23 ديسمبر، 2024 10:12 ص

الكورد على خطى الشرق

الكورد على خطى الشرق

لكل مجتمع خصوصيته وثقافته التي يختص بها عن باقي المجتمعات, ولكل ثقافة منابعها وأسبابها المباشرة والغير مباشرة, وثقافة المجتمع هي التي تحدد وجهته ومصيره, لذلك يقع على عاتق المثقفين الملتزمين في المجتمعات المختلفة دور كبير في إرشاد المجتمع وتصحيح المفاهيم المغلوطة.

ان ثقافة تقديس الرموز وتعظيمها تعتبر مصنعا للجهل والتخلف في المجتمعات الشرقية, تلك المجتمعات الموبوءة بالمؤسسات المروجة لفكر التقديس, في الوقت الذي كان لزاما عليها بناء الإنسان السليم الخالي من العلل والأمراض النفسية, فالقدسية درجة أعلى من التقدير والاحترام, وقد ترتقى إلى درجة الالوهية والكمال وعدم جواز النقد.

والمقدس منزه من الخطأ, ونقده يعتبر من المحرمات والكبائر, ومن أولى المؤسسات التي تساهم في تنشئة عقلية التقديس هي مؤسسة الأسرة, فالأب هو رب الأسرة وحاميها ومدبر شؤونها وهو معصوم من الخطأ ومخالفته جريمة كالإرهاب, ثم تأتي المؤسسة التعليمية التي يديرها المعلم وهو رب العلم وسيده ومخالفته جريمة كالزنا في الدين, ثم يتلقى الفرد تعليميه في المؤسسة الحزبية التي يقودها القائد الرمز, وهو رب السياسة, وعالم خفاياها, والاعتراض على قراراته جريمة كالخيانة للوطن.

فيبلغ الفرد في المجتمع الشرقي مرحلة متقدمة من العمر دون شخصية مستقلة, وبدون ان يتحكم بقراراته المصيرية, وسلوكياته الفردية في المجتمع, ويتلوث عقله بشواذ الافكارونشاذها, ويصبح عرضة للبيع والشراء في مختلف البازارات السياسية والدينية والاجتماعية وارتهاناتها.

وباعتبار الكورد هم جزء من هذه المنظومة الشرقية, والمجتمع الكردي مثله مثل اي مجتمع شرقي, لانه مجتمع مقطوع الأوصال بين ثقافة اربع دول موبوءة بالفساد السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي, فقد سار الكورد على خطا تلك المجتمعات, و توارثوا مفهومهم الفاسد في التقديس, وابدعوا في ذلك بدءا من ثقافة الولاء المحمودكي والعثمانكي, وأنه لابد من وجود الرمز المقدس, الذي يقودنا الى مصيرنا المجهول, ويغتصب قرارنا وارادتنا, حيث لا نقد لشخصه ولا مراجعة لقراراته وأوامره, واننا نفديه بحياتنا وحياة ابنائنا, فكانت قراراتنا اعتباطية وهزيلة وغير حكيمة, وتخلفنا عن باقي الشعوب بعشرات السنين إن لم يكن بالمئات.

لذلك ما أن يبزغ نجم شخص ما في مجال السياسة, حتى يبادر مجموعة من المريدين الجهلة إلى وضع هالة من القدسية حوله, تصل إلى حد الاستماتة في الدفاع عنه بما يفوق العقل والمنطق, وتجعل من مخالفته في الرأي أو توجيه النقد له, هي حالة من الجهل بالسياسة او العداء للقضية وربما الخيانة للقضية الكوردية, التي قد تدفع بمريديه إلى خوض حرب إعلامية وكلامية, وتصل في كثير من الأحيان الى العنف الجسدي, وربما يعود ذلك الى تعطش الكورد للحرية وحرمانهم من قيام دولتهم المستقلة اسوة ببقية شعوب المنطقة, لذلك فانهم يتمسكون باي بارز سياسي ويدعمونه أملا في الخلاص من الظلم وتحقيق حلمهم الكوردي.

يجب أن نميز بين التقدير والاحترام الشخصي والتقديس للقادة السياسيين, وأن لا نتردد في توجيه النقد البناء لقراراتهم فتوجيه النقد البناء لقائد سياسي لا يعني عدم احترامه او الانتقاص من مكانته, فالنقد البناء هو عمل إيجابي لتطوير العمل السياسي المؤسساتي لدعم خطاب القادة السياسيين, ولفت انتباههم الى جوانب الضعف والخلل في قراراتهم السياسية ليتمكنوا من تلافيها وتصحيح اتجاه البوصلة.

إن المجتمعات المتخلفة سياسيا هي التي انتجت الانظمة الديكتاتورية الفاسدة, من خلال تمجيد وتقديس الرموز السياسية او الدينية, تلك الانظمة التي تسلقت الحكم في المجتمعات الشرقية المتخلفة, واستغلت جهل المجتمع وسذاجته لبسط نفوذها على مختلف جوانب حياة الناس, السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية, وجردتهم من كل مقاييس العيش بكرامة.

وإذا تصفحنا التاريخ القريب وليس البعيد, نلاحظ ان الغرب لاقى الويلات من جراء تقديس الاشخاص, ولم يبلغ ما بلغه حاليا الا بعد ان تخلص من ثقافة تمجيد الرموز وتقديسها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية, الى جانب عزل الدين عن السلطة السياسية.

لذلك لا بد ان تدرك شعوب الشرق عموما والكورد خصوصا ان اول علامات النضج السياسي هوخلع ثوب القداسة واسقاط كافة شعارات تقديس الاشخاص, دون المساس باحترام وتقدير رموز الكورد والاقتداء بنضالهم, والإخلاص للقضية الكوردية, ويجب ان نعي أن التقديس يعتبر من الأمراض الاجتماعية والسياسية المزمنة في الشرق التي تحتاج علاجا واقعيا وجذريا وفهما صحيحا للسياسة الدولية, بعيدا عن التعصب الحزبي او القومي والاثني او حتى الديني, وعلينا عدم تغييب دور الفعل الجماعي المؤسساتي للمجتمع الذي يكون وراء نجاح اي رمز او قائد سياسي لبلوغ الأهداف المحقة والشرعية, وان لا نكون اداة لولادة دكتاتوريات تنسف عدالة قضيتنا وشرعيتها.