22 ديسمبر، 2024 6:30 م

الكهرباء… بين الكبسة والمسكوف

الكهرباء… بين الكبسة والمسكوف

ليس بجديد على الأقطار العربية سعيها إلى تنفيذ مشروعات اقتصادية مشتركة على أسس التعاون وفي مختلف المجالات التي شملت العديد منها إنجاز الربط الكهربائي بينها، على وجه التحديد الاقطار المتجاورة، ففي العام ١٩٥٢ تم ربط شبكة الكهرباء التونسية مع الشبكة الجزائرية، ومع مطلع ثمانينيات القرن الماضي تم انجاز خطوات عملية في تنفيذ شبكات الربط الخماسي بين (الاردن، العراق، سوريا، مصر وتركيا) والذي تطور ليصبح ثمانياً بعد انضمام لبنان وفلسطين وليبيا،
وفي الحقبة الزمنية نفسها تلك وعلى وفق نتائج التطور الهائل في منظومة الكهرباء العراقية ووفرة إنتاجها، آنذاك، الذي رافقه بناء شبكة نقل متينة ذات وثوقية عالية كان التصريح الاعلامي المعروف لوزير الصناعات الثقيلة العراقي بجاهزية العراق لتصدير الكهرباء إلى تركيا مع الإشارة إلى الربط الكهربائي مع الكويت ، وما أن مرت بضعة سنوات على هذا التصريح (الرسمي) ومع بداية العام ١٩٩١ حتى تعرضت المنظومة الوطنية للكهرباء العراقية إلى كارثة كبيرة عندما شمل الدمار مفاصلها العاملة كافة نتيجة لتنفيذ ٢٥٠ غارة جوية وصاروخية عليها ضمن مجريات ما يسمى حرب الخليج الثانية فكانت نسبة الضرر المقدرة قد تجاوزت الثمانين بالمائة من منشآت هذه المنظومة المنكوبة ، ومنذ ذلك الحين وعلى الرغم من حملات الإعمار التي نفذتها الملاكات الوطنية المعروفة بقدراتها الميدانية والتي سخر لها دعم كبير من مؤسسات الدولة المختلفة والقطاع الخاص، آنذاك، إلا أن المنظومة الكهربائية لم تعد إلى سابق عهدها الذي كانت عليه، قبل العدوان، المتمثل في قدراتها الإنتاجية ودرجة متانتها إلا أنها استطاعت تلبية الاحتياجات الاساسية لحياة المواطن حيث كانت تعمل في ظروف استثنائية تحت وطأة إجراءات الحصار الاقتصادي الجائر المفروض على العراق للمدة (١٩٩١ – ٢٠٠٣) فكانت إحدى تبعات هذا الحصار هو حرمانها من توفير الكثير من المواد الاحتكارية الحاكمة لعمل وحداتها الإنتاجية وعموم شبكاتها الملحقة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن العاملين في إدارة قطاع الكهرباء لم يستكينوا لتحديات العقوبات الاقتصادية المتمثلة بقراررت اللجنة الدولية (٦٦١) سيئة الصيت فكان الشروع بتصنيع البدائل وتوفير ما أمكن من مواد حاكمة لعمل المنظومة بوساطة تهريبها من الخارج إلى داخل العراق كمًا استطاعت هذه الإدارة تنفيذ الربط الكهربائي الثنائي مع سوريا في العام ٢٠٠١ (مشروع الربيع) لتغذية مناطق محدودة بعيداً عن أنظار الرقابة الدولية وبالتعاون مع وزارة الكهرباء السورية.
بعد سنة الاحتلال ٢٠٠٣ ومع شيوع ممارسات التخبط والضياع الشامل في إدارة شؤون الدولة كافة لم تجد محاولات انتشال قطاع الكهرباء من حالة التردي وكان الإخفاق واضحا ًفي غياب التيار الكهربائي لساعات طويلة نتيجة لغياب المهارات القادرة على ترميم الأضرار التي أصابت عموم المنظومة الكهربائية، حيث توالت مئات المشاريع وعقود التجهيز الخاصة بهذه المنظومة والتي خصصت لها مبالغ كبيرة تجاوزت المائة مليار دولار، إلى الآن، والتي كانت بحكم الهدر للموارد الوطنية التي استبيحت نتيجة لوقوعها ضحية لسيطرة مصالح الأحزاب ورعاياها بوساطة عمل ما أطلق عليه المكاتب الاقتصادية وتبعات نظام المحاصصة المقيت، رافق هذا الإعلان عن العديد من مشروعات الربط الكهربائي للشبكة العراقية إقليمياً كانت (الربط مع تركيا) أم عربياً (الربط الأردني والخليجي) الذي تم الاعلان عنه سابقاً والذي لم يرَ تطبيقه النور، ما عدا الربط الكهربائي مع الشبكة الايرانية والقائم حالياً الذي يمد العراق بحدود ( ١٠٠٠ – ١٢٠٠ ميكاواط) من أصل حاجته البالغة بحدود ٣٠٠٠٠ ميكاواط حيث أجبر العراق على القبول بالشروط التعسفية لهذا الربط في جوانبه المالية والفنية بهدف التخفيف من الأزمة المتفاقمة لخدمة تجهيز الطاقة الكهربائية وعلى وجه التحديد في أوقات زيادة الطلب على الاستهلاك في موسمي الصيف والشتاء، فكان فقدان الخطوات العملية في تنفيذ مثل هذه المشاريع المعلن عنها مؤثراً في انعدام ثقة المواطن بها، بعد أن كان متفائلا ً بأنها الحلول الحاسمة للخلاص من معاناته الطويلة جراء تردي خدمة الكهرباء إلى أن وصل به الأمر إلى حالة من اليأس والإحباط تجاهها فهي لا ينظر إليها إلا نظرته إلى زوبعة إعلامية تهدف إلى إيهامه وتخديره بعيداً عن المعالجات المطلوبة القادرة على غلق ملف الأزمة كاملاً، حتى جاء الإعلان الحكومي (العراقي – السعودي) عن خطوات الربط الكهربائي، مؤخراً، والمعلن عنه، منذ تموز سنة ٢٠١٨ ليعزز شعور عدم الثقة لدى العراقيين عموما ًفي جدوى مثل هذه المشاريع، فعلى الرغم من الأهمية المستقبلية للمشروع إلا أنه يبقى عاجزاً عن الحلول الوطنية المتاحة فالمنتظر من هذا الربط هو تجهيز الشبكة العراقية بكمية من الطاقة الكهربائية لا تتعدى ٥٠٠ ميكاواط للمرحلة الأولى والتي تمثل ما نسبته ٢ بالمائة من حاجة العراق الفعلية، الآن، على وفق التقديرات المعتمدة، فالكثير من الأوساط تلقت هذا الإعلان باستهجان كبير على الرغم مما صاحبه من صخب إعلامي واسع مروج له فهو، من وجهة نظرها، بمرتبة الرقص على المعاناة القاسية للمواطن العراقي نتيجة تعثر خدمة تجهيز الكهرباء وغيابها أحيانا كثيرة فهو لا يتجاوز حدود الإعلام السياسي الذي توظف له أحداث وظروف مؤثرة في حياة الأوساط المستهدفة واهتماماتها لأجل تحقيق غاياته المحددة.
إن ما كرس حالة السخرية والاستهجان وعززها لدى هذه الأوساط هو ما تضمنه حديث الإعلان عن مشروع الربط في لقاء الجانبين (العراقي والسعودي) من هوامش طغى عليها طابع المزاح والمجاملات غير الموفقة في استعراض الأكلات الشعبية وما ينتجه المطبخ العراقي من أطعمة مميزة لتكون إحدى خيارات الايفاء بالعرض التجاري مقابل تزويد العراق بالطاقة الكهربائية….
وهنا لا يسعنا إلا أن نقول للأشقاء في السعودية (جزاكم الله خيراً) فعرضكم في قبول القيمر وكبب الموصل والمسكوف سوف يرد لكم بقبولنا الكبسة أو دونها فالعراقيون يعرفون الكثير عن صناعة الكهرباء وأصول إنتاجها، منذ اكتشافها على أراضيهم، قبل الميلاد، فلديهم من العقول والمال ما يؤمنها لهم ولغيرهم عندها سوف تنتفي حاجة طلبها من شرقهم أو غربهم وسوف نرد لكم هذا الجميل وإن غداً لناظره قريب .

* مهندس استشاري/ رئيس هيئة الكهرباء العراقية الأسبق