمانيين أو الليبراليين، من جهة أخرى، فضلاً عن فكرة الدولة بعد الثورة العلمية- التقنية، ولا سيما ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا اإعلام، وموضوع سوسيولوجيا الدين والتديّن، إضافة إلى العولمة وإفرازاتها والأزمة الاقتصادية والمالية، بما فيها موضوع الدولة الريعية…إلخ.
وأعتقد أن الندوة، بحكم تنوّعها وغناها، كانت أقرب إلى طرح أسئلة، بحاجة إلى المزيد من الدراسة والقراءة وإعادة النظر، خصوصاً في ظل المستجدات والمتغيّرات العربية والكونية. لذلك تأتي هذه المساهمة لتعرض موقف الماركسية من الدين، لما له من قيمة تحليلية ومعرفية، مثلما يفيد الإلمام بجوانب الفكر الماركسي من الدين، الفكر النقدي بوجه عام، وخصوصاً أن الهدف هو التنوير ودوره في إثراء الجدل الدائر حول العلاقة بين الدين والدولة، بما يتجاوز المعنى العام والفهم السطحي لمقولات ماركس حول الدين، ناهيكم عن موقف الماركسية لاحقاً.
أولاً: الدين أفيون الشعوب
إذا كان ماركس قد قال «”الدين أفيون الشعوب” فإنه كان يقصد العلاقات الملموسة بين الدولة البروسية والكنيسة البروتستانتية في ألمانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وقد ظلّ لهذه الجملة رنين خاص، فالدين يمكن أن يكون أفيوناً مثلما يمكن للفن والأدب أن يكونا أفيوناً، والسياسة يمكن أن تكون أفيوناً هي الأخرى، وهو ما عبّر عنه فيديل كاسترو في حواره الطريف والعميق مع فراي بيتو، رجل الدين المسيحي، لمجلة أنفيو (ANVIO).
وإذا كان ماركس لا يتحدث على نحو تعميمي وتجريدي يصلح لكل العصور والتشكيلات الاجتماعية، كما هو إنجلز وفيما بعد لينين، فقد تحدث هؤلاء على فعل ملموس وإيجابي، في الكثير من الأحيان، فيما يتعلق بالدين كعنصر يسهم في دعم نضال الكادحين، وهو ما قصده ماركس عند حديثه عن الفلاحين في ألمانيا. ولا يهم في ذلك إن كان الإنسان مؤمناً أو غير مؤمن، لكنّ الباحث ولا سيما الماركسي هو الذي يحاول قراءة الواقع لاستنباط الأحكام والقواعد التي يمكنها الإسهام في تغييره بتعزيز الجوانب الإيجابية فيه وتوظيفها لهذا الغرض، سواء كان ديناً أم غيره، وبتشخيص الجوانب السلبية التي تعيق عملية التغيير لمواجتها ودراسة تأثيراتها المعرقلة على مسار التطور الاجتماعي.
بحسب قراءاتي الماركسية، لم يكن ماركس، كما أشرت في كتاب (تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف)، قد تحدّث عن الدين وناقشه كأطروحة متكاملة، لكنّ إسهام ماركس بالذات كان في البحث في وظيفة الدين وأسباب حاجة البشر إليه باعتباره “الزهرة الوهمية على قيد العبد” أو “زفرة المقهور”. وقد استفاد ماركس من رؤية فيورباخ إزاء الدين، ولم يكن له موقف عدائي مسبق. وأظنّ أنّ أي مواقف مسبقة من الدين ستكون نقيضاً للماركسية التي هي أداة لتحليل الظواهر لا نفيها.
إنّ الماركسي الذي ينظر إلى الفكرة التي تكوّنت خارج الواقع لا يمكنه أن يكون ماركسياً؛ فالماركسية نظرية لفهم الواقع، وبالتالي العمل على تغييره، لكنها لا تتطابق مع الواقع الجديد الذي تريد تغييره، بل ستسعى، هي ذاتها، إلى عدم ثباته أو النظر إليه كشيء ساكن. ولعلّ الكثير من الماركسيين، بمن فيهم العرب والعالمثالثيين، عند بحثهم المسألة الدينية لم يخضعونها للمنهج الجدلي، وهو موقف غريب، ولذلك كانت استنتاجاتهم غريبة أيضاً، لأنها نقيض للماركسية، لا سيّما عدم إدراك طبيعة التناقضات في الظاهرة الدينية.
لا يمكن، في مجتمع مثل مجتمعاتنا العربية والإسلامية والعالمثالثية، إلى حدود كبيرة،  لأيِّ جماعة ثورية أن تتجاهل الظاهرة الدينية، لا سيّما أنها ظاهرة مجتمعية، وإلاّ فإنها، هي ذاتها، سوف لا تكون ثورية. وإذا ما فعلت ذلك فلن يعود بإمكانها القيام بالتغيير الاجتماعي الحقيقي للمجتمع. وحتى اليوم لا يوجد استثناء لذلك، فقد أفادت أمريكا اللاتينية وحركتها الثورية، إلى حدود كبيرة، من لاهوت التحرير المسيحي، فالتديّن الشعبي هو أحد معطيات الواقع الاجتماعي الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار، ولذلك فإنّ من يعتبر نفسه طليعة الشعب لا بدّ وأن يعمل على كسب هذا السند الشعبي بما فيه من معطيات، الأمر الذي يستوجب احترام الدين واتخاذ موقف إيجابي منه، لا سيّما القيم الإنسانية المشتركة التي تمثل، في الوقت نفسه، قيماً للماركسية.
لقد ساد فهم ستاليني ميتافيزيقي للماركسية بحيث طغت أحياناً فوق التناقضات والنزعات في التشكيلات الاجتماعية، وهو ما أعادني إلى قراءة رسالة باكونين، الثوري الروسي، إلى ماركس عند تأسيس الأممية الشيوعية الأولى في إنكلترا، حين اقترح فيها أن تضمّ العمال الملحدين فقط، وكان جواب ماركس أنه يقبل بالعمال الشيوعيين بغضِّ النظر عن موقفهم من الدين، سواء كانوا ملحدين أم غير ملحدين، لأنّ الاقتصار على الملحدين  سيؤدي إلى قبول نسبة ضئيلة من العمال، وهو الموقف الذي اتّخذه لينين لاحقاً في الحزب البلشفي، باعتبار المسألة مسألة ضمير، وإن كانت في التطبيق العملي قد اتّخذت بعداً سلبياً بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، لا سيّما إزاء رجال الكنيسة، وهو ما شرحته مطولاً في كتابي “تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف”، خصوصاً الإجراءات التعسفية والانتهاكات السافرة لحرية الضمير والدين والحق في الاعتقاد، وهو ما سارت عليه معظم التجارب الاشتراكية لاحقاً.
وعلينا الاعتراف بشجاعة أنه كان بيننا تيار محدود أو حتى غير معلن يروّج للإلحاد، وذلك تقليداً لوجود مثل هذا التيار في الماركسية التاريخية، ففي الأربعينيات نشر السوفييت كتاباً يقول إنّ المسيح لم يوجد، بل هو اختلاق وهمي لعبيد الإمبراطورية الرومانية. كما حاولنا تفسير التاريخ بمنظور طبقي مادي بعيداً عن الدين، وهو تفسير يصلح لعهد الرأسمالية، خصوصاً بعد فكّ الاشتباك بين الدولة والكنيسة، إلاّ أنّ مثل هذا التفسير، لوحده أو بكامله، لا يصلح لمجتمعاتنا التي ما زال الدين فيها قوياً ومؤثراً، بل ويتدخّل في الشؤون العامة والخاصة، الأمر الذي احتاج إلى تكييف، دون أن يعني نكران، الصراع بين السيّد والعبد والمالك والمُعدم، ولكن ليس باستبعاد الدين أو عبر ثنوية لا ثالث لهما.
كانت بعض الأحزاب الشيوعية قد أقلعت عن التبشير بالإلحاد علناً أو سرًّا، عن قناعة حقيقية أو تكتيكية، وهو ما أخذت به كوبا والجبهة الساندينية في نيكاراغوا عام 1980 التي اعتبرت الدين عامل تحرر. وهذا الأمر يحتاج إلى عمل من نوع آخر في أحزابنا الشيوعية العربية، لا بهدف المصالحة وحسب، بل للحديث عن وظيفة الدين وكيف يمكنه تعبئة الناس للنضال من أجل حقوقها ومصالحها، وما هو دور الحركة الشيوعية في ذلك، سواء في مرحلة التحرر الوطني والانعتاق من ربقة الاستعمار أم في مرحلة ما بعد الاستقلال، مع بقاء فلسطين والعديد من الأراضي العربية محتلةً، وهو ما يمكن فحصه من خلال الواقع: حزب الله في لبنان مثلاً، أو حماس في غزّة، ناهيكم عن صعود تيار الإسلام السياسي في الغالبية الساحقة من البلدان العربية بعد الربيع العربي، وتلك إحدى مفارقات التغيير، وخصوصاً فوز الإسلاميين في انتخابات حرّة، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة مراجعة لدور الدين ووظيفته وكيفية استخدامه أو التعاطي معه.
أما بخصوص أزلية المادة، التي كان معظم سجالاتنا تتم على أساسها مع الإسلاميين أو غيرهم، فقد كان الاعتقاد قبل اكتشاف أينشتاين أنّ للكون ثلاثة أبعاد: السرعة والزمان والمكان، وذلك تجاوزاً على العلوم الفيزيائية والكيميائية في عهد إنجلز. لقد كان ماركس مادياً ديالكتيكياً، أي ضد المثالية وفي الوقت نفسه ضد المادية المبتذلة التي تريد اختزال كل شيء إلى عقلانية علمية وتجريبية مادية وضعية، في حين أنّ هناك بعداً رمزياً وذاتياً للعالم،  مثلما له بعده المادي، وبهذا المعنى فقد كان ماركس ضد الماركسية الميكانيكية، وهو ما ينبغي على الماركسيين تمثله، آخذين بنظر الاعتبار ظروف مجتمعاتهم.
لا وجود لماركسية خارج الإنسان وخارج المجتمع، وبما أنّ الإيمان الديني موجود، فالإنسان المؤمن أو غير المؤمن له علاقة بالسماء، وكلّ الذين حاولوا توظيف العقلانية العلمية الخاصة وصلوا إلى مجتمعات مغلقة، بل وحتى ظلامية، ولعلّ تجربة الثورة الصينية في العام 1965 دليل على ذلك، تلك الثورة التي روّضت الصين والثقافة والتاريخ على نحو خطير. لا يمكن لأيّ أحد أن يصبح شكسبير أو دوستوييفسكي أو تولستوي أو المتنبي أو الجواهري أو بتهوفن أو أينشتاين أو بيكاسو، فهؤلاء يملكون مواهب نادرة تفوق العقلانية بتحليل الثقافتية. لعليّ أنظر إلى العلمانية باعتبارها إنجازاً للعقلانية.
منذ كتابة ماركس كتاب (أصول فلسفة الحق لهيغل)،  فإنه يعترف بالمحتوى الآيديولوجي للدين وبدوره في الصراع الطبقي، وفي الوقت نفسه يعترف بمحتواه التحرري حين وضعه “روحاً لعالم بلا روح”. وقد قرأ ماركس وإنجلز المنجز الثوري للتقليد المسيحي، حيث تمثل المسيحية نتاجاً وهمياً لعالم معذّب وإسقاطاً ذهنياً لوعيٍّ مُستلب، ما يتطلّب إخضاعها للنقد لا التهجم عليها.
لعلّ المادية تقوم على ثلاث أطروحات أساسية هي:
– الوجود الواقعي للعالم موضوعياً، أي أسبقية المادة على الفكر الذي هو نتاجها، وليس العكس.
– إنّ العالم قابل للإدراك (ابن رشد: العالم قابل للإدراك ).
– الأفكار انعكاس للواقع.
إنّ نصوص الماركسية الفلسفية، لا سيّما مقدمته لأطروحة الحق لدى هيغل أو لأطروحات فيورباخ، لا سيّما الأطروحة الرابعة، تمسّ الدين بوصفه مسعىً إنسانياً لا يقتصر على المسيحية، وكذلك أطروحاته السياسية حول المسألة اليهودية، فقد عالج فيها المسيحية لأنها دين أوروبا السائد، وحتى عندما عالج المسألة اليهودية فإنّ معالجته لم تمسّ جوهر الدين اليهودي، بقدر ممارساته في ذلك العهد في أوروبا. من هنا ينبغي النظر إلى ازدواجية المفهوم لدى ماركس، وذلك حين يجمع بين الروح والأفيون، تلك الازدواجية التي هي في أصل الدين ذاته.
وبحسب غرامشي في (دفاتر السجن)  الدين هو أحد أركان البنيان الفوقي الآيديولوجي للتشكيلة الاجتماعية الملموسة، وهو متداخل مع بنيتها السوسيو-اقتصادية، وهنا يمكن التفريق في وظيفته من خلال مستويين أساسيين: الأول يتعلق بالمجتمع المدني، والثاني له علاقة بالمجتمع السياسي- الدولة التي تعتمد على وظيفة الهيمنة.
وإذا كانت المسألة الدينية في العالم العربي من أعقد المشكلات، بل وأخطرها، وقد ازدادت اشتباكاً والتباساً منذ أواسط السبعينيات، فقد ارتبطت هذه المسألة، أولاً، بصعود التيار الديني، وبشكل خاص الإسلامي أو الإسلاموي، وثانياً، الأمر له علاقة بالمواقف الانتهازية للغالبية الساحقة من السلطات الحاكمة التي حاولت مداهنة الإسلاميين، بل وحتى تملّّقهم، عسى أن يرضوا عنها، وقدّم الحكام  التنازل تلو الآخر لها على الصعيد الدستوري أو القانوني أو على الصعيد العملي، أما ثالثاً فيتعلّق بفشل اليسار، لا سيّما الماركسي، في برنامجه الفكري والسياسي، وتراجعه عن مواقعه، إضافةً إلى بقائه على هامش وعي الجماهير ومعتقداتها اليومية.
لعلّ الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، بعد توليّه الأمور، هو من شجّع على وضع دستور بصياغات إسلامية غير معهودة من قبل، من قبيل اعتبار “الشريعة الإسلامية”  “مصدراً أساسياً” للتشريع، وهو ما دار النقاش حوله، ولا يزال يدور، في العديد من البلدان العربية، علماً أنّ من غير الممكن عملياً تحديد قواعد هذه الشريعة أو الاتفاق عليها من جانب الفقهاء، ناهيكم عن تدخّل أصابع مفسّري ومؤولي النص الديني، وقد اندلع مثل هذا النقاش على نحو واسع في العديد من البلدان العربية بعد موجة الربيع العربي. وقد أقرّت لجنة صياغة الدستور المصرية، بعد الربيع العربي، هذا النص الذي اعتبره مفتي الأزهر الشريف محمد الطيب نصاً واقعياً وعملياً.  وأضيف إلى ذلك، رابعاً، نجاح الحركات الإسلامية الأصولية والمعتدلة في حكم العديد من دول المنطقة، بغضِّ النظر عن اختلافاتها المذهبية والعقائدية، فهي تحكم باسم الإسلام، وقد تعزز دورها بعد الربيع العربي كما جرت الإشارة إلى ذلك.
ولعلّ هذه الظاهرة بحاجة إلى دراسة سوسيوثقافية بعد فشل مشروع اليسار، بشقيه الماركسي والعروبي (القومي). وقد اكتسبت غالبية المناقشات حول المسألة الدينية طابعاً عاطفياً وراهنياً، دون النظر إليها كبعد ستراتيجي، فضلاً عن تبسيطية وإرادوية، لا سيّما بغياب منهج واقعي، الأمر الذي راكم في تعقيد المسألة، ناهيكم عن استخدامها من جانب القوى الرجعية والإمبريالية.
للدين، دون أدنى شك، قيمة علمية، نظرية وعملية، لأنه يشكّل أساس علاقة الفرد مع الذات، خصوصاً إحساس الإنسان وعاطفته وسلوكه واعتناقه عقيدة معينة، ومن جهة أخرى فإنّ الأشكال الاجتماعية التي يمثلها للوعي، كأنساق وتمثّلات، هي في جوهرها مجموعة من الأفكار والنظريات والآراء التي تعبّر عن حزمة بشرية من الكيان الاجتماعي في إطار قوانين وقواعد معيّنة.
وبحسب ماركس فإنّ هذه التمثّلات قد تكون منسجمة مع الواقع أو متعارضة معه، بل وحتى وهمية أو خيالية، إلاّ أنّ هذا الخيال لا يمكن اعتباره مفرغاً تماماً من الواقع، بل إنه يتجسّد ويتموضع في نتاج نشاط الناس.
ثانياً: الماركسية والإيمان الديني: المنظور وزاوية النظر
إنّ بحث المسألة الدينية من منظور ماركسي يستهدف فهم العلاقة بين الدين كخطاب، من جهة، وبينه وبين الممارسة الاجتماعية “البراكسيس” من جهة أخرى. ويرى ألتوسير أنّ إشكالية ماركس مع الدين هي بالأساس إشكالية فيورباخية، كما سبق وأن عرضنا ذلك في كتابنا (تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف)، وهو ما تم التطرق إليه بشأن كتابه (المسألة اليهودية)، وكذلك كتابه (نقد فلسفة الحق لدى هيغل).
وبما أنّ الدين أوسع من الآيديولوجيا، فضلاً عن توجّهه لمخاطبة فئات واسعة من السكان، لا سيّما الفئات الشعبية، الأمر الذي يمكن أن يصبح سلاحاً ذا حدين بيد الحاكم وكذلك بيد المحكوم، فهل يصبح هدف محاربة الدين ثورياً؟ وأيّ ماركسية تلك التي تتوجه إلى معارضة دين ومعتقدات الغالبية الساحقة من السكان، لا سيّما الفئات الشعبية؟ أظنّ أنّ في ذلك ضربٌ من الصبيانية وعدم الشعور بالمسؤولية، ناهيكم عن الجهل، إلاّ إذا كان ناجماً عن وعي وسابق إصرار، فإنه يبقى يدور في نخبوية نظرية خارج الماركسية وليس مهمة نضالية تغييرية كما هي الماركسية.
جديرٌ بالذكر، فيمكن القول، أنّ الماركسية لم تقم بصياغة أطروحة كاملة حول المسألة الدينية، أو السوسيولوجيا الدينية، وإذا كان الاستغلال والقمع والاضطهاد في أوروبا قد ارتبط بالدين، فقد كان من المنطقي شنّ الكفاح على المستوى العملي والنظري، لا سيّما على مستوى الثقافة والوعي، ضد استثماره ليكون عائقاً بوجه التقدم الإنساني، خصوصاً وأنّ استغلال الدين قد عرقل تقدم المجتمع، ناهيكم عن إدامة السيطرة عليه.
وإذا كانت البرجوازية قد توجّهت إلى محاربة الإقطاع، لا سيّما في القرن الثامن عشر، فلأنه كان مرتبطاً بالكنيسة أيضاً، الأمر الذي اقتضى محاربة السلطة السياسية وكيانيتها الروحية ومنظومتها السلوكية العملية، وهو ما أدّى إلى ظهور حركات إصلاح ديني وتمرّدات واحتجاجات ضد الكنيسة من جهة، ناهيكم عن ظهور تيارات إلحادية كرد فعل على دور الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع من جهة أخرى. وقد عمد ماركس وإنجلز إلى نقد وظيفة الدين و”السلطة الدينية” لكونهما كانتا مختفيتين خلف ستار الفلسفة، وبسبب هذا التستر حصل استلاب للجوهر الإنساني، وإذا اقتضى تحرير الإنسان ذلك فلا بدّ من تحطيم هذا الاستلاب المغلّف بالقناع الديني.
وقد حاول رجال الكنيسة، بحكم نظرتهم القاصرة إلى الإنسان، اعتباره قاصراً وضعيفاً، الأمر الذي يعني الإبقاء عليه بعيداً عن واقعه، بتقديم عالم خيالي ومثالي له بديلاً عن الواقع المعيشي.
إنّ ما ورد على لسان ماركس في كتابه (نقد فلسفة الحق لدى هيغل) من أنّ “الدين أفيون الشعوب” لم يفهم في سياقه. أولاً، فالأفيون في القرن التاسع عشر كان علاجاً طبياً وقانونياً يستعمل في الطب، وتتعامل به المستشفيات والمراكز الصحية، لا باعتباره مخدّراً ساماً أو مدمّراً لجسم الإنسان، وإنما هو مسكّن مؤقت من الآلام والأوجاع، ولم يكن النظر إليه كعمل إجرامي أو فعل مخالف للقانون، كما هي الحال في الوقت الحاضر، بل كان أمراً مرخصاً له ومسموحاً به ومفيداً.
وأودّ أن أشير هنا إلى أنّ ماركس قد اقتبس عبارة “الدين أفيون الشعوب” من عمانوئيل كانط، حيث وردت هذه العبارة في كتابه (الدين في حدود الفعل البسيط)، أما عن السياقات المستفحلة فيه فهي التطمينات التي كان الرهبان يقدّمونها عند رؤوس الموتى، فالخوف الجسدي من الموت هو الذي يعطي الشرعية لهذا التطمين، وليس الألم الأخلاقي أو وخز الضمير.
وإذا كان هناك في الدين المسيحي ما نطلق عليه اسم الإكليروس، وهي مؤسسة منظمة طبقاً لتسلسل هرمي وفقاً لتعاليم الكنيسة، وهؤلاء يلعبون دوراً وسيطاً تستمد منه الكنيسة سلطتها ووجودها، فلا يوجد في الإسلام مثل هذا الهيكل التنظيمي، علماً أنه توجد في الإسلام فِرَق ومذاهب واجتهادات فقهية تلتقي وتتعارض، ولذلك كان من خطأ الماركسيين العرب استعمال نفس تعاليم ماركس وإنجلز بشأن الدين، نظراً لاختلاف الظروف والأوضاع بينهما. لقد حاكمنا الدين من موقع أوروبي ومسيحي، وكان ذلك أحد أخطائنا الفكرية الفادحة.
لعلّ أطروحة ماركس بشأن انقراض الدين لم تكن صحيحة، وهو ما دحضته الحياة ذاتها، فالدين لم ينقرض أو يتراجع، على الرغم من تقدّم العلم. وقد حاول غرامشي، بعد ماركس وإنجلز، إعادة النظر في المسألة الدينية، لكنّ نهجه ظلّ بعيداً عن توجهات الماركسيين العرب، وقد استمدّ غرامشي نهجه من البراكسيس، أي الممارسة الكفاحية العملية، ولم يستمدّه من الكتب والتعليمات. لعلّ ذلك يجعلني أميل إلى استنتاج أساس بشأن موقفي من المسألة الدينية بالقول: “إنّ الظاهرة الدينية ظاهرة دائمة ترتبط بالوعي والثقافة الشعبية، وهي تعبير عن الإحساس المشترك الذي كان علينا إدراكه والتعامل معه من موقع نقدي، وليس من موقف نفي، وكان علينا الاستفادة منها بدلاً من صدمها أو التصدّي لها، وقد التفّت الجماهير حولنا يوم التقطنا مدى تعلّقها بهذه الظاهرة التي وظّفناها بالاتجاه الصحيح.”  وقد أورد الباحث، من ذاكرته الطفلية التي احتفظ بها، كيف كان الناس يردّدون شعارات الحزب الشيوعي في المواكب الحسينية، أعوام 1954 و1956 و1957، وهناك شذرات أخرى في أواسط الستينيات.  ويوم ترفّعنا عليهم، بل وتصادمنا معهم ومن خلالهم مع الدين ككل (بعد ثورة 14 تموز/يوليو/1958 وفيما بعد 17 تموز (يوليو) 1968) حين اتّخذنا موقفاً مماثلاً لموقف حكومة البعث، بل ومزايداً أحياناً من قِبل بعض القياديين، لا سيّما خلال أحداث شباط (فبراير) 1977، وطالبنا باتخاذ إجراءات قسرية ضد المحتجيّن، خسرنا بيئة كان يمكن كسبها لصالح قضية التغيير، وهي البيئة التي تغنّينا بها وتغذّينا عليها طيلة عقود، لأنها بيئة الفقراء والكادحين والمحرومين.
وبدلاً من أن نوجّه بعض النقد إلى إجراءات القمع المشدَّد، وإلى بعض رجال الدين الفاسدين، وجّهنا نقدنا أحياناً، حتى دون أن ندري، إلى الدين والإيمان الديني والجماهير المؤمنة التي اتهمناها بالرجعية، وطالبنا بإنزال العقاب الصارم بحقها، بل سَخِرنا من بعض الممارسات الدينية، أو أهملنا التعاطي معها، من موقع متعالٍ ومترفّع، وهو ما عملت على استثماره الحركة الدينية، ووظفته لاحقاً ضدنا على نحو مسيء.
إنّ إلغاء الدين يعني إلغاء التاريخ، وهذا الأخير لا يمكن للحاضر أن يوجد دونه، ولا يمكن البدء من الصفر، وهو ما تبنّاه غرامشي على مستوى المنهج، لا سيّما للحزب الشيوعي الرديكالي.
وبحسب المفهوم التقليدي بشأن الدين، فإنّ الماركسية تعتبره نتاجاً خاصاً بالمجتمعات الطبقية، ومحكوم عليه بالاختفاء مع انتفاء الملكية الخاصة. وهكذا ربط التأويل الماركسي التقليدي الأرثوذكسي ذلك بالصراع الاقتصادي، في المجتمع الرأسمالي، بين البرجوازية والبروليتاريا، وبانتصار الأخيرة يكون الدين قد اضمحلّ تدريجياً. ولعلّ هذه الاستنتاجات النظرية المجرّدة هي التي اعتُمدت لدينا كنماذج للتعبير الثقافي في النظر إلى الظاهرة الدينية، في حين أنّ الحقيقة كانت باتجاه آخر، وهو ما لمسته خلال فترة عيشي وتنقّلي في الدول الاشتراكية، في السبعينيات، وما كان له من تأثير في التطورات اللاحقة التي أدت إلى انهيار الأنظمة الشمولية.
استناداً إلى هذه النظرة المسبقة اُعتبِر التاريخ الإنساني واحداً ويتطوّر باتجاه حتمي واحد ووحيد، والدين لديها مجرّد جهاز اضطهاد اجتماعي أو “آيديولوجيا متدنيّة” لا مكان لها في المجتمعات ما بعد الرأسمالية، لأنه معرقل للتقدم ولا تصبح له أي ضرورة تدريجياً، وهي النظرة التي تمّ اكتشاف هزالها في الواقع العملي.
يقسّم بليخانوف الوعي الديني إلى عنصرين: الأول إيماني والثاني اجتماعي، ويلعب الوعي الديني، حسب كارل ماركس، أدواراً متناقضة، سلباً أو إيجاباً، فهو من جهة “زفرة المضطهدين” في التعبير عن احتجاج الجماهير على الواقع، ومن جهة أخرى يساهم في “صياغة الوهم”، بتوظيفه من جانب القوى الاستغلالية لإدامة استغلالها، ولعلّ هذا الجانب الثاني هو المفهوم الذي شاع عن رؤية ماركس للدين، لا سيّما أنّ الوعي الديني كان هو السائد على أشكال الوعي الأخرى من فلسفة وعلوم وأخلاق، وشكّل الدين آنذاك الشكل الخارجي للصراعات الاجتماعية.
الآيديولوجيا الدينية، بذاتها ولذاتها، ليست رجعية أو ثورية، وإنما هي تتلون باللون الذي تعطيه إياه القوى الاجتماعية الحاملة لذلك الوعي وتكييفها لمضامينها لمصالحها. ولعلّ النقد لا ينبغي أن يوجّه إلى العقيدة الدينية والإيمان الديني والرؤية الوجدانية والروحية، وهذه جزء من منظومة متكاملة وخاصة للكون والطبيعة والمجتمع، ولهذا ينبغي أن ينصّب النقد بشدّة ضد التوجه السياسي، الفكري والاجتماعي، وضدّ دور بعض رجال الدين، لا سيّما في استغلال المشاعر الوجدانية والإيمانية الروحانية لتخدير الناس والتأثير في وعيهم وتوظيفه بالوجهة التي تريدها.
وعندما استخدمت القوى الماركسية في العراق المناسبات الدينية، لا سيّما عاشوراء وثورة الحسين ومواكب العزاء الحسيني، على نحوٍ صحيح وسليم اكتسب الدين بُعداً تقدمياً ضد الاستعمار والإمبريالية والقوى الرجعية، وضد الاستغلال والظلم، في حين عندما استقلنا من دورنا هذا، وتوجهنا إلى المكاتب، استحوذت الحركة الإسلامية على الجماهير وضخّتها بوعي جديد حوّلها إلى أداة مطواعة بيدها، لا سيّما عندما نفخت فيها روح الطائفية المقيتة، فصوّتت لها في الانتخابات ووجَّهت تظاهراتها التي أسمتها بالمليونية، وهي المسيرات ذاتها التي كانت تندّد بمشروع النقطة الرابعة وتهتف ضد حلف بغداد والعدوان الثلاثي على الشقيقة مصر وتنتصر لثورة الجزائر وتطالب بالخبز والعمل والحرية.
ليس غريباً أن ترى عدداً من قرّاء المنابر الحسينية وسدنة الروضات الحيدرية والحسينية والعباسية والكاظمية كانوا قد انخرطوا في الحزب الشيوعي بكثير من الاعتزاز لأنه كان يعبّر عنهم، بل ويمثّلهم، في طموحهم نحو مجتمع أكثر عدلاً وحرية ومساواة، وقد كانت تلك الظاهرة طبيعية في ظروف حضور الحزب الشيوعي القوي، لكنها كادت تختفي منذ عقود من الزمن.
لهذا يكتسب الحديث اليوم عن الظاهرة الدينية والماركسية بشكل عام، لا سيّما الظاهرة الإسلامية، أهمية خاصة في بلادنا، نظراً للتابوهات والمحرّمات التي تميّز بها المجال الديني، والحساسية الكبيرة التي تكتنف الموضوع في نقاش هذه الظاهرة. ولعلّ واحداً من الأسباب هو الغموض الذي تمتد جذوره إلى الماضي أحياناً أو بعض التصرّفات الطفولية أو الحسابات القصيرة النظر المتعلقة ببعض المصالح، ناهيكم عن الدور السلبي لبعض رجال الدين الذين يشعرون أنّ أيَّ مرجعية عقلانية حداثية يمكنها أن تؤثر في مواقعهم.
ثالثاً: الدين هو روح عالم بلا روح
لم تولِ الحركة الشيوعية الرسمية العربية الحركة الدينية الاهتمام الكافي، بل إنها إما اتخذت منها موقفاً عدائياً أو تجاهلتها، وعندما اضطرّت إلى التعامل معها في التسعينيات، خصوصاً في العراق بعد الهجرة الواسعة، سعت لكسب ودّها ورضاها، وحصل الأمر على نحو شديد التزلّف بعد احتلال العراق عام 2003 وصعود الموجة الدينية الطائفية. والحركة الإسلامية من جانبها شعرت بالكثير من الغرور والتعالي وهي تتعامل مع الحركة الشيوعية والماركسية، وتعتبر أنها إنما تأتي إليها وهي صاغرة ومهزومة في صراعها مع الحركة الإسلامية، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء المالكي مؤخراً في حديثه بمناسبة الذكرى 32 لغياب المفكّر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر (نيسان، 2012).
في السابق كانت الحركة الشيوعية موجودة وسط الكادحين والفقراء في المدن وفي الريف أيضاً، وإذا كان الوسط الثقافي والطلابي هو ساحتها الأساسية، إلاّ أنّ مساحة حركتها أوسع بكثير لأنها أقرب إلى العقلانية، فإنّ الإبتعاد عن الشغيلة والكادحين، حيث يكون الإسلام قريباً، طرح مسألة الدين على بساط البحث، لا سيّما بصعود تيار الإسلام السياسي. وعلينا أن نأخذ الإسلام كقوانين شريعة بحاجة إلى جهد وضعي يتم تكييفه أو تعقيده حسب الجهة الممسكة بالسلطة، أي تسهيله أو تصعيبه، كما أنه جزء من مكوّنات الهوّية، بغضِّ النظر عن الإيمان من عدمه.
قد يشعر غير المؤمن أنّ هويته إسلامية لأنه جزء من حضارة لا يمكنه التبرؤ منها، كما أنها حضارة فيها الكثير من الجوانب الإنسانية والعقلانية التي يمكن توظيفها لخدمة أهداف الراهن، ولذلك فإنّ الايمانية حقٌّ للمسلم، وله حريته في الإيمان، ونقل الصراع إليها أمر خاطئ، بل وضارّ، ويدلّ على الاستخفاف بالمشاعر الإنسانية والإيمانية وبطبيعة مجتمعاتنا، وعلى عدم فهمها.
إنّ عبارة “الدين هو روح عالم بلا روح” هي ردٌّ على الفكرة المادية المبتذلة، من أنصارها أو من خصومها، التي تعتبر الماركسية تهتم بالماديات فقط، وهي نقيض الروح التي تجسّد القيم الأخلاقية والإنسانية والمثل العليا، ففي استخدام ماركس يرى أنّ الحضارة الرأسمالية هي التي سلبت البشر روحهم، أي قضت على دينهم الحقيقي، ولأنه يريد القضاء على الاستغلال فإنّه يريد تحرير الروح من الهيمنة الرأسمالية من جهة، ومن جهة أخرى منع استغلال تلك الروح من قِبل المؤسسات الدينية التي توظفها بالضدّ منها. وكم هي صحيحة هذه اللفتة للتأمل في الردّة الحالية نحو التديّن تحديداً بسبب خواء رأسمالية عصر العولمة القيمي وفسادها الأخلاقي وفقرها الروحي، وهو ما يشير إليه المفكر اللبناني فوّاز طرابلسي.
يمكنني القول، دون وجل، إنّ ماركس كان طوباوياً في استنتاجاته الخاصة بالدين، والقائلة إنّ زوال المجتمعات الطبقية سينهي الحاجة إلى الدين، لا سيّما بزوال الظلم والاستغلال، الأمر الذي يتناقض مع الطبيعة البشرية، فألغاز البشر لا حصر لها، ولا يمكن الإجابة عنها بمثل هذه الاستنتاجات الخفيفة الوزن، كالحياة والموت والمخاوف الإنسانية من المجهول وعدم القدرة على تفسير بعض الظواهر، وهذه بحدّ ذاتها تستوجب بقاء الحاجة إلى الدين، الحاجة التي قد تكون أبدية.
إنّ وظيفة الدين تتجاوز النقد الفلسفي، وتمتد إلى الجوانب العملية، إذ بإمكانه تعبئة طاقات الناس نحو أهداف سياسية واجتماعية، وهذه تتموضع وتتحدد حسب المكان والزمان والمجتمع والجهات المهيمنة والمسحوقة.
للأسف فإنّ بعض من النقاد عند حديثهم عن الماركسية يقصدون ماركس دون غيره، أو معه إنجلز على أقل تقدير، وعلى الرغم من أنه يمثل النص الأول أو القراءة النقدية  الوضعية الأولى، لكنّ تلك القراءة ليست الماركسية كاملة، خصوصاً وقد اغتنت بمعارف وعلوم القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، إذ لا ينبغي الوقوف عند استنتاجات كتاب (رأس المال) ونحن في عصر العولمة، وفي مرحلة ما بعد الكولونيالية والإمبريالية، على الرغم من أهميته واستناده إلى عدد من القوانين التي تمّت الإشارة إليها، والتي لا تزال صحيحة.
الماركسية الأولى هي علم الرأسمالية بامتياز، حين اكتشف ماركس قانون التطور التاريخي للمجتمعات البشرية، وقد اغتنت هذه الماركسية بكونها علم الكولونيالية والإمبريالية، وهي علم يتعلق بالتحرير القومي والاعتراف بالقوميات والأقليات التي أطلق عليها ” التنوّع الثقافي”، وإذا كان ردّ بعضهم أنّ العالم العربي، والعالم الثالث بشكل عام، بلا طبقات واضحة ومحددة، فالماركسية لا تقتصر على ذلك، بل هي أكثر من غيرها أطاحت بالرأسمالية العولمية، لا سيّما رأسمالية التوسع الإمبريالي التي تستوجب ماركسية للتحرر الوطني والاجتماعي.
وتلك قيمة مضافة ينبغي على ماركسيينا التمسك بها، سواء في العالم العربي أم في العالم الثالث الذي لا يزال يعاني الاستغلال الإمبريالي المعولم والمركزية الأوروبية- الغربية الشديدة الإسقاط على مجتمعاتنا، خصوصاً محاولة تهميشها وإلحاقها واستغلال ثرواتها وشعوبها.
لقد حوّلت أوروبا الدين، لا سيّما بعد عصر التنوير، إلى مجرد تقليد ومحاكاة، وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأنّ الله يمثل القوة الكامنة التي ينسب إليها كل شيء، وأنّ الفرد والمجتمع بحاجة إلى التقرب إليها، لكنّ الأمر، تدريجياً وفي ظلّ عالم الحداثة، اتّخذ بعداً جديداً، بإضعاف دور الدين على حساب دور الدولة التي حاولت التأثير على المؤسسات الدينية لتتساوق مع مؤسسة الدولة العليا.
كان اكتشاف إسحاق نيوتن قوانينَ الفيزياء الحركية والميكانيك صدمة مؤثرة لعالم الغيب الذي ظلّ الدين متمسّكاً به، الأمر الذي وضع هذه القوانين في إطار الدراسة والفهم والتطوير، دون العودة أحياناً إلى نصوص دينية بإضفاء طابع التقديس عليها، وبالتالي جعلها فوق العلم وتجاربه!
ومع أنّ مثل هذه القوانين لا تلغي الحاجة إلى الدين وإلى الروحانيات، فقد أخذ نجم العلم يرتفع عالياً، وقد ترافق هذا الأمر مع نظرية داروين واكتشافاته، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي دعا فيها إلى اعتبار أنّ الكائنات البشرية قد تطوّرت من أصل واحد بسبب طفرات جينية ووراثية، الأمر الذي يتعارض مع الأطروحات الدينية التي تقول “كلّنا من آدم، وآدم من تراب”، وهكذا ارتفع رصيد العلم على حساب الدين.
وهكذا جرت محاولات لتبهيت صورة الدين، فقد نظر أوغست كونت،  مؤسس الفلسفة الوضعية، إلى الدين باعتباره استلاباً فكرياً أما فيورباخ، الذي تأثر به ماركس في موقفه من الدين، فاعتبره استلاباً أنتروبولوجياً (إنسانياً)، وذهب عالم النفس سيغموند فرويد  إلى اعتباره استلاباً نفسياً، بل وهماً يُصنع في العقل الباطن مثل بقية الأوهام. وحين قرر ماركس، في المسألة اليهودية، ملامسة موضوع الدين اعتبره استلاباً اقتصادياً واجتماعياً، لكن على الرغم من كل ذلك، فالدين لم ينقرض في الغرب، مثلما بشّرت بعض الأطروحات، وعاد بقوة في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، مثلما لعبت الكنيسة في أمريكا اللاتينية دوراً في ما سمي لاهوت التحرير. فما بالك به في الشرق، خصوصاً في البلدان العربية والإسلامية، حيث الروحانيات وحيث المجتمعات ما زالت بعيدة، في الكثير من الأحيان، عن الماديات، كما هي في الغرب، لا سيّما حين تعجز الأرض عن إيجاد حلول لمشكلات الفقر والمرض والبطالة والعيش الإنساني والحرية، فلا بدّ من البحث عن معالجات لها في السماء، وبالوعد باليوم الآخر، فضلاً عن قلق الانسان وهواجسه منذ الأزل بشأن لغز الموت والحياة والولادة وأسرار الطبيعة التي تظلّ قائمة مهما تقدّم العلم، فهناك مناطق فراغ لا تشفي غليل الإنسان ولا تطمئن روحه.
يقول الباحث الفرنسي فردريك لينوار، المختص بفلسفة الأديان وسوسيولوجيا الدين، إنّ 93% من الأمريكيين و67 % من الأوروبيين يؤمنون بالله، لكنّ ذلك لا يعني أنهم جميعاً يمارسون الطقوس والشعائر الدينية أو يلتزمون بتعاليم الدين، فهذه المسألة إنسانية وتتعلق بالوجود الإنساني على مرّ التاريخ، وفي جميع المجتمعات والأمم.
ولعلّ نسبة الذين يذهبون إلى الكنائس والجوامع والحسينيات قد ازدادت في العالم خلال الثلاثين عاماً الماضية، لكنّ ارتفاعها كان هائلاً في بلدان الشرق، ومن جانب المسلمين، على نحو شديد.
إذا كان الوقوف عند بوابة الحداثة (MODERNISM ) التي تطلق باب الحرية للعقل والتفكير وتقلّل من سلطات المقدّس، فإنها، في الوقت نفسه، تؤكد أنّ التغيير أمرٌ لا مفرّ منه، فالقديم قديم بالتأكيد، مثلما أنّ الحاضر سيغدو قديماً، فتلك سنّة الحياة، إذ إنّ التطور والتغيير هما السمتان المطلقتان في الحياة، وما عداهما نسبي، الأمر الذي يحتاج إلى تحديث MODERNISATION  وإلى حداثة MODERNITY ، كما أنه بحاجة إلى تجديد ورفض التقليد، وهذا حسب آلن تورين، يحتاج إلى العقلانية RATIONALISM  وإلى انفجار معرفي، أي التركيز على العقل والعلم.