ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
البيت في أعلاه قاله المتنبي قبل أحد عشر قرنا، وقبله ثبت رواة الحديث عن النبي محمد أقوالا “على ذمتهم” منها: “إن الله جميل يحب الجمال”. “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا”. “إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله”.
سأبقى في ساحة المتنبي -لا ساحة النبي- ألملم شيئا من درره، لاسيما أن موضوعي اليوم عن الجمال ومحبي الجمال وكارهيه.
العراق، بلد يمتد تأريخه إلى بضعة آلاف من السنين، وقد روى التأريخ أن الإنسان في هذه الرقعة، شاء قدره أن يكون رائدا للتحضر على كوكب الأرض، إذ شهدت الحضارة على يديه إرهاصاتها الأولى، وعلى يديه أيضا ولدت مفرداتها ونشأت أدواتها المادية والعينية والفكرية، ومن الطبيعي أن تتبلور مفاهيم الحياة لديه وفق المعطيات المتوافرة في أرضيته. ولما كانت أرضيته خصبة، ولديه رافدان جعل الله منهما كل شيء حي، فإن نتاجاته الفكرية والثقافية جاءت ملائمة للمعاني الجميلة في الحياة، ولجوانبها المشرقة والقريبة من دعة العيش ورفاهيته، إذ من ضمن المعطيات التي وفرتها له الطبيعة الماء والخضراء، أما الوجه الحسن فهذا ماعليه إيجاده وتهيئة الأجواء لظهوره.
وبالعودة إلى الحقب الأولى من حضارة وادي الرافدين، نرى أن الاهتمام بالجوانب الجميلة التي تحيط الإنسان كان ينصب في تجييرها لخدمته، وجعلها أداة من أدوات إسعاده، لذا فقد تفاعل معها من كانت لديهم مواهب فطرية. فالشعراء -على سبيل المثال لا الحصر- راحوا يتغنون بكل ماهو جميل ونافع ومثير للاعجاب، وتناولوا كل جميل تقع عليه أعينهم. فمن اختلاف الليل والنهار اقتبسوا صورة التبدل العاجل، وما تؤول إليه الملموسات والمحسوسات والمرئيات، وقد استعذب وصف الليل الجميل الطويل حتى الأسارى، فقد أنشد أبو فراس الحمداني في سجنه:
وأسرٌ أقاسيه وليل نجومه
أرى كل شيء غيرهن يزول
تطول بي الساعات وهي قصيرة
وفي كل دهر لا يسرك طول
ولنرَ الشاعر بشار بن برد، هذا الإنسان الأكمه الذي لم يرَ النور قط، كيف تعامل مع الليل كمفردة لم يرها يوما، وكيف صوره بخيال جميل حيث قال:
خليلي ما بال الدجى ليس يبرح
وما لعمود الصبح لا يتوضح
أضل الطريق المستنير طريقه
أم الدهر ليل كله ليس يبرح!
ولايتوقف عشق العراقيين لمكامن الجمال أينما وجد، حتى أن أحدهم يرى ما يراه أصحابه مساوئ في محبوبته محاسن، فيقول مصورا حوارا معهم:
گالوا طويلة گلت چاووش للعسكر
گالوا گصيرة گلت ياگضبة الخنجر
گالوا اصفيرة گلت الزعفران اصفر
گالوا اسميرة گلت.. ياريحة العنبر
مما تقدم -وغيره كثير- يتضح أن سكان وادي الرافدين يهوون الجمال حتى وإن كان حالكا، وتغزلهم بالليل وتشبيبهم بسوداويات البشرة شاهد على هذا.
كذلك هناك شواهد أخرى لا تحتويها مجلدات، على ولع سكان وادي الرافدين بالتشبيب بالجمال، والجمال لديهم لاينحسر بليل أو عيون أو شَعر أو قد وقوام، بل أنهم يبحثون عن الجمال في كل شبر من أرضهم، وكأن لسان حالهم يقول: “إن لم نجده عليها لاخترعناه”.
وعن ورثة سكان وادي الرافدين، أعني العراقيين في القرن الواحد والعشرين، هل صانوا التركة الجميلة التي ورثوها عن أجدادهم؟
هل حافظوا على خصلة حب الجمال واحترام أماكن وجوده؟
هل تعاملوا مع الجمال لفظا ومعنى ولمسا وحسا كما ينبغي؟
هل تدبروا آيات كتابهم المنزل التي تتناول الجمال في العيش والمعاملة، دون الإصغاء لمن ارتدوا لباس التدين وهم بعيدون عنه كل البعد، ومن نصّبوا أنفسهم وسطاء بين الإنسان وخالقه؟ الذين يسعون إلى تجريد الإنسان من الوجه الحسن، ومن يعلم؟ فقد يشمل التجريد الماء والخضراء بعدها.
أسئلة، من رام البحث عن إجابات لها، يجدها في “ثلاجات” مستشفى الشيخ زايد في بغداد، حيث جثامين “تارة فارس شمعون” و “رشا الحسن” و “رفيف الياسري”.