22 ديسمبر، 2024 7:02 م

الكهرباء والطائرات السمتية

الكهرباء والطائرات السمتية

قبل أيام، التقيت أحد مديري كبرى الشركات الأجنبية العاملة في مجال الكهرباء، ولدى استعراضه إمكانات شركته الفنية والتنفيذية ذكر لي (متبجحاً) أن شركته تستخدم الطائرات السمتية (الهيلوكوبتر) في أعمال صيانة خطوط نقل الطاقة الكهربائية وفي تشييدها، حيث اشترت شركته، مؤخراً، عديداً من هذه الطائرات لهذا الغرض، لكن الرجل فوجئ عندما أعلمته إن هذه الوسيلة قد استخدمت في كهرباء العراق، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكان لها نتائجها المباشرة في تسريع إنجاز الأعمال الخاصة بإعادة بناء الأبراج الساقطة، لم يكن القصد من حديثي وضع مدير الشركة في موقف الإحراج كما كانت تشير ملامحه، بل وددت إيضاح أهمية ما تحتله حالة نقل التجارب وتبادل الخبرات من هذا النوع بين دول العالم، تالياً اتفقنا على أن سبب القصور في تحقيق هذه الأهمية يعود إلى محدودية المتاح من وسائل الاتصال والنشر، آنذاك، مقارنة مع المتوفر، الآن، من وسائط سريعة ومتطورة .
في ثمانينيات القرن الماضي كلفت بإدارة كهرباء المنطقة الشمالية، التي تقع إدارتها في قضاء دبس شمال العراق، حيث كانت من المهمات الأولى والرئيسة لهذه الدائرة هي تنفيذ أعمال المعالجات السريعة لتوقفات خطوط نقل الطاقة، التي تؤثر على التغذية الكهربائية للمحافظات الشمالية، لشبكات نقل الكهرباء في المنطقة الشمالية من العراق خصوصية ظرفية تختلف عن مثيلاتها في الجنوب والوسط، فمئات من أبراج هذه الشبكة تقع في مناطق نائية ووعرة لا يمكن لعجلات الصيانة الوصول إليها وهي غالباً ما تتعرض إلى التدمير الكامل بفعل التخريب المتعمد من جماعات مسلحة لها مواقفها من السلطة، آنذاك، أو سقوط عديد منها نتيجة للظروف الجوية في مواسم الشتاء، في ذلك الوقت كانت الإحصائية الخاصة بأضرار خطوط النقل تشير إلى سقوط (٦٦) برجاً حاملاً لأسلاك مختلفة الأحجام بجهد ( ١٣٢ كيلو فولت)، تتوزع على المناطق البعيدة عن مراكز المدن والقصبات ولا وجود لطرق سالكة تمكن العاملين في صيانة الخطوط من الوصول إلى مواقعها بأمان، وللحاجة الملحة لعمل منظومة الكهرباء في المنطقة الشمالية، بوصفها جزءاً مهماً من المنظومة الوطنية، تم تنصيب أبراج مؤقتة محل الدائمية المتضررة (متدنية في درجة الأمان والوثوق) كمعالجة استثنائية لديمومة عمل خطوط النقل، بل تم اللجوء، في أحيان عديدة، إلى استخدام الرافعات (الكرينات) لرفع الأسلاك وهي من الوسائل الغريبة المبتكرة في معالجة توقف بعض الخطوط، التي تحتل أهمية قصوى في عمل منظومة الكهرباء العامة .
كنا أمام تحدٍ كبير وهو إعادة بناء هذا العديد من الأبراج المدمرة والساقطة في ظروف عمل استثنائية (لوجستية وأمنية)، شرعنا بالعمل، بعد تشكيل فريق كبير من الفنيين والإداريين ووضعنا خطة له على وفق مبدأ (المسارات الحرجة) في التنفيذ .
فكانت الخطوة الأولى هي عملية نقل مقاطع الأبراج والقطع الحديد المنفردة وكذلك المواد الملحقة بها بالإضافة إلى المكائن المطلوبة في إعادة تشييد الأبراج إلى مواقع العمل المنتشرة، التي تحتاج الى وقت وجهد استثنائيين وكبيرين.
وهنا كان دور الاستعانة بالطائرات السمتية العائدة لطيران الجيش حاسماً في اختزال الوقت وتوفير الجهود فكان لطواقم هذه الطائرات دور مؤثر في سرعة الانجاز من خلال تفاعلهم الداعم غير المحدود لتنفيذ هذه المهمة الشاقة، وقد استطعنا تجاوز ما لجأت إليه الشركات الأجنبية المنفذة لمشاريع هذه الخطوط في المناطق الوعرة باستخدام الحيوانات (البغال) لنقل المواد إلى مواقع الإبراج قيد الإنشاء .
كما جرت المحاولات، حينها، لاستخدام هذه الطائرات في تركيب الأجزاء العليا من الأبراج وكذلك تعليق الأسلاك عليها .
بعد أن تمت عمليات النقل ومتطلبات العمل كافة بدأنا بصولة التنفيذ وفي أكثر من موقع و بإسناد من مديريتي شبكات كهرباء المنطقة الوسطى والجنوبية، حيث التحقت فرق عمل متخصصة أوفدت من هاتين المديريتين لتسهم في إعادة البناء إلى جانب العاملين في شبكات المنطقة الشمالية، لم تستغرق فعاليات الإعادة وقتاً طويلاً، كما كان متوقعاً، إذ تم إنجاز بناء الابراج المتضررة والساقطة كافة وعادت إلى وضعها بصفتها الدائمية على وفق المواصفات المعتمدة فنياً، وقد جرى اعتماد هذه السياقات في تنفيذ مثل هذه الأعمال بالتنسيق مع طيران الجيش وإلى حد ما فرضته تداعيات العدوان من تحديد مناطق حظر الطيران مع بداية التسعينيات .
هذه إحدى تجارب العراقيين الناجحة في ممارساتهم العملية التي سبقوا بها الكثير من الشركات والدول على مستوى العالم.