7 أبريل، 2024 4:44 ص
Search
Close this search box.

اللقمة الاخيرة

Facebook
Twitter
LinkedIn

الى فاء

(امرأة، وسرير يتمدد عليه رجل مشلول)

المرأة: ليس لك حق. مرّ يومان ولم تضع عينك في عيني! آتيك بالطعام، تتركه حيث هو! يومان لم تذق لقمة واحدة؟ أحشائي تتقطع! سيقتلك الجوع. أنت ضعيف تحتاج إلى طعام. لنفرض إنك غير راضٍ عني، أنت حر؛ لكن ما ذنبك تعذب نفسك حين ارتكب أنا الخطأ. آه، حتى أنت! ألا يكفي عذاب روحي وجسدي حتى تضيف عذابا جديدا إلي؟

(يدير ظهره لها)

المرأة:
تدير ظهرك؟ من حقك، فأنت مثل الحياة، لم تعطني وجهها أبدا! (صمت) عافني الجميع وحيدةً ولم يسأل عني أحد. تركوني أواجه مصيري في هذا العالم. والعالم لا يكترث. العالم ليس لديه قلب ليكترث بإنسان؛ إلى أن يُصبح رقما.. رقما مهما، حينها ستلتفت الرقابُ وتنحني إليه. ستحسب عليه همساته، وابتساماته وصمته حتى. أنا لست رقما، وكذلك أنت، لذا لا يلتفتُ إلينا العالمُ، ونُترك في العراء. آه! أين أنتِ أيها الأمل، لماذا لا تطرق بابي، هل ضللتَ الطريق؟ انك مثل عصفور.. طار..إلى البعيد.. ولم ينظر إلي على الأرض ولا التفت إلى ندائي أبدا.

(يتحرك الرجل، فتظهر يده اليمنى المشلولة ورجله اليسرى المبتورة)

المرأة:
اعرف ما تريده من عينيك وألبيه لك قبل ان ينطق به لسانك.  يأكلكَ الجوع؟ من اجلي، لقمة واحدة. سأشرح لك الأمر بالتفصيل. إذا اقتنعت كان بها؛ إذا لم تقتنع، نلغي الموضوع. ها؟ كُلْ لقمة، لقمة واحدة. هيا حبيبي.. (بغضب) أعرفك، تفرح دائما حين أتألم.. لطالما تُسقط نفسك من السرير كي ينخلع قلبي، تحرق ثوبي الجديد، كي تقتلني الحسرة وتجرح نفسك، كي ترى دموعي.. القسوة ليست جديدة عليك..

(المرأة جيئة وذهابا)

المرأة:
تعلم إنني لا احتمل ذلك. طيب، إذا لم تكن مقتنعاً ضع لقمة في فمك. وإن وافقت على كلامي؛ اشرب الماء. ما رأيك! كوب ماء إذا وافقت ولقمة إذا لم توافق! ها؟ موافق!

(ببطء يشرب رشفة من الكوب)

المرأة:
طيب. سأحكي لك عن امرأة. امرأة في عمري. أمامها ثلاثة دروب. هي حائرة لا تدري أي درب تسلك. تريد سماع القصة، ها؟

(بريبة يشرب رشفة من كوب الماء)

المرأة:
الدرب الأول، يا عزيزي.. من أين أبدأ؟ ها! هي.. لم تره. ولا تدري إن كان قد رآها. قد يكون رآها، لكنه لم يرها. اعني لم تجذب انتباهه. تعرف الرجال يبحثون عن الجمال. في الجسد إن لم يكن في الملامح. هي ليست جميلة. نحيفة جدا.. سمراء.. بين أسنانها فتحة كبيرة، وأعضاؤها ضامرة. ثيابها تلفها مثل كفن. لا  تُلفت انتباه احد.

(يأكل لقمة)

المرأة:
تصور ان هذا الدرب رجلا.. في الأربعين. رجل يساوي حائطاً، امرأة تقف في ظلّه. يبدو صلباً. مرَّ هو الآخر على ما يبدو بحياة عصيبة. هي تحب الرجل الذي مر بحياة عصيبة. لن يكون رخوا. سيحميها. تعرّضَ لحادث بَتر ساقه، وحرمه إحدى عينيه. يبقى مع ذلك رجلا. أليس كذلك؟

(يأكل لقمة)

المرأة:
طيب. هي أيضا لم تقتنع به. أبعد الحرمان تقترن بحرمانٍ جديد؟ كانوا طوابير عند باب بيتها. وكانت ترفض الواحد تلو الآخر. ظلّ عددهم يتناقص حتى فتحت الباب ذات مرة ولم يكن هناك احد. كلما تفتح الباب في الليل عند الغروب في المساء مع الفجر لا تجد أحدا. وحينما تعتقد ان الباب يُطرق، لا تجد أحدا أيضا. تسمع نباح كلاب بعيدة او صراخ أطفال ذاهبين الى المدارس. لم يكن هناك احد. حتى في البيت تتحدث إلى لا احد. لكن الدرب الثاني قد يكونُ أفضل، توافقني؟ أم أسوأ؟

(يأكل لقمة)

المرأة:
الدرب الثاني درب عجوز. درب موحش.. او بلغة أخرى هو رجل يناهز.. يناهز الستين. ناضج. أتدري كم رفضتْ في شبابها؟ كان طموحها كبيرا، اكبر من هؤلاء جميعا. ركضت خلف أحلامها ناسيةً نفسها، وحين خلا الدرب، عرفتْ ما يعنيه الليل، وعرفتْ ما تعنيه الوحدة. لذلك عادت إلى رشدها.. تفكر أنّـه قد يكون الخلاص..

(يأكلُ لقمة)

المرأة:
طوال عمرها وهي تزرع ليأكل غيرها. جسدها لم ينل منها سوى الإهمال. تمدده على البلاط العاري، تعرضه للشمس الحارقة، وتُغرقه بالإنهاك. لا يرتاح إلا في الإعياء. تنام كالموتى. ليلها سهدٌ، ونهارها كدّ وعناء.. وكانت السنين تجري. وصارت عروق يدها تبرز. كم تخاف من الزمن، انه وحش..لكن مهما تكن مازال  يخفق في داخلها قلب، صغير ورقيق كخد طفل رضيع.

(يأكل لقمة)

المرأة:
تريدها ان ترفض الدرب الأول والثاني! دلها إذن! هي حائرة، ضائعة، وحيدة.  تكلم لماذا هذا الصمت! الأول أم الثاني؟

(يأكل لقمة)

المرأة:
صحيح ان الدرب الاول قد يقودها إلى الإهمال فتكون رقما زائدا؛ لكن.. لكن.. والدرب الثاني ربما يهدر ما تبقى من عمرها، لكن..

(يأكل لقمة بسرعة)

المرأة:
تنتظر من؟ الدرب الأخضر؟ وهل هناك درب اخضر؟ هل هناك طريق آمن؟ لا بد من كلاب او ذئاب.. لابد من خوف ظاهر او مختبئ.. لابد من مجهول يرعبها، وظلام يلتهم بياض قلبها! تنتظر من؟ شابا جميلا؟

(يأكل لقمة)

المرأة:
نعم، شاب. الله! شاب جميل! ليس شرطا ان يكون شابا جميلا. يكفي ان يكون شاباً..  ولا شابا. بل رجل.  غني؟ ليس شرطا أن يكون غنيا. نصف غني. بل عادي، مثلنا. لا يملك إلا قوت يومه. المهم إنسان حنون. يحبها. ليس شرطا أن يحبها، بل أن يقبلها، أن يعترف بها ككائن.. وتعيش معه. تنجب أطفالا: سبعة. بل اثنان. ولد وبنت. ويقبل بك معها. شرطها الوحيد أن تبقى معها. أي درب لستَ فيه سترفضه. لن تخطو فيه خطوة واحدة.

(يشرب الماء)

المرأة:
ها؟ ما رأيك؟ هل تختار الدرب الثالث؟ الأخضر الذي قد يؤدي او لا يؤدي؟

(يأكل لقمة)

المرأة:
أتعتقد أنها ستعثر عليه؟ وتعيش كالآخرين؟! وتصبح امرأة ولو لمرة واحدة في حياتها!

(يأكل لقمة)

المرأة:
ها؟ يا شقي! ماذا تقول، هل تسلك الدرب الأول؟

(يأكل لقمة)

طيب. الثاني؟!

(يأكل لقمة)

الثالث؟!
(يأكل لقمة)

المرأة:
انت ترفض الدروب جميعاً! هذا يعني أن توصد الباب، إلى الابد! تعيش حرة من نوازعها. تنسى إنها انسان. تتخلص من رغبات جسدها! تلبس روحها مثل ثيابها وتخلعها حينما تريد! تفقد الأمل!  اشرب الماء أرجوك.

(يضع لقمة بعد الأخرى في فمه بهستيرية حتى  آخر لقمة في الماعون)

المرأة:
الكوب خالٍ، والماعون قد فرغ!
(صمت.. ثمّ تزقزق العصافير إيذاناً بالصباح)

المرأة:
لقد طلّ يوم جديد!

(انتهت)

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب