18 ديسمبر، 2024 11:16 م

لا يصل الإنسان إلى النعيم بواسطة الأماني بل لا بد من الاختبار والفتنة كما قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت 2. وبهذا يظهر أن الفتنة تلاحق الإنسان في جميع توجهاته، فإذا اجتاز هذا الاختبار العسير يمكن أن يلمس النتائج الايجابية في هذه الحياة وقبل أن ينتقل إلى الدار الآخرة كما قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً… ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق 2- 3. والقصص القرآنية تذكرنا بهذا الواقع وكيف أن الله تعالى ينصر عباده المخلصين ويمدهم بأسباب النجاة، والقرآن الكريم لا يشير إلى زمان القصة أو مكانها وذلك لأن العبرة ليست بالزمان أو المكان وإنما موضوع القصة هو السبب في عرضها، وأحياناً يكون الأنبياء هم الموضوع نفسه لذلك يشير إلى أسمائهم، علماً أن ذكر الأنبياء لا يتعدى الاسم الأول لكل منهم إلا عيسى (عليه السلام) فإن القرآن ينسبه في أغلب القصص إلى أمه ليلفت الأنظار إلى أن عيسى هو ابن مريم ولم يأت عن طريق الأب لإزالة الإبهام والاختلاف الذي حدث بسبب مولده (عليه السلام) لأن هذا الاختلاف ليس وليد زمن بعينه أو حدث عابر.

وما قصة أصحاب الكهف والرقيم إلا واحدة من القصص القرآنية التي تغاضى القرآن عن ذكر أسماء أبطالها، وزمان الحدث ومكانه، وما ذكره المفسرون من أسماء أصحاب الكهف فهذا لا يعول عليه، ولا يوجد دليل لذلك إلا في الكتب القديمة التي لا يمكن إثبات صحتها، ولو سلمنا جدلاً بصحة تلك الأسماء فليس فيها كثير فائدة، وإنما الفائدة في جعل هؤلاء الفتية قدوة لكل من يريد أن يواجه الطغاة والظلم وبمختلف الطرق التي يعتقد أنها الحل لإعلان المواجهة التي تحدث التغيير، وهذه المواجهة يجب أن تكون مبنية على أسس سليمة يقرها الشارع. ولا يمكن للمؤمن الذي يريد أن يحدث التغيير أن يسير بنفس الاتجاه الذي كان عليه الطغاة حين حصول ذلك التغيير.

وهذه المواجهة إذا كانت متكافئة بالعدة والعدد فلا مبرر لترك البلد الذي يحدث فيه الظلم والجور وإنما يواجه ذلك الظالم بنفس الطريقة التي جعلها أداة لظلمه أما إذا كان المتسلط على رقاب الناس ذو قوة جبارة ولا يمكن أن يواجه بالطرق التقليدية فههنا يجب الأخذ بالحل الفطري الذي يرتضيه الشارع والمتمثل بترك البلد والاتجاه إلى أرض أخرى وبخلاف ذلك فإن الإنسان الغابر هو الذي يتحمل عاقبة عدم تركه البلد. والله تعالى يقول: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وسائت مصيراً) النساء 97.

ولذلك فإن القرآن الكريم أعطانا درساً مهماً في قصة أصحاب الكهف حيث قال تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) الكهف 9. ثم ذكر تعالى بأنه زادهم هدى بعد إيمانهم وهذا من أعظم النعم التي ينعم بها الله تعالى على عباده، ثم جاءت المرحلة الثانية وهي الربط حيث إن الربط على القلب هو السلاح الأكبر الذي يجعل المؤمن في حصن حصين كما قال تعالى في أم موسى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) القصص 10. لذلك فإن أصحاب الكهف كان توجههم بعد مرحلة الربط بكل قوة وبدون شطط إليه تعالى ومن ثم فإنهم نبذوا حياة الرفاهية التي يعيشونها ثم اعتزلوا إلى الكهف وكانوا على يقين من أن الله تعالى سوف يهيئ لهم من أمرهم رشداً.

هذا هو الكهف الذي يتلى ويتعبد به وبأصحابه وكلبهم في آيات بينات إلى أن تقوم الساعة لأجل أن يكون مثالاً صادقاً لكل من يرغب في اعتزال الظلم وأهله ومحاربة الباطل ونبذ الفتن، والإنسان مع ضعفه إذا اجتاز تلك المراحل التي مر بها أصحاب الكهف فإن الله تعالى يمده بالقوة التي تكون كالنتيجة والمحصلة لما قام به في مواجهة الظالم المتسلط. وهنالك اعتزال من نوع آخر وهو اعتزال رفاق السوء، وكل ما من شأنه أن يبعد الإنسان عن الصراط المستقيم، لذلك جعل الله تعالى هؤلاء الفتية قدوة لكل مخلص ومؤمن ومهاجر بدينه ومعتزل عن الشر والأشرار.

وعندما يتطرق أحد إلى قصة أصحاب الكهف فقد يوجه إليه السؤال التقليدي وهو: كم عدد أصحاب الكهف ؟.. ومن هنا أقول إن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم وقد خاض في هذا كبار المفسرين واستخرجوا العدد بطرق مختلفة، وفي هذا يقول الزمخشري في الكشاف: عن قوله تعالى: (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولين؟ قلت هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك “جاءني رجل ومعه آخر” و “مررت بزيد وفي يده سيف” ومنه قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) الحجر4. وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله: (رجماً بالغيب) وأتبع القول الثالث قوله: (ما يعلمهم إلا قليل).

أما الطباطبائي في الميزان: فيذهب إلى أن عددهم سبعة أو أكثر ولكنه يؤكد ذلك بطريقة أخرى فيقول: والظاهر أن القائلين: (ربكم أعلم بما لبثتم) غير القائلين: (لبثنا يوماً أو بعض يوم) فإن السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل، ولازمه كون المتكلمين ثانياً غير المتكلمين أولاً ولو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: “ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا” بدل قوله: (ربكم أعلم) الخ ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو

أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم (قال) مرة و (قالوا) مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم عن سبعة. انتهى ما ذهب إليه الطباطبائي.

أقول: لا يمكن أن يكون العدد أكثر من سبعة كما احتمل صاحب الميزان، وذلك لأن هذا العدد كان آخر الاحتمالات في الآية 22. إلا أن الطباطبائي استشف هذا الاحتمال من قوله (قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) لكن هذا لا يعني أن العدد يحتمل الزيادة أو أنه مبهم لأنه تعالى عقب بنفس الطريقة بعد قوله: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً) الكهف 25. عقب بقوله: (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض) الكهف 26. علماً أن مدة اللبث معلومة فتأمل ذلك. لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ويشهد بعضه على بعض فليس ثمة اختلاف كما قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) النساء 82.

فإن قيل: عنوان المقال: الكهف قصة لها تكرار.. هل يعني أن قصة أصحاب الكهف ذكرت أكثر من مرة في القرآن؟ أقول القصة لم تكرر في القرآن الكريم وإنما لها تكرار في الواقع فكل يوم هنالك كهف وكل كهف له أصحاب.