الى اخي وزميلي الدكتور عقيل عبد الرزاق
دلف إلى غرفتي مسرعا وهو يناديني بحنوه المعتاد : ابني عقيل.. عقدت الدهشة لساني وتوقفت أصابعي على صدغي المريضة التي كنت أفحص عينيها.. استدركت وتركت المريضة جالسة على كرسي الفحص ..نهضت مسرعا وأنا أسأله باستغراب وخوف بل رعب..ها عمي خيرا إنشاء الله ..كنت أردد ذلك التساؤل وأنا أحتضنه وأقبله مرة وأمعن النظر في وجهه مرة أخرى متفحصا وقد لمحت ذلك الشحوب الغريب الذي كان باديا عليه..كان عمي في السبعينات من عمره وكان لي بمثابة الأب الثاني ..توفيت زوجته هي ووليدها أثناء ولادة عسيرة قبل أربعة قرون ولم يتزوج بعدها..عاش بيننا وحين كبرنا وانتقلنا أنا وأبي وعائلتي الصغيرة إلى مدينة العمارة..ظل في بيتنا القديم في مدينتنا الأولى المجر.. يرعى شقيقته العانس..كان يعتاش من حانوته وكان يتردد علينا في نهاية كل شهر حين يستلم حصة حانوته من المواد الغذائية حيث كان وكيلا لمواد الحصة التموينية التي خصصتها الدولة للمواطنين في زمن الحروب التي ابتلى بها العراق…كان قد عودنا منذ الصغر على هداياه الصغيرة التي كانت تكبر معنا كلما تقدم بنا العمر… ظل السؤال يتكرر باستغراب على لساني ولم تنفع تبريرات عمي ومحاولته طمأنتي ..قال لي جئت أستلم الحصة التموينية وقد مررت على البيت وسلمت على الأطفال وكذلك قمت بزيارة شقيقاتك واطمأننت عليهم …قمت بإجلاسه في غرفتي وأسرعت إلى أقرب زميل من الاختصاصيين حيث اصطحبت مسرعا الدكتور نزار لكي يفحصه وقد قام بفحصه فعلا وسط دهشة عمي وتأكيده على أنه لا يشكو من أي مرض..أصر على أنه جاء لكي يطمئن علينا..كان مسرعا في مشيته وكلامه..وحتى أثناء تناوله كوبا من الماء ..ودعني مسرعا بالرغم من كل محاولاتي لاستضافته ..كان يستعجل الزمن كمسافر يحاول أن لا يفوته القطار…
في اليوم التالي وأثناء تلك الفوضى وصراخ الجرحى وأزيز الرصاص الذي لا ينقطع..كنا نحاول جهدنا أن نسيطر على ذلك الوضع المرعب والخطير في ردهة الاستقبال..أخبرني أحد المرافقين لجرحى مدينة المجر بأن عمي قد مات!!!هكذا وبكل بساطة قال لي وهو يعزيني: لقد قتلوه…
تهالكت على أقرب كرسي..تحول صراخ الجرحى وذويهم إلى طنين مزعج يئن في رأسي ..اختلطت الأفكار في رأسي وتدفقت ألاف الصور في ذهني..مر شريط من صور الماضي مرور البرق في ذهني..أيقضني جمع من الزملاء الذين التقطوا الخبر ثم قادوني إلى غرفة المدير العام الذي كان يقود العمل ويحاول جاهدا احتواء الوضع المأساوي في ذلك الصباح المصبوغ بالدم..كان همي الوحيد في تلك اللحظات هو كيفية جلب جثمان عمي من مدينة المجر لنقله إلى مدينة النجف!!كانت عملية دفنه هي همي الوحيد..ومهما كلف الأمر حتى لو فقدت حياتي..ليس هنالك أي سبيل للوصول إلى مدينة المجر ..ليس هنالك من يخاطر بحياته سوى من لديه جريح من عائلته لكي ينقله إلى المستشفى..لا سيارات..لا بنزين..الشوارع يملأها الرعب والرصاص..والموت المجاني..انفلت مارد فقئت عينيه فأخذ يضرب بيديه العملاقتين يمينا وشمالا..تنفس الحقد والثأر والكراهية والفرح في إن واحد فأخذ يعزف على أوتار البنادق..الجوع كشر عن أنيابه فتحول إلى كائن حي ومجنون..أخذ يلتهم كل شيء…لم تجد نفعا كل المبررات التي ساقها أمامي المدير العام وزملائي وهم يحاولون يائسين أن يمنعوا سفري إلى المجر..وأخيرا اقترحوا مضطرين أن أذهب بعربة الإسعاف..تبرع السائق عبد الزهره بإيصالي غير عابئ بالمخاطر الكبيرة التي سوف تواجهنا..
كانت هنالك حدودا جغرافية للمدينة ولكن لم يكن للموت حدود..كان كل من لديه سلاحا يرمي ..كانت البنادق ترمى من سيارات النقل العسكرية في الشوارع كلعب الأطفال .. الجميع كانوا يهيمون في الشوارع..الفرهود!! تلك التسمية التي سمعتها من كبار السن حين يتذكرون المناسبات التي رافقت سقوط الدولة والانقلابات العسكرية التي مر بها البلد..لكن الوضع ألان قد اختلف..فالجميع قد أتقن استعمال السلاح في ظل نظام قام بعسكرة المجتمع على مدى ربع قرن ولم يسلم من ذلك حتى النساء والأطفال والشيوخ..لم يكتفي الناس الذين اتخموا بالخبز الأسود وإفرازات الحروب ..لم يكتفوا بنهب مخازن الدولة ودوائرها..بل كانت هنالك عملية استقبال أفراد الجيش المنكسر العائد من الكويت..كان الجندي يبيع سلاحه مقابل علبة سجائر لكي يفيء بها النار التي تشتعل في داخله..البعض كان لا كتفي بسلب الجنود أسلحتهم بل يقوموا بقتلهم..سيارات أخرى كانت توزع الخبز الأسمر والتمر عليهم وآخرون يستضيفونهم في بيوتهم ..الشارع كان يعج بكل المتناقضات..
لم يكن الطريق إلى المجر سالكا فقد دمرت طائرات التحالف الجسر القائم على نهر المجر جنوب العمارة..اضطررنا إلى الانعطاف شرقا متجهين إلى ناحية الكحلاء ومن هناك سوف نسلك الطريق الذي يعيدنا إلى المجر بعد أن نجتاز مدينة قلعة صالح التي تقع جنوب المجر..كانت صدريتي الطبية التي كنت أرتدي هي جواز المرور الذي سوف ينقذني إضافة إلى صراخي وأنا أعرف بشخصي : أنا الدكتور عقيل طبيب العيون!! كان الطريق يعج بأنواع من المتاريس .. أول ما واجهنا مجاميع من المقاتلين الحائرين ..كان كل منهم تبدو الحيرة على محياه أفرادا وجماعات كانوا يمثلون جزءا من تلك القوة التي أرسلتها قيادة حزب البعث في المحافظة للقضاء على التمرد الحاصل في محافظة ذي قار وحين عادوا وجدوا إن الانتفاضة قد انطلقت في محافظتهم!! لم يجدوا الجرأة على دخول المدينة وليس لديهم أية أوامر أو خطة فظلوا حيارى ..استوقفوني وحاولوا أن يعرفوا ما يدور..وكنت أنا أيضا لا أعرف ما يجري على وجه التحديد..عرفت البعض منهم وكان همي الوحيد هو الوصول إلى المجر..أخبرتهم أني ذاهب لنقل الجرحى من المجر وقد سمحوا لي بالمسير..انطلقنا مسرعين …
كان اليأس من الوصول الى المجر يكبر عند مرورنا بكل ( سيطرة) تستوقفنا ..ففي كل مرة تستوقفنا مجموعة من الرجال وقد قطعوا الطريق بمختلف العوائق..كان أبناء القرى المجاورة قد استغلوا غياب الدولة فانتشروا في الطرق ونصبوا تلك العوائق لبمارسوا عمليات السلب وكانوا يستهدفون الجنود العائدين من الكويت ليسلبونهم أسلحتهم التي كانت تشكل إغراءا كبيرا لهم..كنت في كل مرة أعرفهم بنفسي فيسمحون لي بالمرور..كنت أشاهد السيارات وهي تحرق وبعضها ينهب ورأيت الكثير من جثث الجنود ملقاة على الشارع..
أخيرا وعند مدخل الكحلاء حاولت سيطرة أن تمنعنا من الدخول فأخبرتهم بأني مأمور من قادة الانتفاضة بجلب الجرحى من المستشفى ونقلهم إلى مستشفيات العمارة..سمحوا لي بالمرور وهم يكبرون..الله أكبر…ويطلقون العيارات النارية في الهواء..اجتزت بصعوبة تضاهرة كبيرة تنادي بسقوط صدام ..وكان الرصاص يطلق بكثافة ..اضطررت أن أذهب إلى المستشفى لكي أثبت صحة نواياي,,وجدت أن المستشفى يعج بالجرحى وكان الطبيب قد هرب خوفا من القتل..كان هنالك جريحا مصابا بجروح خطيرة ..قمت بتضميده وإعطائه المغذيات عن طريق الوريد ونقلناه إلى عربتنا أما الجرحى الآخرون فقد رفضوا النقل وفضلوا البقاء خوفا من الطريق الذي يعج بحوادث القتل ..اتجهنا إلى مدينة قلعة صالح وكانت الأمور تزداد سوءا خاصة على الجسر الذي يغنينا عن دخول المدينة ويعيدنا شمالا إلى المجر..قرب الجسر استوقفتنا مجموعة يحملون شخصا مصابا بجروح خطيرة أضفناه للجريح السابق وعلى الجسر كان جنود الفيلق السادس ينتشرون هناك..شاهدت على الجسر أحد الحزبيين مقتولا في سيارته..سمح لنا الجنود بالمرور بعد أن شاهدوا الجرحى وتفحصوا هويتي..لم يفوتهم تحذيرنا من مخاطر الطريق.
حين وصلنا إلى المجر كانت المدينة غارقة في فوضى كبيرة..في مدخل المدينة استوقفتنا مجموعة وأجبرونا بالسلاح على نقل جريحا أخر..حاولوا منعنا من الدخول والعودة بجريحهم إلى العمارة لكني أصررت على الذهاب إلى المستشفى ( حسب أمر قادة الانتفاضة !!) وبالفعل ذهبت إلى مستشفى المجر ..وهناك أجبرت على نقل ثلاثة جرحى آخرين فأصبح في عربتنا خمسة جرحى…لم يبقى في الإسعاف مكانا لجثمان عمي الذي أتيت من أجل نقله..
حين وصلت إلى دار عمي طلبت من سائق الإسعاف أن يأخذ جرحاه ويعود إلى العمارة بعد أن امتلأت العربة بالجرحى ومرافقيهم المدججين بالأسلحة والحزن والغضب!!
في الطريق إلى الدار اجتزت بصعوبة بالغة حشود من الناس لا عهد لي برؤية الكثير منهم..كان الرصاص ينهمر في كل مكان وكانت المدينة مغطاة بدخان الحرائق والمطر والضجيج .. كان البعض يسير في مظاهرات والجميع غاضبون ويهتفون بسقوط البعث وصدام كانت الصورة مأساوية تجمع بين العويل والبكاء والفرح والقتل ونهب مؤسسات الدولة وحرق المقرات الحزبية والأمنية….
تراءى لي أن القيامة قد قامت في المجر الكبير..لفت انتباهي أهزوجة كانت ترددها مجموعة متظاهرة : اطلع يلمهدي اوصفيها!!!وفي لجة حزني تذكرت المرحوم عمي وهو يقول عند حدوث كارثة أن ذلك علامة من علامات ظهور المهدي ( عج)
كان المرحوم في الستينات من القرن الماضي يحمل علما أخضرا كبير وقد كتب عليه ( يا حسين ) ::كان يتقدم به موكب الحسين في عاشوراء..وقد احتفظ رحمه الله بذلك العلم في بيته ملفوفا بعناية بالغة وموضوعا على أحد الرفوف في غرفته يعطره بماء الورد في كل مساء طيلة سني حكم البعث منتظرا اليوم الذي يأت وينطلق في الشارع حاملا إياه..
لا أدري هل حقق حلمه وحمل العلم في ذلك الصباح قبل أن تصيبه شظية حمقاء في شريان فخذه لينزف حتى يموت؟؟؟ لقد لاحظت أن (علم الحسين ) كما كان يسميه قد ألبس في سارية طويلة وأسند إلى جدار غرفته بجانب جثمانه ….كان عمي واقفا في باب بيته المطل على نهر المجر في ذلك الصباح الدامي حين انفجرت قذيفة هاون بالقرب من بيته كان قد أطلقها ( رفيق) فلسطيني يشغل منصبا اداريا في معمل قصب السكر وكان يستهدف المتظاهرين…