يُلاحظ أنّ أكثر الدول الأوروبيّة تشدّداً، بل تزمّتاً، في ما خص اللاجئين خمس: النمسا، التي سبق أن أعلنت أنها ستسعى إلى استثناء نفسها من قبول المزيد من طالبي اللجوء، وبولندا وهنغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا التي تعهّد قادتها بـ«ألا يسمحوا بأن تبتزّهم تهديدات المفوضية الأوروبية بعقوبات مالية» في حال اتّباعهم سياسات مختلفة حيال قبول اللاجئين. ما الذي يجمع بين هذه الدول الخمس؟
يصعب لدى التمعّن في النزعات الشعبويّة المتطرفة للبلدان المذكورة القفز فوق حقيقة جغرافية سياسية مركزية: إنها أوروبا الوسطى، مسرح الحروب والتوتّر في القرن العشرين، وبالتالي مسرح التشكّل والانهيار الوطنيّين و/أو الإمبراطوريّين.
قول ذلك يعني إشكالين عميقين مع التاريخ الأوروبي، وبالتالي أزمة في استواء العلاقة مع التبلور الوطني (والرضا بالشكل الحدودي القائم تالياً) في زمن الحداثة الديمقراطية.
الإشكال الأوّل، وبمعنى ما المؤسس للثاني، عنوانه إمبراطورية آل هبسبورغ النمسوية- المجرية التي آلت إلى زوال بعد الحرب العالمية الأولى. صحيح أن بولندا لم تكن في عداد هذه الإمبراطورية، إلا أن وقوعها بين روسيا وألمانيا الطامعتين شكّل ما يكفي من الأسباب لإعاقة تطورها الوطني وإعاقة وعيها به. لقد تعرضت بولندا في تاريخها لثلاث من عمليات التجزئة، تاركة للكنيسة الكاثوليكية وحدها أن تلعب الدور التوحيدي ضداً على الأرثوذكسية الروسية والبروتستانتية- اللوثرية الألمانية.
حالة تشيكيا وسلوفاكيا قد تكون دلالتها أكثر مباشرة في ما خص التعامل مع واقع الحال الناشئ. فبعد انهيار الإمبراطورية الهبسبورغية، أنشئت دولة تشيكوسلوفاكيا، وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية ودخلها الجيش السوفييتي، حتى باتت تُـحكم على نحو حديديّ وشديد المركزية. لكن ما إن انتهت الحرب الباردة حتى انفصلت تشيكيا عن سلوفاكيا.
النمسا وهنغاريا خسرتا، مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، موقعهما الإمبراطوري، وتحولتا دولتين أوروبيتين صغيرتين.
الإشكال الثاني هو النظام الشيوعيّ. لكنْ كما أن بولندا لم تكن جزءاً من إمبراطورية الهبسبورغيين، فإن النمسا لم يحكمها، على عكس البلدان الأربعة الأخرى، نظام شيوعي. لقد اعتمدت فيينا صيغة «الحياد» بين المعسكرين الغربيّ والشرقيّ. وقد عاد عليها حيادها هذا بفوائد عدة، إلا أنه رتّب أكلافاً باهظة أيضاً. فنظام التحول الديمقراطي الذي قاده وهندسه برونو كرايسكي اضطر لأن يعقد صفقات بلا حدود: إعادة تأهيل لليمين المتطرف من دون أي إعادة تأهيل جدية، رفض الاستثمار في مراجعة النفس ومسؤوليّاتها، على ما فعله الألمان بجدارة، والاكتفاء بأن الأمم المتحدة سمّت النمسا «ضحية هتلر الأولى» (وهي تسمية كاذبة، لأن النمساويين وبكامل رضاهم هم الذين انضموا إلى الرايخ النازي). هكذا مرت تجربة الاكتشاف المدوّي لنازية كورت فالدهايم، رئيس الجمهورية السابق والأمين العام للأمم المتحدة، من دون أن تهزّ البلد وتدفعه إلى مساءلة نفسه. وعلى نطاق أفدح، استطاع «حزب الحرّيّة»، شبه الفاشيّ، في 2000، أن يحصد من الأصوات ما أتاح له المشاركة في الائتلاف الحكوميّ.
أما البلدان الأربعة التي خضعت لنظام سوفييتي محكم، وإن حاولت كلها أن تتمرد عليه المرة بعد الأخرى، فبقي فيها الشيء الكثير من تقاليد الإغلاق السياسيّ وضعف النقاش، معطوفاً على نقص الاحتكاك بالعالم الخارجيّ، إن لم يكن الخوف منه ومن الاحتكاك به.
وقصارى القول إن التركتين الهابسبورغيّة والسوفييتيّة -والاثنتان تركتان إمبراطوريّتان في النهاية- أسستا حالاً عصيّة من الامتناع عن مواكبة العولمة ممثّلةً، هذه المرّة، باللجوء والهجرة. لكن ما يزيد الصورة البائسة بؤساً أنّ ما كان استثناء شبه محصور بأوروبا الوسطى، أخذ في السنوات الثلاث الماضية يتوسّع ويتعمّم في كل اتجاه!
* نقلا عن “الاتحاد”