23 ديسمبر، 2024 5:12 ص

المؤسسة الدينية تمسك التفاحتين بقبضة واحدة

المؤسسة الدينية تمسك التفاحتين بقبضة واحدة

التأمل في الدور السلطوي الذي تلعبه المؤسسة الدينية في النظام السياسي والاجتماعي يضعنا أمام واحدة من أكثر مفارقات الواقع العراقي المعقد إثارة للغرابة، والسؤال. ليس، فقط، لأن هذه المؤسسة تفتقد لأية موقعية دستورية، وتبدو كما لو كانت دولة تبتلع الدولة، وإنما، بدرجة مساوية، لأن سلطتها لا تثير حفيظة أي من الأطراف السياسية، بل أكثر من هذا، يريد لها الجميع أن تلعب هذا الدور، وكثيراً ما يطريها على التزامها بلعبه، وقد يكللها بتيجان المديح وأكاليل البلاغة الجوفاء!

أكثر الأوصاف، التي تطلق على المؤسسة الدينية، تردداً هو وصفها بـ”صمام الأمان”، ولعل هذا الوصف مدخل سريع يوصلنا لجوهر العمل الذي تقوم به المؤسسة الدينية. فما الذي يعنيه هذا الوصف؟

قبل العام 2003 كان وجود المؤسسة الدينية يمثل بالنسبة للأغلبية السكانية (الشيعة) رمزاً للهوية التي يشعرون بأن الدولة تهددها، وهكذا كان التفافهم حولها، وتمسكهم بها عنواناً للتمسك بالهوية، من حيث الحقيقة والجوهر، إذ لم تكن المؤسسة، من خلال ممثلها الرسمي، أو ما يسمى بالمرجع الأعلى تقدم شيئاً يجعله مستحقة لتكون محط أنظار الناس، بل لعل هؤلاء كانوا سينفضّون عن المؤسسة تماماً لو قيض لهم الوقوف على حقيقتها. 

التفاف الأغلبية حول المؤسسة الدينية منحها ثقلاً سياسياً كبيراً، وجعلها أكثر المؤهلين للعب أخطر الأدوار التي كان المشروع السياسي الأمريكي يبحث عن لاعب ماهر له، وهو دور العراب المحلي القادر على ضبط مسارات الأفعال وردود الأفعال لدى الأغلبية، وهو ما لعبته المؤسسة ببراعة قاسية، بل مجرمة، يمكنك تصور مداها من مقارنة صور الجحيم الذي عاشه، ويعيشه العراقيون، وردود الفعل البليدة، وأفق الخيارات المسدود، الذي قابلوه به.  

النظام السياسي الفاسد على مستوى البنية والعناصر ما كان له أن يستمر لولا العراب المحلي الذي سخر من أجله جميع الأوراق، وأخطرها، لاسيما الورقة الدينية، والطائفية، التي أظهرت النظام القائم بصورة الفارس المحامي عن التشيع، وأطهرت خصومه بصورة الذئاب الغادرة التي تتحين الفرصة لاعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

الربط المزيف بين النظام القائم، وتاريخ التشيع أفرز سردية تصور النظام ومواقفه عبر استعادة الرموز، والمواقف ذات التأثير في الوجدان الشيعي، الأمر الذي كان له أثراً وبائياً على الوعي الشعبي الشيعي، الذي أصبح الماضي المجتر، بالنسبة له، عنصراً يوازي، إن لم يفُق الحاضر في تحديد دلالات المواقف، واتخاذ القرارات.

آلية تغييب الوعي، أو نفيه إلى الماضي وفرت للمؤسسة الدينية الفرصة للقبض، بكف واحدة، على القرار الشعبي الذي يفترض أن يكون متمرداً، ورافضاً للنظام الفاسد، والنظام نفسه. فقد استطاعت أن تلفق مساحة توافق، أو تصالح بين النقيضين، عبر تعويض، أو ملئ فراغات المرارة في الحاضر بعسل الماضي الشهي، فالأوقات الصعبة التي سببها الأول فساد أصحاب الأيدي المتوضئة، كما يزعمون، صارت لا تكتسب معناها  عبر النظر إليها كبنية قائمة بذاتها، وإنما عبر ربطها بسلسلة التاريخ الطويلة، والنظر إليها على أنها حلقة من حلقات مسيرة طويلة.

لعبة التهجير إلى الماضي استمرت كل هذا الوقت، ولا أدري إن كانت ستستمر وقتاً أطول، وإن كان المرجح أن هذا ما سيحدث، لكن الأمر رهين، في النهاية، بمدى قدرة بذور الوعي التي تفتحت على البقاء والنمو والإثمار.