لم يهدأ غضب الشارع العراقي المُطالِب بالإصلاح والتغيير، والذي اندلع على نحو لم يسبق له مثيل في الفاتح من اكتوبر (تشرين الأول) 2019، على الرغم من الإجراءات التي أقدم عليها البرلمان العراقي في جلستين عدّتا الأطول في تاريخه (19 نوفمبر/تشرين الثاني/2019) ولعلّهما الأسرع في مناقشة وحسم القضايا المعروضة للنقاش وأساسها اتخاذ قرارات وتشريع قوانين حاولت توجيه رسالة إلى حركة الاحتجاج العارمة التي شهدتها الساحة العراقية.
وبدلاً من امتصاص النقمة، فإن تلك والإجراءات التي بدأت بتجريد امتيازات كبار المسؤولين بمن فيهم الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب) ، جاءت لتصبّ الزيت على النار وترفع من درجة حرارة المشهد السياسي وسخونة حركة الاحتجاج، لأنها لم تستجب للمطالب الأساسية، التي ارتفع سقفها مع تطور حركة الاحتجاج، فالمتظاهرون الذين احتشدوا في ساحة التحرير في بغداد وحواليها في الشوارع والساحات والفروع المؤدية إليها وملأوا الميادين في 9 محافظات هي: الحلة وكربلاء والنجف والسماوة والديوانية والفرات الأوسط والكوت والعمارة والناصرية والبصرة، تطوّرت مطالبهم بالتدرّج والتراكم، خصوصاً حين تم مواجهتها بالعنف واستخدام الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع والخطف والاعتقال.
وإذا كانت المطالب الأولية تركّز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية مثل : الحصول على فرص عمل ومحاربة الفساد والمُفسدين وتحسين الخدمات ، فإنها اتخذت بُعداً سياسياً جذرياً مثل استقالة الوزارة وحلّ البرلمان وتعديل الدستور أو سنّ دستور جديد وإجراء انتخابات مبكرة وتشريع قانون انتخابي جديد واستبدال مفوضية الانتخابات بأخرى “مستقلة”، فضلاً عن وضع حدّ للتلاعب بالهيئات المستقلة ” غير المستقلة”، ، ومثل تلك المطالب هي حصيلة تجربة مُرّة مع الطبقة السياسية عمرها نحو 16عاماً، وهي تعكس انعدام الثقة بنظام المحاصصة الطائفي- الإثني القائم على الزبائنية السياسية وتقاسم المغانم والتواطؤ بين أطراف العملية السياسية.
وقد أضيف إلى هذه المطالب المتراكمة والذي تعتّق بعضها منذ احتلال العراق العام 2003 مطالب جديدة ألا وهي محاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم القتل بحق أكثر من 300 شهيد وما يزيد على 16 ألف جريح، وهو الأمر الذي حصل بوضح النهار وبدم بارد، وكان وزير الدفاع نجاح الشمري قد اتّهم طرفاً ثالثاً القيام بذلك، وهو ما سبق أن أسمته الحكومة العراقية بـ ” المندسين”، وكان لبغداد “العاصمة” الحصة الأكبر من القتلى والجرحى والمصابين ، إضافة إلى أعمال الخطف بمن فيهم لمحامين وأطباء، فضلاً عن اعتقالات طالت نحو 2000 شخص، ما زال بعضهم لم يطلق سراحه .
ومما يبعث على الكوموتراجيديا أن قانون الامتيازات الذي تم إلغاؤه كان قد شرّع في العام 2005، وظلّت المطالبات بإلغائه تتصاعد، لكن السلطة الحاكمة والطبقة السياسية المستفيدة لم تعطها الآذان الصاغية، وبقي معمولاً به طيلة 14 عاماً إلى أن اندلعت حركة الاحتجاج فاضطرّت لإلغائه وسط سخرية عراقية لاذعة، لاسيّما بالعزلة المريرة التي تعيشها الطبقة السياسية، حيث تعمّقت الهوّة بينها وبين الناس على نحو شاسع وشديد بعد تدفّق شلالات الدم.
II
لم تكن حركة الاحتجاج التشرينية مفاجأة أو دون مقدمات، بل كانت امتداداً لأزمة الحكم المستفحلة منذ العام 2003، والمتمثّلة بنظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي حسبما سمّي بـ ” المكوّنات” التي وردت في الدستور، والذي يوجد بموازاته مرجعيات ما قبل الدولة وما دونها لتنافسه أو تعلو عليه أحياناً، ناهيك عن الفساد المالي والإداري والسياسي الذي أصبح يزكّم الأنوف، واستشراء ظواهر العنف والإرهاب الذي فقّس بيضه فأنجب تنظيم القاعدة وربيبه تنظيم داعش، وبسبب حلّ الجيش والقوات الأمنية بمختلف صنوفها وتشكيل جيش وقوات أمن وشرطة وفقاً لنظام المحاصصة، ثم دمج عدد من الميليشيات فيه، فضلاً عن عدم كفاءة وقلّة خبرة وضعف الشعور بالمسؤولية في العديد من مفاصله، تمكّن تنظيم داعش من احتلال الموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014 والسيطرة لاحقاً على محافظتي صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظة كركوك وديالى وصولاً إلى مشارف بغداد ، وقد احتاج طرده من المناطق التي احتلّها ثلاث سنوات ونصف السنة، ليتمكّن العراق بمساعدة قوات التحالف الدولي وإيران من هزيمة التنظيم عسكرياً في أواخر العام 2017، وإنْ كان حضوره الفكري والسياسي ما يزال مستمراً.
وإذا كانت القوى المشاركة بالعملية السياسية قد أُخذت على حين غرّة بحركة الاحتجاج، فإنها بعد مرور 50 يوماً على اندلاعها استجمعت قواها لتعلن وثيقة مكوّنة من 40 فقرة عُرفت باسم ” وثيقة الجادرية” حين اجتمعت 12 كتلة وحزباً سياسياً حاكماً ومشاركاً فعّالاً في العملية السياسية، وأمهلت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي 45 يوماً لتنفيذ ما وعد به من إصلاحات (إلى نهاية العام 2019)، وقد تم الاجتماع في منزل السيد عمار الحكيم (تيّار الحكمة)، وعلى الرغم من أنه جاء لدعم عبد المهدي، إلّا أنه حاول أن يغازل حركة الاحتجاج حين حذّر من أن القوى المجتمعة قد تلجأ إلى سحب الثقة من رئيس الوزراء في حال لم تكن هناك جدّية في تنفيذ الإصلاحات، بما فيها إجراء تعديل وزاري شامل أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة، في حين يطالب المتظاهرون بتشكيل حكومة جديدة.
وكان جواب حركة الاحتجاج على الفور ومنذ اللحظة الأولى لصدور وثيقة الجادرية هو الرفض، مما اضطرّ ثلاث كتل حزبية مشاركة فيها إلى التراجع عنها وهي ائتلاف النصر برئاسة حيدر العبادي (رئيس الوزراء السابق) الذي اشترط حين وضع توقيعه على الوثيقة بإقالة حكومة عادل عبد المهدي وائتلاف الوطنية برئاسة إياد علاوي رئيس الوزراء الأسبق، والانقاذ والتنمية برئاسة أسامة النجيفي رئيس البرلمان الأسبق.
أما بخصوص موقف الكرد وإقليم كردستان فقد نظروا بارتياب وسلبية إلى بعض مطالب الحراك الشعبي، لاسيّما تعديل الدستور ،خصوصاً وأنهم يجدون في رئيس الوزراء الحالي أكثر مرونة إزاء مطالبهم من سلفيه حيدر العبادي، الذي وقف ضد استفتاء الإقليم (25 سبتمبر 2017) ونوري المالكي الذي ساءت علاقته بالكرد منذ العام 2010، أي بعد تولّيه رئاسة الوزراء لولاية ثانية.
وعلى الرغم من مرور أسابيع على حركة الاحتجاج إلّا أن الطبقة السياسية الحاكمة وأحزابها لم تدرك حقيقة ما يجري على الأرض، وكأنها تعيش على كوكب آخر، وقد يكون رهانها أن باستطاعتها ومع مرور الوقت وزحف فصل الشتاء حيث البرد القارص في الساحات، تجويف الحركة وتسويف مطالبها بالوعود حتى إجهاضها، علماً بأن حركة الاحتجاج التشرينية تختلف عمّا سبقها ، وهي أقرب إلى استفتاء شعبي بفشل العملية السياسية، التي لا بدّ من استبدالها وتغييرها لأنها وصلت إلى طريق مسدود ولذلك فإن أي تفكير بإصلاحات فوقية أو تجميلية، ستكون غير مجدية، لأن الشارع يعتبرها مجرد ترقيعات لا تمسّ جوهر النظام السياسي ما بعد الاحتلال، بل إنها ستدخل العراق في أزمة جديدة، بدلاً من إخراجه من أزمته، ذلك أن الأزمة الراهنة هي أزمة استثنائية بكل معنى الكلمة، ومثل هذا الوضع الاستثنائي يتطلّب حلولاً استثنائية.
وعلى الرغم من اعتراف رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والكيانات والأحزاب المشاركة في العملية السياسية بعمق الأزمة، لكن الحلول التي يتم وضعها لا ترتقي إلى “فقه الضرورة”، بل ما تزال تتشبث بفقه الواقع حفاظاً على مواقعها وإلّا كانت قد استجابت للمطالبات الشعبية باستقالة الحكومة، وقد حاول رئيس الوزراء أن يرمي الكرة في ملعب القوى الأساسية التي جاءت به إلى السلطة حين أبدى استعداده لتقديم استقالته، لكنه اشترط إيجاد بديل عنه لكي لا تقع البلاد في حالة فراغ دستوري وهو يعرف أن هذه القوى ليس من السهولة بمكان أن تتّفق على رئيس وزراء جديد.
وتعالج المادة 64 من الدستور مسأللة الفراغ الدستوري بما يأتي ” أولاً:- يُحلّ مجلس النواب، بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بناءً على طلبٍ من ثلث أعضائه، أو طلبٍ من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ولا يجوز حلّ المجلس في أثناء مدة استجواب رئيس مجلس الوزراء. ثانياً:- يدعو رئيس الجمهورية، عند حل مجلس النواب، إلى انتخاباتٍ عامة في البلاد خلال مدةٍ أقصاها ستون يوماً من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مُستقيلاً، ويواصل تصريف الأمور اليومية.”
وتلك هي مطالب المحتجين إذا أريد نزع فتيل الأزمة التي قد تتطور باتجاهات أخرى، وذلك استجابة لـ “فقه الضرورة “الذي ينبغي الاحتكام إليه.
وإذا كانت حركة الاحتجاج عامة وشاملة في 10 محافظات غالبية سكانها من العرب الشيعة، فإن خشية حكومة الإقليم من التغيير، ولاسيّما في الدستور ، هو الذي منع الشارع الكردي من التواصل مع الشارع العربي، وإنْ كان متعاطفاً معه، علماً بأن هموم المواطن الكردي لا تختلف عن هموم المواطن العربي في العراق، باستثناء طموحه بكيانيّة خاصة متميّزة عن حكومة بغداد، رغم الحاجة إليها مالياً وتجارياً واقتصادياً وعمقاً استراتيجياً في إطار الدولة العراقية.
كما إن العرب السنّة في محافظة الموصل شمال العراق ومحافظتي صلاح الدين والأنبار، إضافة إلى جزء مهم من محافظة ديالى وكركوك، هم أيضاً متعاطفون مع المواطن العربي في وسط وجنوب العراق، بل إن مطالب الحراك الشعبي تمثل جزءًا مهماً من مطالبه مثل إلغاء التمييز الطائفي ورفض الهيمنة الإقليمية لإيران، لكن ظروفه الخاصة تحول دون مشاركته بفاعلية كبيرة في الحراك الشعبي، لأسباب تتعلّق بما تعرّض له منذ الاحتلال العام 2003 ولحد الآن، ولاسيّما في مواجهة احتجاجاته أواخر العام 2012 وبداية العام 2013 وخلال هيمنة داعش وما بعدها، وكذلك وجود نحو مليوني نازح خارج مناطق سكناهم وبلداتهم ومدنهم وفي ظروف قاسية ، وهو ما ينبغي أخذه بنظر الاعتبار .
III
ستسجل الذاكرة العراقية المستقبلية إن حركة الاحتجاج التشرينية هي واحدة من المحطات المهمة في تاريخ العراق، تُضاف إلى ما سبقتها من محطات، سواءً حققت أهدافها أم لم تحققها، بتراجعها أو انتكاسها أو إجهاضها لأسباب موضوعية أو ذاتية، داخلية أو خارجية، لاسيّما في ظل عدم تبلور قيادة واضحة ومعلومة، فضلاً عن رموز لها، ناهيك عن عدم وجود برنامج سياسي واقعي ممكن التطبيق ومتفق عليه، وأحياناً تختلط الرغبات بالإمكانات والإرادات، لكنها بلا أدنى شك ستترك بصمة متميّزة ولا يمكن محوها من الذاكرة العراقية، لما مثلته من جرأة غير معهودة وحيوية نادرة وتصاعد وتلقائية بحيث زعزعت منظومة الحكم وخلخلت أركانه وأربكت القوى الإقليمية والدولية، ولاسيّما بتجاوزها الانقسامات الطائفية والمذهبية وبفعل التضامن والتطامن الداخلي الذي عاشته منذ اندلاعها.
وسيكون عراق ما قبل تشرين الأول( أكتوبر) هو غير ما بعده، ومرّة ثانية أقول دون أوهام أو إسقاط الرغبات على الواقع، بأن ما حصل سيترك أثره القريب أو البعيد على مستقبل العراق بكل تضاريسه ومنعرجاته، بمعنى سيكون محطّة توقف ومراجعة وتغيير لمسارات واتجاهات، لأنه لم يعد ممكناً الاستمرار بما هو قائم، حتى وإن لم تحقق الحركة أهدافها.
إن الأحداث الكبرى حتى وإنْ أخفقت أو انكسرت، لكنها ستؤثر على ما بعدها، ومثل هذا حصل في تاريخ العراق المعاصر، فقد غيّرت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وجه العراق ونظام حكمه من ملكي إلى جمهوري، وكانت نتاج تراكم كمّي لعدد الوثبات والانتفاضات التي سبقتها، وأصبح عراق ما بعدها يختلف كلياً عن عراق ما قبلها، حتى وإن حصل نكوص عن مسار الثورة وارتداد عن أهدافها.
ويمكن القول إن عراق ما قبل 11 آذار (مارس) 1970 هو غير عراق ما قبله بالنسبة للقضية الكردية والاعتراف بحقوق الشعب الكردي، ولاسيّما بالحكم الذاتي وإقرار ذلك دستورياً، ولم يعد ممكناً حتى حين حدث التراجع عن مضمونه وجوهره العودة إلى الماضي، لأن حقوق الشعب الكردي أصبحت أمراً واقعاً وملموساً ، وهو ما تجسّد لاحقاً في إقرار ” النظام الفيدرالي”.
وعراق ما بعد الاحتلال وقيام عملية سياسية هو غيره عن عراق ما قبله في ظل نظام شمولي واحدي إطلاقي، وأصبح بحكم الأمر الواقع تعددياً متنوّعاً بموجب الدستور رغم احتوى الأخير على العديد من المثالب والثغرات والعيوب والألغام الكثيرة، ولم يعد النظام مركزياً، بل أصبح لا مركزياً، وتحوّلت الدولة من دولة بسيطة إلى دولة مركبة.
وبتقديري إن عراق ما بعد حركة الاحتجاج التشرينية سيكون مختلفاً عما قبلها، لاسيّما وإن العملية السياسية أثبتت فشلها الذريع على جميع الصُعد، وقد جاءت الحركة تتويجاً لاحتجاجات العام 2011 في بغداد والعديد من المدن العراقية ونهاية العام 2012 وبداية العام 2013 في المناطق الغربية واحتجاجات العام 2015 وما بعدها، فضلاً عن خلفية وطنية لاحتجاجات من نوع آخر تجسّدت في مقاومة الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق العام 2003، وإجباره على الانسحاب في نهاية العام 2011.
IV
لقد امتازت الحركة الاحتجاجية بالسلمية والوطنية العابرة للطائفية وعبّرت عن الهويّة العراقية الجامعة، وبدأت في أكثر المناطق شعوراً بالخذلان والخيبة، حيث حاولت الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة فرض سطوتها باستغلال الدين والشحن الطائفي، وأكدت فقدان الثقة بالعملية السياسية ككل، وضعضعت آخر ما تبقى من ” شرعية الحكم والحاكم”، لاسيّما بعد أن اضطر الأخير إلى اللجوء إلى القمع العلني والمكشوف.
ربما يحتاج الأمر إلى وقت وتراكم وآداء حسن وقيادات جديدة تنبثق من داخل حركة الاحتجاج ورؤية تشارك فيها النقابات والاتحادات وهيئات المجتمع المدني ، لكن استمرار الوضع على ما هو عليه سيكون عسيراً ، لاسيّما بانسداد الآفاق.
ولكي يكون البديل مقبولاً، لا بدّ أن يحظى برضا الناس من جهة، ويستجيب لتوازن القوى من جهة ثانية، سواء تمكنت الحركة من فرض مطالبها بقوة الشارع، أم تأجل الأمر إلى حين، ولكن التفكير بعقلانية وتدرّج في تحقيق المطالب مسألة في غاية الأهمية ، وقد تحتاج المسألة على تعقيداتها وصعوباتها إلى عقد مؤتمر وطني جامع تشارك فيه جميع القوى دون عزل أو إلغاء أو تهميش لمعالجة الوضع بصورة عاجلة ، ولاسيّما بتشخيص مشكلات الحكم المزمنة والمعتقة وتحديد سقوف زمنية لذلك، تبدأ مما هو ممكن وواقعي وراهن، ثم في إطار خطط متوسطة وطويلة المدى، فالأوضاع الاستثنائية التي يعاني منها العراق تتطلب حلولاً ومعالجات استثنائية جريئة للخروج من الأزمة، استجابة لفقه الضرورة .
وحتى الآن فإن حركة الاحتجاج استخدمت جميع وسائل القوة الناعمة السلمية واللّاعنفية، وتمكنت ببراعة من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وجرّت معها أوساطاً شعبية واسعة، إذ لا يوجد قطاع مهم من القطاعات الحقوقية أو الأكاديمية أو التربوية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الإعلامية أو الطبية أو الخدمية وحتى بعض القطاعات الدينية إلّا وشاركت فيها.
ولعلّ ذلك واحد من أسباب قوة حركة الاحتجاج ومنعتها وإلهامها، فقد وصلت أوضاع البلاد إلى حدود لا يمكن تحمّلها. وإذا ما كانت هناك محاولات اندساس أو تسلل أو تغلغل، أو اختراق داخلي أو خارجي فإن هدفها هو حرفها عن مسارها وشقّها وتشتيتها، سواء كان من السلطة أم بعض أطرافها أم من جهات أجنبية حيث نشطت بعض السفارات، لكل مثل ذلك لن يؤثر على المشهد العام، إذ لا توجد حركة بمثل هذا الإتساع لا يحدث فيها اختراق هنا أو هناك، لكن توجهها العام ظل محافظاً على رباطة جأشه، والهدف هو جرّها إلى دائرة العنف، لاسيّما حين تستخدم قوى مجهولة السلاح ضدها، وما تزال الحكومة تتذرع بعدم معرفتها وتحديد هوّيتها، وفي حين يسقط الضحايا يلوذ المرتكبون بالفرار، وتلك إحدى أوجه السخرية السوداء.
وفي الأوضاع الاستثنائية والمراحل الانتقالية يكون “للضرورة أحكامها” ، لاسيّما في الانتقال من طور إلى طور، حيث تكون الحاجة ماسّة لإطفاء النيران ومنع الفوضى والحفاظ على الدولة اولاً وقبل كل شيء، وهذا يتطلب الاستجابة إلى المطالب الشعبية لوقف حمام الدم ونزع الفتيل.
وأكّدت حركة الاحتجاج أن الأحزاب الإسلامية التي قادت العملية السياسية وبمشاركة قوى أخرى ، كانت فاشلة ولم يكن لديها برنامج محدّد، ناهيك عن الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية إزاء الوطن والمواطن والمواطنة، وهو أمر يعكس مدى السخط في المناطق التي زعمت أنها تمثّلها أو تنطق باسمها، واتّضح ذلك قبل حركة الاحتجاج بعملية مقاطعة الانتخابات أو ضعف المشاركة فيها، تلك التي لم تبلغ في أحسن الأحوال أكثر من 20% من عموم السكان، ناهيك عن فضائح التزوير التي يتهم فيها هذا الفريق ذاك وبالعكس، بحيث إذا استجمعت جميع الاتهامات من كل الفرقاء ستتوصل إلى قناعة بأن الانتخابات يشوبها عنصر التزوير وأن الشكوك التي لدى المواطن العادي، إنما أساسها نابع مما راقبه ولاحظه من “تدوير الزوايا” وتغيير بعض الوجوه في إطار كتل ومجموعات تسلّطت عليه وقصّرت في خدمته كجزء من مسؤولياتها المكلّفة بها دستورياً ، ولذلك يطالب بإصلاح النظام الانتخابي و تعديل الدستور ” القانون الأعلى” كي لا يعيد ذات الكتل والقوى والوجوه التي تحكّمت به.
V
ويبقى هناك سؤال يلحّ على الباحث، ويتألف من شقين الأول-هل ستستمر حركة الاحتجاج بذات الزخم والمدى والإصرار على المضي في الطريق السلمي وعدم سماحها اللعب بمسارها ؟ والثاني- هل ستضطر الحركة إلى اللجوء إلى العنف كرد للعنف السطلوي؟ ودون تكهنات مسبقة ولكن برؤية استشرافية متواضعة ودراسات مقارنة من العديد من التجارب والوقائع التاريخية فيمكن القول: أنه لا يمكن للنظام والحكومة الحالية الاستمرار إلى ما لا نهاية في إراقة الدماء وفي الاستخفاف بحياة المواطنين، وذلك سيكون تفريطاً بلا حدود بالمصالح الوطنية العليا، لاسيّما إذا ما استمرّت حركة الاحتجاج ، بذات الفاعلية والتحدّي وإذا تشبّث النظام بمواقعه، فهذا سيعني المزيد من حمام الدم والمزيد من الضحايا، ناهيك عن تعطل التنمية ومصالح الناس، وحينها سيكون من واجب المجتمع الدولي والأمم المتحدة تحديداً ومجلس الأمن الدولي بشكل أكثر خصوصية “التدخل الإنساني” لوضع حد لذلك، ومن رسم خريطة طريق جديدة لمرحلة انتقالية، يمكن تحديد ملامحها عبر مؤتمر وطني عراقي.
ولكي يكون التغيير استحقاقاً ناجزاً فلا بدّ من توفر واتساق العاملين الموضوعي والذاتي ليتم التحقّق، ونحن هنا نحتاج إلى ملموسية في الشعارات التي يمكن بلورتها لكي لا تبقى عمومية أو حتى عائمة، فضلاً عن إمكانية تطبيقها. وقد يتطلب الأمر أيضاً انبثاق جهة أو هيئة أو مجموعة تمثل الحراك من داخل الميدان، لكي يكون هناك من يعبّر عنها لاختيار اللحظة الثورية، بطرح بعض المطالب الممكنة التحقيق والواقعية، حتى لا تضيع الهبّة الشعبية ويتبدد الحراك وتتشتّت الجهود.
وحين نقول إن من الصعوبة بمكان استمرار العملية السياسية على ما هي عليها، فإن ذلك ينطلق من معايير تتعلّق بالشرعيّة، فأساس أي شرعيّة هو رضا الناس وهذه أصبحت مفقودة، ثم هناك شرعية الإنجاز وهذه غائبة تماماً، أما شرعية صندوق الاقتراع فهي أمرٌ مشكوك فيه بسبب المقاطعة والتزوير، فضلاً عن انخفاض مستوى المعيشة والفشل في إنجاز متطلبات الحد الأدنى للحياة الكريمة، ناهيك عن فقدان الأمن والأمان ، وتبديد أموال البلد لحسابات خاصة.
يُضاف إلى ذلك استخدام العنف وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى،وهو أمر يسقط الشرعية عن الحاكم، خصوصاً وإن التظاهرات كانت سلمية ومدنية، وإن صاحبها بعض ردود فعل، لكن مهمة الدولة هي حماية أرواح وممتلكات المواطنين وحفظ النظام والأمن العام وفقاً لحق التظاهر السلمي القانوني والمشروع وحق التعبير عن الرأي.
ومن واجبات أي دولة ووظائفها هي حماية سيادة البلد التي ما تزال مجروحة، فالعراق يقع بين قطبين أساسيين متصارعين أحدهما إقليمي وهو إيران ولها نفوذ واسع، في حين أن القطب الثاني ممثل بالولايات المتحدة،والنفوذ الدولي بشكل عام، حيث توجد عدّة قواعد عسكرية أمريكية في العراق ويدخلها ويخرج منها المسؤولون الأمريكان دون أي اعتبار للسيادة العراقية، مثلما كانت زيارة مفاجئة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب العام الماضي، ولنائب الرئيس الحالي مايك بنس الذي زار “قاعدة عين الأسد” في محافظة الأنبار غرب العراق (23 تشرين الثاني/نوفمبر/2019) واتصل تلفونياً بعادل عبد المهدي، في حين أعلن رئيس الجمهورية برهم صالح أنه لم يكن على علم بالزيارة، وقد أكمل بنس مهمته بزيارة رئيس إقليم كردستان في إربيل نجيرفان البارزاني مثلما التقى برئيس وزارة الإقليم مسرور البارزاني.
وتتوزع ولاءات أو علاقات القوى السياسية بين هذين القطبين المتناحرين حتى وإن تضمنت مصالحهما بعض التوافقات في السابق والحاضر، وإن كانت امتدادات القطب الإقليمي أكثر عمقاً وأطول ذراعاً بسبب الحدود المباشرة من جهة ولوجود جماعات ذات أبعاد آيديولوجية ومذهبية تعمل معه، وهذه ما تزال قوية ومؤثرة وقد حكمت البلاد منذ العام 2003 ولحد الآن، وبشكل خاص بعد العام 2005، الأمر الذي عوّم السيادة الوطنية وأضعف من الوحدة الوطنية،لاسيّما باستقواء هذه بالحليف الإقليمي تارة وبالمرجعية الدينية للسيد علي السيستاني تارة أخرى، وإن نأت الأخيرة عنها بعد انتخابات العام 2010.
أما القطب الأمريكي وإن كان مؤثراً، لكنه بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق في نهاية العام 2011 انحسر، والسبب هو فشل السياسة الأمريكية وإخفاق الجماعات المحسوبة عليها، بل هناك معارضة لاتفاقية الإطار الاستراتيجي التي ما تزال نافذة، على الرغم من أنه لم يتم الاستفتاء عليها كما نصت هي بالذات، وهو أمر لا يجعلها تتمتع بالشرعية.
والنفوذ الإقليمي يتجاوز إيران أحياناً حيث هناك نفوذاً تركياً أيضاً وتوجد عدّة قواعد تركية في الأراضي العراقية، وترفض تركيا مغادرتها بحجة مكافحة الجماعات الإرهابية والمقصود بذلك حزب العمال الكردستاني PKK ، إضافة إلى امتدادات خليجية بحكم علاقات مع قوى داخلية، لكن تأثيرها ما يزال محدوداً.
وقد تكون هناك امتدادات غير مباشرة “إسرائيلية” ، لكنها غير منظورة، وما قامت به داعش من إعلان “الدولة الإسلامية” هو الوجه الآخر المتناظر مع ما أعلنته “إسرائيل” من إعلان “الدولة اليهودية النقية” ، خصوصاً من حيث التوقيت والتوجه. وبالطبع فإن إضعاف أي بلد من البلدان التي تعتبر ” إسرائيل” كياناً غاضباً لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، سيكون في مصلحتها تفتيته وإضعاف وحدته الوطنية، سواء بشكل مباشر أو بالواسطة.
VI
وأختم إلى القول حسب الدراسات المستقبلية ، فهناك ثلاث سيناريوهات محتملة إزاء الأزمة الراهنة وهي تتراوح بين فقه الواقع وفقه الضرورة:
الأول- بقاء الوضع على ما هو عليه حتى لو سال المزيد من الدم، حيث يمكن احتواء أو إجهاض حركة الاحتجاج، أي “إبقاء القديم على قدمه” وهو احتمال وارد مع بعض الإصلاحات الشكلية.
الثاني- تدهور الوضع باتجاه أكثر شمولية بحكم الثقافة السائدة، بل حتى التراجع عما هو قائم ، بزعم تقوية مركز السلطة ومنع انفلات الوضع واتهام الحركة الاحتجاجية بالتخابر مع قوى خارجية أمريكية و”إسرائيلية” وبعض الدول العربية الخليجية
الثالث- تغيير الوضع جزئياً أو كلياً وهذا يعتمد على توازن القوى وعلى استمرار حركة الاحتجاج في عنفوانها، إضافة إلى التضامن العربي والدولي الذي يمكن أن تحظى به، وذلك من خلال خطوات عديدة منها تشكيل حكومة جديدة تستجيب لبعض مطالب الحركة الاحتجاجية وتعديل أو إلغاء الدستور في إطار سقف زمني محدّد وإنْ كانت هناك صعوبات عديدة تواجه ذلك، لاسيّما “الثلث المعطّل” وفقاً لنظام المكوّنات الذي تضمنه الدستور في المقدمة (مرتان)و5 مواد أخرى في المواد 9 و12 و49 و125 و142 حيث يمكن لثلاث محافظات أن تبطل أي استفتاء جديد على الدستور،(علماً بأن دستور جامد)، وهو حسب التسريبات التي سبق وأن أثرناها في وقت سابق في كتابنا ” العراق- الدولة والدستور: من الاحتلال إلى الاحتلال، دار المحروسة، القاهرة ، 2005 ” ، بشأن المسوّدات المتعددة التي تم التصويت عليها يمكن بالاستفتاء إسقاط موافقة 15 محافظة.
علماً بأن المواد 140 ولغاية 144 أضيفت إلى الدستور بعد الاستفتاء عليه ولم نطّلع عليها الّا بعد طبعه واعتماده والتعامل به من جانب مجلس النواب لاحقاً.
ومن الاصلاحات الملحّة والمطلوبة تعديل أو سن قانون جديد للانتخابات، علماً بأن هذه المسألة مطروحة على مجلس النواب الحالي وكذلك تغيير الهيئة المستقلة المشرفة على الانتخابات، إضافة إلى حزمة من القوانين المطروحة عليه والتي تضمنها دعوة الاصلاح بما فيها إحالة مسؤولين إلى القضاء متهمين بالفساد.
إن البدء بعملية التغيير تحتاج إلى مسار طويل وربما أيضاً معقد، ولكن قطاره إذا ما بدأ بالسير حتى وإن كان بطيئاً فإن سكته صحيحة ومختلفة عن السكّة السابقة، وهو بداية لاصلاحات أخرى ضرورية وأساسية تتعلق بتحسين الوضع المعيشي والخدمات الصحية والتعليمية وإيجاد فرص عمل وحل مشكلات الكهرباء والماء الصافي وبناء وحدات سكنية ملائمة، ناهيك عن وضع أسس لاستعادة هيبة الدولة ومرجعيتها التي ينبغي أن تكون فوق جميع المرجعيات بما يعزز المواطنة ومبادئ المساواة والعدالة والشراكة ويضع ضوابط صارمة لوقف التمييز والشحن الطائفي، وقد تحتاج هذه السلّة من الاصلاحات لعامين أو ثلاثة أعوام على الأقل، لتهتدي إلى طريق التنمية المستدامة بكل جوانبها.
ملاحظة: للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة الدراسات التالية:
1- حركة الاحتجاج التشرينية وإعادة قراءة المشهد العراقي- المنظور والمستور وما بينهما (مجلة الشروق (الإماراتية) العدد رقم (1436-1448) تاريخ 14-20/10/2019).
2- العراق : أزمة تلو أزمة – ستة عشر عاماً من تركة بريمر.. ( مجلة الشروق (الإماراتية) العدد 1439-1451 تاريخ 4-10 /11/2019).
3- الحراك يعيد رسم الخريطة السياسية -الأوضاع الاستثنائية في العراق تتطلب حلولاً استثنائية (مجلة الشروق (الإماراتية ) العدد 1440-1452 تاريخ 11-17 /11/2019)
بطلب من مجلة المستقبل العربي نشر جزء من هذه الدراسة كافتتاحية للعدد رقم 490 ، كانون الأول /ديسمبر 2019.