18 ديسمبر، 2024 10:16 م

اللغة العنجورية واللغة السياسية

اللغة العنجورية واللغة السياسية

كان لرجل من التجار ولد يتقعر في كلامه، ويستعمل الغريب، فجفاه أبوه، استثقالا له وتبرماً به، فاعتل أبوه واشرف على الموت، وحضره أولاده، وأرادوا أن يدعوا أخاهم المتقعر، فقال لهم أبوهم: هو والله يقتلني بكلامه، فقالوا: انه قد ضمن أن لا يتكلم بشيء تكرهه، فأذن لهم في إحضاره، فلما دخل قال: السلام عليك يا أبت، قل اشهد أن لا اله الا الله، وان شئت قل: أشهد أنّ لا اله الا الله ( بتشديد النون) فقد قال الفراء: كلاهما جائز، والأولى أحب الى سيبويه، والله يا أبت، ما شغلني عنك غير ابي علي، فانه دعاني بالأمس، فأهرس، وأعدس، وأرزز، وسكبج، وزربج، وطهبج، وابصل، وأمضر، ودجبج، وافلوذج، ولوزج، فصاح أبوه: السلاح السلاح، نادوا جارنا الشماس لأوصيه ان يدفنني مع النصارى، فقد قتلني ابن الفاعلة، وكان أبو علقمة متعلقاً بحوشي اللفظ، دخل على أعين الطبيب، فقال له: اني أكلت من لحوم الجوازىء، وطسأت طسأة، فأصابني وجع بين الوابلة الى دأية العنق، فلم يزل يربو وينمو حتى خالط الشراسيف، فهل عندك من دواء؟ قال : نعم، خذ خوفقاً وسرفقاً ورقرقاً، فاغسله واشربه بماء، فقال له أبو علقمة: لا ادري ما تقول، فقال له الطبيب: ولا أنا دريت ما قلت؛ وهذا ما نراه في خطبة الجمعة ومنابر الشيوخ حتى ان هذه اللغة أصابت بالعدوى السياسيين فراحوا يتكلمون بها، وأنا أعجب من شيوخ المنابر يأتي بخطبة عريضة طويلة انبثقت من لغة صعبة وحفظها بصعوبة أيضا، وربما لم يحفظها كلها وانما راح يتعاطى نتفاً منها، والمساكين ينظرون اليه بعيون مفتوحة ولكنها لا تدري ما يقول، بعض الأحيان تأخذني العزة بالإثم فانطلق مع الطلبة في معلقة او قصيدة قديمة أروح أترنم بأبياتها وكأنني في حلقة شعرية تتألف من كبار الشعراء، انتبه الى نفسي وارى المساكين ساهمين، ينظرون بتعجب، فابتسم واردد  شطربيت لأبي الطيب: ( مفتحة عيونهم نيامُ)، وأعود لأوضح لهم ما قلت واعتذر لهم انني أقحمتهم وسط هذه اللغة الصعبة التي ربما تفسد ألفاظها عليهم يومهم بالكامل ويرون الكوابيس.

المشكلة ان هذه اللغة وفدت الى بغداد بعد الفين وثلاثة من النجف والمدن الدينية الأخرى، ودخلت أروقة السياسة وهي ليست لغة سياسية، وإنما هي لغة للتقريع والتنطع ولا يمكن التفاهم بواسطتها في وقتنا الحالي، ولكن البعض ممن لا يجيد غيرها يعتقد انها من عالي القول ولذا يلجأ اليها ليبهر الجماهير التي تستكين للألفاظ لعدم فهمها منها شيئاً فتتصور صاحبها يمتلك شيئاً لا يمتلكه سواه، في حين ان اللغة السياسية هي لغة إقناع الآخر بدلالات سهلة وبمفردات مفهومة، وهي لغة عالية فعلاً فربما صار السهل هو أساس البلاغة، فالبلاغة ما تبلغ بها نفوس الآخرين، ومما يدل على ان رسول الله (ص) كان يتعاطى السياسة والبلاغة معا، هو تكلمه بما يفهم من القول  ، فأحاديثه مفهومة بدون قواميس ولا مفسرين على عكس من تنبأ بعده، فملأ اللغة الفاظا حوشية غريبة، فملّهم السامع وترك الناس أحاديثهم واعرضوا عنهم، احد العظماء ترك لنا قولاً ينصحنا فيه بالتكلم بلغة الشعب، حيث قال: اذا أردت ان تفهم شعبا فتكلم بلغته، والهبوط الى مستوى اللغة المفهومة هو عين اللغة وقمة البلاغة،وهذا ما وجدناه عند النحوي وعند التاجر، فقد برم الناس باللغة الصعبة وراحوا يمجونها ويسخرون ممن يتكلم بها فقالوا عنه انه يتقعر بكلامه، السياسة لها لغتها وعلى جميع من يدخل معترك السياسة ان يلجأ اليها ويترك حوشي القول في الخطب الدينية والأدبية، فأنت أمام الجماهير ولست بحلقة علمية لغوية، لنفهم لغتكم كي نستطيع الإيمان بكم ونعرف ما تريدون بنا.