18 ديسمبر، 2024 9:00 م

اللقاء اﻷخير وقارورة العطر

اللقاء اﻷخير وقارورة العطر

أقصاها ثلاثون يوماً، هي الفترة التي تقرر منحها لمن يرغب في السفر خارج البلاد، غير قابلة للتجديد أو التمديد تحت أي ظرف. هذا ما أصدرته السلطات من تعليمات لمواطنيها، وهي ليست بالفترة الكافية والكفيلة بكل تأكيد لإشباع رغبة اﻷم من رؤية ولدها البكر، والذي كان قد تَغَرَّب مضطرا، أسوة بغيره ومنذ بضع سنين، بسبب اﻷوضاع السياسية التي عصفت بالبلاد. ولولا ذلك الإنفراج النسبي والمؤقت الذي تحقق آنذاك، إثر المفاوضات المضنية بين البلدين (الجارين والشقيقين والعدوين في نفس الوقت) لما كان لها أن تلتقيه، ولو كان اﻷمر متروكا لها ﻷختارت البقاء معه فترة أطول، لكن ما حيلتها فالوقت قد نفذ سريعا، وشروط الإنفتاح والتفاهم التي إتفق عليها حكام البلدين، بُنيت على أساس من أمنهما القومي بالدرجة اﻷولى، ومن ثم تَمَّ إلحاقه بجملة من الإجراءات التي ستدخل في هذا الإطار وتعززه. هذا ما تم نشره في الصحف الرسمية الناطقة بإسم النظامين، ودخل حيز التنفيذ، وبات معمولا به منذ تأريخه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بناءا على طلب الإبن وصديقه الذي يقاسمه إنتمائه السياسي، فقد توقفت سيارة التكسي التي أقلتهم من الفندق الذي شغلته والدته وأخته طيلة فترة بقائهما هناك، في مكان بعيد نسبيا عن محطة الحافلات المخصصة للنقل الخارجي، ولإعتبارات أمنية لم يكشفا عن دواعيها بشكل مفصل. سائق السيارة رفض تقاضي أجرته، فقد أعجبته اللهجة التي كان يتحدث بها مَنْ إعتبرهم ضيوفا على بلده، غير أنَّ اﻷم رفضت ذلك بل زادت على كرمه كرما.
في البدأ ساروا سوية، اﻷم وإبنتها والصديق وإبنها. ومع إقترابهم من الهدف المراد بلوغه، وبناءا على رغبة الإبن وبإشارة منه، أخذا بالتباعد شيئا فشيئا. ومع كل خطوة تخطوها اﻷم، كانت ترافقها دمعة ساخنة رغم وصايا الإبن الذي أجبِرَ على كتم مشاعره. ولكي يبعث في روحها شيء من الطمأنينة ولكي تراعي موقفه والحالة التي تُحيط به، فليلة عودتهما والتي إستمرت حتى ساعات الصباح اﻷولى، ما إنفك ولدها يعيد عليها: الدار هناك يا أمي ليست باﻵمنة، وأخشى عليكم من عيون العسس وآذانهم، ولن أكشف لك سراً إن قلت، بأنهم قد عبروا الحدود وباتوا على مقربة منّا، وترينهم يصولون ويجولون أمام أنظارنا، وتحت عناوين وواجهات مختلفة، يتقنها أصحاب السلطة، إنهما متشابهان يا أمي (يقصد نظام الحكم في البلدين) وما لنا من خيار نلجأ اليه حتى اﻵن، وقد تصلك من اﻷخبار في اﻷيام المقبلة، ما تفتح لنا أبواب النجاة ويستقر بنا المقام في دولة أخرى، آملا أن تكون أكثر أمنا وسلاما.
وحين تباعدا وبعد أن إطمئن وعلى ما يعتقد بأن لا عين تلاحقهم أو ترصدهم، فقد تشجعا على تبادل التحايا والتلويح لبعضهما البعض بحذر وإنتباه شديدين. في هذه اﻷثناء كادت اﻷم أن تعود أدراجها وتلتحق بولدها ثانية وليحدث ما يحدث، لولا بعض الإعتبارات التي أجبرتها على التراجع، فهناك مَن ينتظرها من الأبناء والأحفاد، الذين كانت قد تركتهم، تحت رحمة مَنْ لا رحمة له، فضلا عن توقيعها على ورقة، تعهدت فيها بالعودة ريثما تنتهي الفترة المسموح بها للسفر، والتي تمَّ الإتفاق عليها سلفاً وإلاّ سيحدث ما لا يُحمد عقباه.
إستعانت بالصبر وبالصمت وبدعاء كان والدها حين طفولتها يردده على مسامع أهل بيته، وكلما إقتضى الحال وشعرَ بالضيق وإنحسار المنافذ، يدعو فيه خالقه أن يبرؤ كلَّ مريض ويُعيد كلَّ غريب الى أهله وحضن أمه. من ثمَّ راحت معتلية بصعوبة بالغة بضعة درجات، دخولا الى جوف الحافلة المقرر توجهها الى الوطن. تبعتها إبنتها، غير أن اﻷخيرة تعثرت قليلا، فقد تقاطع صعودها ونزول مساعد السائق، أهي مصادفة أم أنَّ هناك أمراً ما؟. لم تشغلها هذه الواقعة طويلا، فقلبها كان معلقا على قارورة العطر التي أهداها إياها شقيقها، وخشيتها من سقوطها وإنكسارها، ومن قبلها عليه (أخيها) الذي قد لا تلتقيه مرة أخرى.
ليس هناك من وقت محدد للإنطلاق، فاﻷمر وكما جرت العادة وما هو معمول به، يعتمد على مدى إشغال كل مقاعد الحافلة والبالغ عددها الخمسين. وما إن تجاوزت الساعة منتصف الظهيرة بقليل، حتى لاح من بعيد الراكب اﻷخير، يمشي الهوينا ولا يحمل معه سوى حقيبة يد صغيرة في يساره وفي اﻷخرى مجموعة من الصحف، وما عليه الاّ الصعود الى الحافلة مباشرة، دون القيام بأي إجراء آخر. إذاً على بركة الله، قال السائق لمساعده، في لغة بدت كما الذي يأخذ موافقته، وهذا ما لم نعتد عليه، فزمام اﻷمر ومع قيادة أي ركب غالبا ما تكون بيد القبطان أو الربان.
تحركت الحافلة. إنه يوم خير فها هو المطر بدأ بالتساقط، ليضع حدا لموجة الحر الطارئة، والتي ضربت البلاد في العشرة أيام اﻷخيرة. هذا ما قاله السائق وبصوت مسموع نسبيا، الاّ أن مساعده الذي يجلس بجانبه لم تظهر عليه أي من ردات الفعل. إتجهت الحافلة نحو الشارع المحاذي للنهر الذي ينتصف المدينة، لعله للمرة اﻷولى يختار طريقا كهذا. في ذات الوقت إنشغل السائق بالبحث عن أحد أشرطة الكاسيت المحببة الى قلبه وذائقته، فالطريق طويل ولا يمكن قضائه الاّ بما تطيب له النفس وتطرب.
الشوارع التي مرَّت بها الحافلة بدأت هادئة والحياة تبدو طبيعية نسبيا، والناس يتحركون بإنسيابية مُلفتة، يحسدون عليها، فنادرا ما تسمع صراخا يثير الإنتباه، أو عراكا باﻷيدي بين مجاميع لا يمكنك أن تقف على أسبابه أو تعطيه ما يبرره. هل هم طوع إرادة النظام ورهن إشارته، أم هو شعب هادئ بفطرته وطبيعته. أمّا هناك (يقصد بلاده) وإذا ما أجرينا مقارنة سريعة، فهم في فوضى وتوتر دائمين. ما حالنا قالها في سرّه هذه المرة، لعله لا يريد إسماع مساعده، فالأخير منشغل بالمرآة الداخلية للحافلة، وأكثر اﻷحيان تجده متطلعا بين فترة وأخرى الى البنت التي تجلس على المقعد الملاصق لوالدتها، والتي كان قد تقاطع معها على سُلَّمْ الحافلة أثناءصعودها.
بعد عدة محاولات وإعتمادا على الملصقات والإشارات الدالة، إهتدى أخيرا الى الطريق الرئيسي الذي سيؤدي في نهاية المطاف الى بلاده. في هذه اﻷثناء ومن دون أن يعطي الإيعاز لمساعده فقد قام اﻷخير بالتحرك نحو الركاب لجمع أجور السفر. وما أن بلغ السيدة وبنتها فقد تعمد الإطالة هناك، مفتعلا بعض الحركات التي ربما ستوهم اﻵخر بعفوية تصرفه. البنت من جانبها لم توليه إهتماما فقد كان شاغلها فراق شقيقها وقارورة العطر التي كا قد أهداها إياها قبيل لحظات من إفتراقهما.
وﻷن الطريق طويلة فقد راح قسم من الركاب يشاغلون بعضهم بعضا بأحاديث تضاربت في مواضيعها وفي جديتها، فهم مضطرون على ذلك، إذ حيلة لهم ولا منفذ، فالوصول الى عاصمة بلادهم والمحطة الرئيسية، ستأخذ من الوقت ما لا يقل عن إثني عشرة ساعة، هذا دون أن يضعوا في حسابهم عدد التوقفات. أما القسم اﻵخر فقد أضناهم التعب، ولعل أسبابه تعود الى الليلة الفائتة فراحوا في غفوتهم سارحين، أملا في تعويض ما فاتهم من ساعات النوم، فكثير من الناس يساورهم القلق مع كل ليلة سفر.
بعد بضع ساعات على الرحلة، بدت تظهر على ركاب الحافلة علامات التعب والملل، لذا تجدهم هادئين قانطين، غير أن ذلك الحال لم يستمر طويلا، فقد قطعه نحيب اﻷم على ولدها الذي تركته هناك. في هذه اللحظات ورغم أن البنت حاولت أن تخفي مشاعرها وإنفعالاتها طيلة الساعات المنصرمة على فراقها لشقيقها، الاّ أنها وبشكل مفاجئ إلتفتت الى والدتها لتحملها مسؤولية عودتهم الى بلادهم، فقد كانت أمامهم وكما قالت لها فرصة البقاء هناك فترة أطول، دون أن تضع في بالها حسابات تلك التعهدات التي أجبرَت والدتها على توقيعها وما سيترتب عليها من إلتزامات، كشرط لابد منه للسماح لهما بالسفر. حاولت اﻷم وبشتى الطرق إسكاتها، غير ان ذلك لم يأتِ بأية نتيجة، بل ذهب اﻷمر الى أبعد من ذلك، فصوتيهما بلغ مديات بات مسموعا من قبل ركاب الحافلة، لتشي محياهم بالسخط والإنزعاج.
اﻷنكى من ذلك هو طبيعة الكلام الذي كان يدور بينهما، فلو توقف على الصوت العالي والصراخ لهان اﻷمر، بل طال اﻷوضاع السياسية التي تمر بها البلاد وحالة الحرب الدائرة منذ سنوات، ولا من أمل يرتجى لإيقافها. واﻷخطر في حلقات كلامها أن أخذت تشن هجوما كاسحا على نظام الحكم في بلدها وسياساته القمعية، والتي طالت مختلف المكونات السياسية واﻷحزاب بما فيها تلك التي كانت حليفة لها حتى اﻷمس القريب، متوقفة وبشكل تفصيلي ومطول عند التصفيات الجسدية وحالات الإبعاد عن مراكز القرار المهمة، بحق كبار القادة والمسؤولين في جهاز الدولة، والتي أقدم عليها الحزب الحاكم.
إحدى السيدات ممن كنَّ في الحافلة ورغم كبر سنها وصعوبة حركتها، فقد حاولت أن تُسكت إنفعالات وأحاديث البنت وبكل الوسائل، هامسة أحيانا بأذنها بأنها ستنتظر مصيرا مؤلما إذا ما إستمرت على هذا النحو. وإستمرارا لجهودها فقد أشارت اليها بأن الحافلة التي تقلنا قد عبرت الحدود الدولية وأصبح ركابها تحت سيطرة وسطوة القوات اﻷمنية لدولتنا. في هذه اﻷثناء تعمَّد مساعد السائق على تخفيظ مستوى الصوت الصادر من مسجل الحافلة، ليصغي بوضوح الى ما كان يدور من كلام بين تلك البنت وَمَنْ معها، وكان له ما أراد.
وما هي الاّ دقائق معدودات حتى توقفت الحافلة عند نقطة التفتيش الخاصة ببلدها، وصوت البنت لا زال عاليا حيث فشلت كل الجهود المبذولة لإسكاتها. في هذه اﻷثناء قام مساعد السائق بالتوجه نحو ركاب الحافلة، طالبا منهم تحضير جوازات السفر من أجل التفتيش. في البداية تمنعت البنت عن الإستجابة، إذ لا زالت في حالة من التوتر، مما أدى بالمساعد القيام بضغط أكثر عليها وبلغة تنم عن تسلط واضح ولا يخلو كذلك من إستهتار في تصرفه. أخيرا استجابت لما أريدَ منها وبتأثير وضغط من والدتها.
عاد مساعد السائق بعد أن قام بتقديم جوازات سفر الركاب الى نقطة التفتيش بغرض إجراء عملية الفحص عليها وتدقيقها. كل جوازات السفر أعيدت الى أصحابها ما عدا إثنين، أحدهما يعود لآخر الملتحقين بالحافلة، صاحب الحقيبة اليدوية والصحف. والثاني يعود للبنت التي وصفها مساعد سائق الحافلة بالعنيدة، فضلا عن نعوت أخرى لا يطيب لنا أعادة التذكير بها في هذا المقام، لإنطوائها على مفردات لا تليق بقارئنا التعرف عليها.
في هذه الحالة يستدعي اﻷمر وبناءا على هو متعامل به، أن يقوم الشخص المعني بجواز سفره بالترجل من الحافلة والتوجه الى نقطة التفتيش للإستفهام والقيام بما هو مطلوب. وعلى هذا اﻷساس توجه الشخص والبنت نحو المكان المخصص لحل هذه الإشكالية. وبعد دقائق عاد صاحب الحقيبة الى الحافلة ومعه جواز سفره ولم تعد البنت، وهذا ما دعا والدتها الى التوجه الى ذات المكان حيث إبنتها، فكانت الصدمة أن رفض رجال اﻷمن المشرفين على نقطة التفتيش من إعادة جواز السفر اليها، بل ذهبوا أبعد من ذلك، حيث تقرر إقتيادها الى سيارة خاصة تابعة للدولة، بهدف تسليمها الى السلطات اﻷمنية المعنية في العاصمة.
حاولت اﻷم جاهدة أن تحل الإشكال وبشتى الطرق الاّ انها فشلت في مسعاها. وفيما بعد جرى تخييرها بين أن تلتحق بإبنتها ويجري تسفيرهما سوية، أو أن تراجع السلطات المختصة فيما بعد لإجلاء اﻷمر. البنت من جهتها رفضت الخيار اﻷول، ظناً منها بأنها وبمفردها قادرة على تسوية أي إشكال أو سوء فهم كان قد حصل. فما كان للأم لحظتذاك الاّ أن تعود مجبرة أدراجها، لتسلم لإبنتها حقيبتها اليدوية بعد أن تأكدت من وجود قارورة العطر التي كان قد أهداها لها شقيقها. وما هي الاّ لحظات حتى إنطلقت سيارة اﻷمن الخاصة وهي تقل البنت وبجانبها جالس مساعد السائق، دون معرفة الهدف الذي سيتوجهون اليه.
بعد قرابة الستة أشهر من البحث المضني في العديد من مراكز الشرطة والمستشفيات وبعض من دوائر اﻷمن وبوساطة مَنْ لهو سطوة وجاه لدى رجال الدولة، تّمَّ العثور أخيراً على البنت، وهي جثة هامدة، في أحد الدور المهجورة والخربة. أستدلَّ على مكان وجودها بمساعدة من سكان تلك المنطقة ، ممن كانوا يحسنون اليها.
بدت البنت في صورتها اﻷخيرة، شعثاء الشعر، مرتدية ذات الملابس يوم تمَّ إقتيادها الى جهة لم تستطع عائلتها الإهتداء اليها، رغم كل المحاولات التي بذلتها. كانت ممسكة بقوة بقارورة العطر التي أهداها إياها شقيقها. وبجانبها قطة صغيرة، ذات شعر برتقالي كث، وعيون شديدة الزرقة، ما إنفكت تموء كما النحيب، على فقدانها لِمَنْ آوتها وقاسمتها التشرد والملاحقة.