الكُلّ متّهمون بآلخيانة العُظمى:
وصل الحال ببعض المخلصين في العراق درجة لا يُمكن التعبير عنه إلا من خلال القصّة الحقيقية التالية التي تُدمي القلب و التي وقعت في سجن الفضيلية, على لسان الدكتور (أبو الكفل الموصلي) ألذي كَفَرَ بآلوطن و بكلّ المقدسات العراقيّة بسبب الحاكمين, بعد ما تعرّضَ لأهانات كبيرة حتى السّجن و التعذيب بسبب عملية جراحيّة أجراها ليد مريض في مستشفى مدينة الطب و بعد إنتهاء العملية لم يستطيع المريض تحريك يده بسبب عصب لم يتم وصله, فقال له الدكتور أبو الكفل:
[ألمسألة بسيطة جداً لعدم إتصال العصب و سنعيد ربطه من جديد بسهولة لتعود اليد إلى حالتها الطبيعية الأولى, و تبيّن أنّ هذا المريض من أقرباء أحد العاملين في قصر صدام من عشائر البدو في تكريت!
ممّا أدى إلى سجنه بلا ذنب, رغم تعهده بإجراء العملية بنجاح في غضون ساعات!
في السجن و خلال إمسية من أماسيه الحزينة؛ حكى أحد السّجناء حكاية عن آلشاعر (محمد مهدي الجواهري), بكونه أخذ معه قليلا من التراب عند مغادرته للعراق, مُدّعياً أنه حين يشتاق يشمّه, و ما إنْ سمع الدكتور بهذا الكلام قال منتفضاً: [أمّا أنا فلو وفّقتُ للخروج من العراق سآخذ معي حفنة من ترابه أيضاً, و كلّما تذكرت أو إشتقت للعراق أخرجه لـ (أتبوّل) عليه]!
أيّ بلد هذا المسمى بالعراق حين يصل حال مواطنيه فيه لهذه الدرجة بسبب الحُكّام الفاسدين؟ حيث لا كرامة ولاعدالة ولامساواة بين المواطنين, بل وجود فوارق طبقية و حقوقية كبيرة بين الجميع تقريباً مثبت في الدستور؟
علّة ذلك, هو: إن الأجنبيّ و الفاسد مُفضّل على المواطن بل هو السيّد ألرّئيس عن طريق الحاكمين العملاء … و الأدلة و الأحداث كثيرة, و للبرهان على ذلك إستمع للقصة المؤلمة التالية:
من الأحداث التي رويت عن القائد الفرنسي (نابليون بونابرت)، أنه عندما شنّ حربه على ألنّمسا، كان هناك ضابط يتسلل بين الفينة والأخرى الى نابليون قائد الجيش الفرنسي القصير القامة، يفشي له اسرار جيشه، وكان نابليون يرمي لهذا الضابط – بعد أن يستمع الى ما يفيده من أسرار عدوه – صُرّة نقود على الأرض ثمناً لبوحه أسرار جيشه.
ذات يوم وكعادته بعد ان سرّب الضابط لنابليون معلومات مهمّة، هَمّ نابليون برمي صرّة النقود له، فما كان من الضابط إلّا أنْ قال:
[ياسيادة الجنرال، ليس المال وحده غايتي، فأنا أريد أن أحظى بمصافحة نابليون بونابرت] .. فردّ عليه نابليون:
[أما النقود فإنّي أعطيكها .. كونك تنقل لي أسرار جيشك، و أما يدي هذه؛ فلا أصافح بها من يخون وطنه]!
وقال مقولته المشهورة: [مثل الخائن لوطنه كمثل السارق من مال أبيه ليطعم اللصوص .. فلا أبوه يُسامحهُ ولا اللصوص تشكرهُ].
في قصة حقيقية أخرى .. حين عبر (الإسكندر المقدوني) مضيق الدردنيل وحارب الفرس في غرانيكوس (334 ق.م) ثمّ في معركة إيسوس (333 ق.م) وانتصر عليهم؛ عيّن الأسكندر جائزة كبيرة لمن يستطيع القبض حيا أو ميتاً على الملك المهزوم (داريوش الثالث) بإتجاه أفغانستان حيث إستطاع أحد الإيرانيّين من قتله و إلأتيان برأسه للأسكندر لنيل الجائزة, لكن الأسكندر وبّخَهُ بدل تكريمه قائلاً لهُ: أنتَ حينَ خُنْتَ مَلِكَ وطنكَ .. لا يُمكن أن تكون وفياً لغيره .. و في رواية أخرى أمر بقتله!؟
من هذه المواقف تنكشف لنا خسّة مَنْ لا يكنّ لبلده الولاء و الوفاء .. و لله الوفاء و كلّ الولاء الحقيقي قبل هذا .. والذي ذكرني بآلأسكندر المقدوني و بنابليون واحتقاره الضابط النمساوي؛ هو ما حدث و يحدث في ساحة العراقيين على يد ساسة وقادة اتّخذ بعضهم من العراق – وهم عراقيون يدّعون ما يدّعون – سوقاً للتجارة، و وسيلة للربح، وطريقاً لمآرب أخرى، نأوا بها عن المواطنة والولاء والإنتماء للوطن، فهم أناس لا أظنهم يختلفون عن ذاك الضابط الخائن بل أستطيع القول بجرأة بأنّ كل العراقيين باتوا هكذا ينتهزون الفرصة تلو الأخرى للحصول على جائزة العمالة على حساب الوطن المواطن، و ما تسليم العراقي الجّمل بما حَمَلْ بعد إنتخابهم للفاسدين الذين هم منهم، وتحكيمهم على أمل حصول الفرج على أيديهم للتعويض عن سني الحرمان التي لحقت بهم إلا دليل على ذلك، فحقّ عليهم جميعاً قول الشاعر:
إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة .. فإنك قد أسندتها شرّ مسند
وباستطلاع وإستقراء لما جرى في العراق خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة و ما قبلها، يتبين كم هو بليغ تأثير خصلة خيانة الوطن، لا سيما حين تكون صفة لصيقة بالشخصيات القيادية في مفاصل البلد الحساسة، والشواهد كثيرة، ليس أولها ماحدث في محافظات الموصل والأنبار قبل أربع سنوات، كما أن آخرها لا يقف عند زيارة ترامب للعراق من دون إذن أو حتى تنسيق, بل رفض حتى اللقاء برئيس الوزراء, وحتى قبل رئيس الوزراء الحالي السيد عبد المهدي .. نرى الخائن العبادي ليس فقط عمل كجاسوس للأجانب؛ بل تستر حتى على قواعدهم في شرق و شمال و غرب البلاد, حيث أعلن مراراً بعدم وجود عسكريين على الأرض العراقية و ما موجود مدربون لأغراض التدريب, بينما أثبت الواقع وجود أكثر من خمسة آلاف عسكري محارب في قاعدة واحدة فقط هي عين الأسد بجانب آلآلاف الاخرى في معسكرات وقواعد عدّة!
أخيراً .. هل يعلم الخائنون حجم المآسي و الأضرار التي يتركها عدم ولائهم للوطن؟
وهل يعون و يدركون عظم الآثار والعواقب المعنوية و المادية التي تترتب على العراقيين بكل شرائحهم، وعلى الوطن بكل جوانبه، من جراء ضعف انتمائهم له؟
وهل يعرفون أنّ قدرهم عند المواطن الواعي طبعأً بات كقدر ذلك الضابط النمساوي عند نابليون؟
أو كقدر صدام عند آلأنكلوإمريكان حين وصل الحال به – بصدام – لأنّ يتوسل بمبعوث بوش في آخر لقاء جمعهم في الموصل قبيل بدء الحرب, حيث نقل الكاتب (سالينجر) الذي رافق المبعوث في كتابه المعروف (ألأسرار الخفيّة لحرب الخليج)؛ [الأمر بيد الرئيس و القيادة الأمريكية, و سننقل لهم طلبك].
أمّا علّة العلل في كلّ ذلك الفساد و الذلة و الخيانة العظمى, هي: فقدان الفكر و مبادئ الفلسفة الكونية في عقول السياسيين و الحاكمين الخائنين, لهذا حلّلوا بيع الوطن والعمالة و الكذب والنّفاق لأجل الرواتب و المال الحرام.
و لاحول ولا قوة إلا بآلله العلي العظيم, و الله يستر من الجايات.