19 ديسمبر، 2024 12:56 ص

المأزق الإيراني الأخير

المأزق الإيراني الأخير

بعد كل الذي حدث، والذي سيحدث، ما زال المرشد الإيراني علي خامنئي وأعوانه العسكريون والمدنيون لا يقرأون الرسالة الجديدة المرسلة إليهم، لا من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وحده، بل من حكومات وشعوب عديدة أخرى اختصها النظام الإيراني بشظيةٍ واحدة أو بشظايا من عدوانيته وغروره وتعاليه وعناده وسوء نواياه.

وبالرغم من وضوح الرؤية لنهاية الطريق الذي يسيرون عليه فهم ما زالوا غير عازمين على أن يعقلوا، ويجنحوا للسلم، ويعتذروا لشعبهم وشعوب غيرهم، عما تسببوا به لها من سفك للدماء، وتيتيم لليتامى، وترميل للأرامل، وحرقٍ متواصل للزرع وللضرع، طيلة السنوات السود الماضية، وأن يكتفوا بما جنوْه، هم لأنفسهم، من أول أيام حكمهم وحتى اليوم، من صفعات وعقوبات وانتكاسات، وأن يتجنبوا المزيد الذي ينتظرهم منها، قبل فوات الأوان.

ويتناسون أن العنجهية الفارغة لم تجلب لغيرهم من الحكام الحمقى والمجانين ولعوائلهم وشعوبهم وشعوب المنطقة كلها، وربما شعوب العالم البعيدة، أيضا، سوى خراب البيوت.

فلا خلاف، هذه المرة، على أن الرئيس الأمريكي ترمب حشرهم في الزاوية. فقد منحهممهلة ثلاثة أشهر للجلوس على طاولة التفاتوض، من جديد، لتصحيح بنود الاتفاق السابق، وإدخال تعديلات جديدة عليه مشددة ومؤكدة تمنعه من مواصلة التلاعب والغشفي مسألة التجارب النووية، وتجبره على التخلي عن أحلام تركيع الكبار، أسوة بحليفهالكوري كم جونغ أون. مع العلم بأن أي تراجع لابد أن يجر إلى تراجعات، وأي تنازل لابد أن يقود إلى تنازلات، حتى يأتيَ اليومُ الموعود، ويرحل، بعد عمر طويل.

فبعد الملف النووي لابد أن يُفتح ملف حقوق الإنسان الإيراني، وملف تمويل الإرهاب،وملف نشر الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، وما خفي كان أعظم.

أما إذا كابر، وركب رأسه وتحدى هذه المطالب الأمريكية التي هي، في الوقت نفسه،مطالب أوربية أيضا ولكنها مغلفة بالسلوفان، وإذا ما أقدم على استئناف العمل في برنامجه النووي، كما هدد الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام، فسيجرُّ ذلك عليه وعلى شعبه وعلى المنطقة كلها ما وصفه ترمب بأنه (شيءٌ ما).

وفي مواجهة مأزق خطير وخطير جدا من هذا الحجم، ومن هذا النوع خرج المرشد علي خامنئي ليسخر من جهود روحاني الرامية إلى الاستمرار في الاتفاق مع الدول الأوربيالثلاث، بدون الطرف الأميركي، وليقول، وفقا لما نقلته وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية لاأثق بهذه البلدان الثلاثة، لا تثقوا بها أنتم أيضاً. إذا أردتم عقد اتفاق فلنحصل على ضمانات عمليّة، وإلا فإنَّ هؤلاء سيفعلون جميعاً ما فعلته أميركا.

واعتبر سبب معارضة أمريكا لنظامه هو أن أمريكا كانت مهيمنة بشكل كامل، وجاءتالثورة الإسلامية فحجَّمتها“.

وتعزيزا لخطاب المرشد علي خامنئي ثار الدم الحامي في عروق نواب الحرس الثوري فتوجهوا صارخين إلى المنصة، وأضرموا النار في العلم الأميركي، وهتفوا بموت أمريكا،وتوعدوها بجهنم وبئس المصير.

والحقيقة أن الله حين يغضب على شعب من شعوب الدنيا البائسة، مثلِ شعوبنا، يبتليه بهذا النوع من الحكام الذين يختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يعقلون، ولا يرون الصراط المستقيم، ولا يحبونه، ولا يقدرون عليه.

فمن عام 1979، تاريخ وصول آية الله خميني إلى طهران، و(المجاهدون) يتصايحون:(الموت لأمريكا) و(الموت لإسرائيل)، فلم تمت أمريكا، ولم تمت إسرائيل، بل حدث العكس. عاشت أمريكا حتى جاءهم رئيسٌ أمريكي شديد القوى، بعد أربعين عاما، ليَشدُدَ الحبلعلى رقابهم وهم لا يشعرون، وحتى تندم إسرائيل على صمتها عن وجودهم على حدودها فتدك قواعدهم في سوريا وهم ساكتون.

شيء واحد صدق فيه خامنئي هو اقتناعه بأن الدول الأوربية التي تجرُّ ناعما مع حسن روحاني لا تختلف عن أمريكا في موقفها من النظام كله في النهاية، ولكنها تحاول خنقه بقفازات من قطيفة ومن حرير.

وبكل الحسابات وبكل المقاييس يُمكن اعتبار الموقف الأمريكي الجديد هو مأزقَ النظام الإيراني الأخير.

فالرئيس الأمريكي ترمب، وهو محاصر بالكثير من المتربصين والمعارضين والشامتين، محكوم بالسير على طريق الألغام الإيراني حتى النهاية.

وليس أمام نظام الملالي في طهران سوى خيارين، كلاهما مميت. فإن تَجبَّر سقط، وإن تهاون وتنازل وتذلل كان، أيضا، من الساقطين.

فأمامه، مهما فعل وأينما استدار، صخرة أكبر منه وأخطر. فإما أن يتوقف أمامها، ويرضخ بالتي هي أحسن، ويتخلى عن مليشياته وجواسيسه ويغادر العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويعود، طائعا إلى عقر داره، ليواجه شعبه الغاضب العنيد، أو أن يناطحها، كما فعل قبلَه أباطرة كثيرون، فانتهى بعضُهم على مشنقة، وبعضٌ آخر في أحد مجاري المياه الآسنة، وآخرون برصاص جماهيرهم الغاضبة التي شربت من غبائهم وفجورهم وغرورهم وتخلفهم الكثير.