19 ديسمبر، 2024 1:04 ص

اللعنة على الفاسدين وصانعيهم القذرين

اللعنة على الفاسدين وصانعيهم القذرين

حين عملت في إحدى الوزارات وقبل أكثر من عشرين عام  , أشار لي الوزير( والحق يقال انه كان يتمتع بقدر مقبول من النزاهة ) بأنه يعاني من حالة تستحق التعديل , وهي قيام بعض المسؤولين في الدولة والحزب (المقبور) بالسيطرة على أجزاء مهمة من موجودات إحدى الدوائر المهمة ذات العلاقة المباشرة بحياة الناس من خلال طلبات يقدمونها وأغلبها ( وهمية ) , وقد أوكل لي مهمة أن أكون الآمر بالصرف لجميع الطلبات , وقد التمسته أن يعفيني من هذه المهمة ( لأنه لم يكن لي ظهر يحميني ) ولكنه أصدر أمرا بالتخويل ولم يكن علي سوى التنفيذ .
 وفي حينها التقيت أمناء المخازن فقلت لهم كيف تصرفون هذه المواد وهي مخصصة للحالات الإنسانية ولأغراض العام وليس الخاص فقالوا : إن كل ما علينا هو تنفيذ الأمر بالصرف وعندها قلت لهم : لقد جعلني الوزير آمرا بالصرف و من هذا اليوم أبلغكم طريقتي , عندما يأتيني طلبا غير مشروع فسأكتب عليه ( يصرف ) وهذا يعني إن الطلب غير مشروع وعليكم عدم الصرف والتعذر من صاحبه بأعذار تبتكرونها للحفاظ على المال العام كأن تقولوا له إن المادة نافذة أو منتهية المفعول أو أية أعذار أخرى فالمهم هو عدم الصرف لان الطلب غير مشروع , أما إذا وجدت إن الطلب عقلاني ومشروع فسيكون هامشي ( تصرف )  .
وفي  حينها سألني احد الحاضرين هل هذا الجانب مستوفي للجوانب القانونية فقلت له نعم لان كلمة يصرف تعني إصراف الشخص وان كلمة تصرف تعني صرف المادة , وللتاريخ أقول إنني أبلغت الحاضرين (بطريقة تنطوي على نوع من التهديد ) بان إفشاء هذا السر سيعرض مفشيه لأشد العقوبات , وبعد أن إستمرينا على هذا السياق وردتني مئات أو آلالاف الطلبات وكنت أحاول إقناع مقدميها (لأنها غير شرعية ) بان المواد غير متوفرة في المخازن وكنت أقول لهم بأنها نفذت , ولكنهم يقولون لي أنت اكتب موافق ونحن نرتب مع المخازن  فكنت اكتب (يصرف ) وعندما يذهبون للمخازن لايحصلون على أي شيء .
وبعد فترة زار الوزير المخازن فوجدها ممتلئة باحتياجات الناس المستحقين فعلا فقال : كيف أصبحت المخازن بهذا الحال بعد أن كانت تفرغ بعد أيام , فقلت له : لقد أوكلت لي مهمة وقد باشرتها بطريقتي الخاصة , وسألني عن  ماهية الطريقة التي اتبعتها فلم أبوح له بسري ولكني قلت له بإمكانك تدقيق الحالات المصروفة وبإذن الله ستجدها ضمن حدودها المشروعة وقد لقيت استجابتي لها , فشكل لجنة تدقيقية لهذا الغرض وقد وجدت اللجنة بان الاستجابة صحيحة وبنسبة 100% وعندها بقي هذا الموضوع سريا بيني وبين أمناء المخازن , الذين طالما دعمتهم وتحولوا فيما بعد من اقرب الشركاء لدقتهم في انجاز الأعمال .
وبعد أن تغير الوزير , جاء غيره والمشكلة انه كان من ضمن الذين يرسلون مثل تلك الطلبات(غير المشروعة) فتلقى رفضا مني على الحال , وتوقعت منه أن ينحيني من مكان ممارسة صلاحياتي لكي يتخلص مني لكنه لم يفعل ذلك , والأغرب من ذلك انه امتدحني في أول اجتماع عام عقده بعد توليه المسؤولية إذ أشاد بكفايتي ونزاهتي وعدم خضوعي للضغوطات , ورغم إن اغلب من حضر اللقاء حسدني على هذا الثناء إلا إني لم أكون مرتاحا منه وقلت مع نفسي انه يدخر لي مكيدة لاني اعرف مقدار خبثه , وفي تلك الدائرة التقيت مع من يقعون تحت نطاق إشرافي وطلبت منه شد الأحزمة على البطون والتحسب لكل الحسابات .
وبعد أسابيع قليلة , بدأت المؤامرات تنهال في تلك الدائرة حيث جرى تغيير غير منظم في الأشخاص من خلال استبدال الأكفاء بالضعفاء وإحلال السارقين مكان المخلصين , وإصدار قرارات من الرأس بتشويه الهيكل التنظيمي وإجراء تغييرات جوهرية في هيكل الصلاحيات والمسؤوليات والعمل على تمزيق وحدة الأمر والعبث باستقرارية وانتظام الإجراءات بشكل جعل السياقات ضائعة بما يسمح بوجود الخروقات التي تجيز ممارسة الفساد الإداري , وازاك ذلك عرضت تقريرا تفصيليا للوزير ذاته حول ما يجرى في الدائرة , وعلى أثره استدعاني إلى مكتبه الرسمي واتهمني بأنني غير قادر على مواكبة التغييرات في النمط الإداري الذي يرغبه , وعبثا ذهبت محاولاتي في إقناعه بان التغيير لايحمل هذا الاسم إلا إذا كانت له مردودات أفضل .
وأمام اختلاف الفلسفة والمفهوم والأسلوب المناسب للتطبيق توسعت الهوة بيننا فأصبحنا لانطيق بعضنا البعض , ولجا لتشكيل العديد من اللجان التحقيقية والتدقيقية التي عجزت عن إيجاد أي دليل يصلح لادانتي , وعندها فهمت الرسالة إذ قدمت طلبا للانتقال إلى وزارة أخرى فاستشاط غضبا وادعى انه يرعى الكفاءات ولا يسمح لها أن تغادر وزارته ووصفني بأنني من أفضلها , وكان كل ما يكتبه في هوامشه أو تردده شفاه ماهر إلا كذب وكذب فهو لم يشأ أن اخرج من معيته الابعد أن يثبت للآخرين بأنه بذل كل محاولاته للعزوف عن طلبي , وقد جاريته بقصده فجعلته يبذل أقصى المحاولات لإبقائي ( رغم علمي انها تمثيل ) من خلال ممارسة الضغط عليه للموافقة على النقل , وعندما أكمل العدد اللازم من شهوده وافق وهو ( مرتاح الضمير) .
وحسب معلوماتنا االمؤكدة فانه هرب إلى خارج العراق بعد سقوط ( النظام ) , ويبدو إن من تتلمذوا على يد هذا ( المعلم ) وأمثاله في المراوغة والتضليل لممارسة الفساد وإشاعته ومحاربة المخلصين كثيرون , فانا لم اعرف عددهم بالضبط لاني تركته وتركت وزارته التي حولها إلى حاضنة للكذب وإشاعة الفساد , ولكني اعتقد إن أمثال تلك الحاضنات هي التي أفقست بيوضا وتحولت إلى ديوك لممارسة الفساد الإداري والمالي في وقتنا الحالي , ولعل هذا هو الذي يفسر جزءا من اللغز المتعلق بانتقال بلدنا إلى مراتب متقدمة من حيث ممارسة الفساد .
 وما بوسعنا إلا أن نبتهل  للباري عز وجل بان ينزل عظيم لعنته على كل فاسد لئيم واللعنة الأكبر بإذنه تعالى لصانعي وحاضني الفساد , فقد تحول التلاميذ إلى درجات متقدمة من الخبرة في نهب الحقوق والأموال , ومن تداعيات الفساد انه امتزج بالدم وراح ضحيته الأبرياء من أبناء شعبنا الأبي , كما ذاق من ويلاته الغالبية العظمى من الجمهور, والدعوات لوحدها لاتكفي إذا لم تقترن بفعل حقيقي , فمن المؤكد إن الشرفاء أكثر عددا وعدة من الفاسدين والمفسدين وقد تكون الانتخابات القادمة وسيلة للتخلص منهم وعزلهم . ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ))