23 ديسمبر، 2024 12:26 م

الكلام بنقيضه ِ.. / شذروان رشدي

الكلام بنقيضه ِ.. / شذروان رشدي

الورقة المشاركة في مهرجان المربد الثاني عشر / دورة الشاعر رشدي العامل
7- 9 / كانون الثاني 2016/ البصرة

هذه الورقة مهداة الى علي رشدي العامل ..

مذاق النار يستعير الندى في قصائد رشدي …

عتبة الورقة..

رشدي العامل كان مصاباً بشعرية اليد .. وبشهادة الناقد الدكتور حاتم الصكر وهو يخاطب رشدي العامل (إنك تُخرج الشعر من أي مكان حولك / ) والعلاقة بين رشدي والقصيدة كالعلاقة بين قلمه والورقة وبشهادة الصكر ثانية (يد رشدي لاتبعد عن الشعر إلاّ بعدها عن القلم .وهذا هو سر شعرية قصائده )..لكن كم هي المسافة بين سرير وحديقة ؟ سرير الشاعر الوالد والإبن بحديقته ؟ ومَن تحكم بمن ؟ هل قاد الشاعر قطيع قصائده ؟ أم تركها للتسيير الذاتي ..للتلقائية الكتابة الاولى ؟ بشهادة رشدي نفسه (تتحكم بي الى درجة العذاب .تمزقني .تغري عروقي .وأحيانا تتعطف عليّ فأحبها في الحالتين ) من سعة العراق ،كانت حصة رشدي العامل : سجون العراق والمستشفيات ،التي

(تركت في الكف مسماراً

وفي العينين جمره / 279- الطريق الحجري)

لكن رشدي ، تفوق على حصته العراقية بالمحبة والمحبة ..

: (فالعالم ليس السجن

وأهداب الدنيا بستان

العالم ياولدي الإنسان )..

وفي آخر قصيدة من (الطريق الحجري) يتساءل رشدي :

(ماذا نترك للذكرى ،

لوغبنا عن حقلك ،

ياوطن الاحزان )..ويبدو ان عراقنا هو هو، كما هو الحال دائما ..

(عودي بي للوطن الراقد في الصحراء

يبكي قطرة َ ماء

للوطن الغائب في الظلماء/ 278)

وتبقى محنة رشدي هي هي

(كيف تُرخي عيونك

والنهر يغلي دماً

والعناق

بين نهريك.. دجلة ُ تأتي اليك َ

ويأتي الفرات ُ

وتأتي عيون الرفاق

أنت لاتغمض الجفن َ

لاتطبق العين َ

لاتمحّي..ياعراق /ص 6- 7/ أيهذا الوطن – من ديوان/ الطريق الحجري)

هذه القصيدة مكتوبة في 1986والحرب العراقية الإيرانية في ضراوتها ولكن رشدي كشجرة على خط الاعتدال ، يدين الحرب ويحب الوطن بقناعته هو ..وبشهادة الشاعر

(وأظل وحدي أحرس الاعشاب تذبل

والحصى حول الملاعب

مدني مسورة ٌ، تماثيلي مهشمة ٌ

عيوني لاترى غير الظلال

غير الظلال تطوف ُ

هائمة ً على جُدرِ الخرائب )..

ولأنه لايجيد سوى القصيدة ،فسوف توصله القصيدة الى : جرح الضوء ..عطر اللون ..دويّ الصمت ..كف الضحى ..أهداب الشمعة ويكون للكلمات أبواب وأشرعة .ولايكون له سوى ذلك الطريق الحجري !! ونكاية بالخذلان لايكف عن محاولة الفرح :

(خلّنا في المطاف الاخير ،

نسائل هذا الزمان البخيل الأمان

خلّنا مرتين

مرة ً نوقظ الأوجه َ الراكده

مرة ً نوقدُ الشمعة البارده

خلني مرة ً واحدة

أستعير الندى،

من جفون الزمان ..)..

(*)

الورقة المشاركة

مَن يقرأ قصائد رشدي العامل .. بعيدا عن جهامة النقد الاكاديمي أو مشرحة الحداثة ستغمره السعادة ،بما يتأرج من شذروان رشدي ..وهو ينجّر للكلمات ابواباً و يصيرها مفتّحة ً لاسنة ٌ ولانوم ..ومن نسائم قصائده ِ ينسج لنا أشرعة لاتطوى ..كل ما يكتبه رشدي هو غزل عراقي فهذا الشاعر تحديدا مجبول من نسيم الرياحين وموسيقى نواعير وسادة رأسه الاولى ..، يلتقط غصنا نديا ويجالس ندى الحدائق لتكتبه القصيدة في هدأة الفجر أو صخب ظهيرة الممرات الضيقة بين البيوت وفي الحالتين قصائده بنكهة النعناع ..برهف الفراشة التقط رشدي العامل مايجري في ليل الطرقات

(أقدامنا كأنها تحلم، حتى الخطى تحلم بالنجم /49) يلتقط رشدي صورة ً شعرية ً متداخلة ً ،ثم يلتقط صورة ً للصورة نفسها ، في الاولى عدالة الاواني المستطرقة :

(البحرُ في العينين ،والجلنار

في الارض .والسوسن في الماء

لقد تحدثنا طوال النهار

ولم نقل شيئا )

في الصورة الثانية يثبّت الخلل في التواصل ،يثبّته علاماتيا ..

(وظل الجدار

يحجب عنا زرقة َ الماءِ

والبحر في عينيك ،والجلنار

في مركب ٍ ناءِ)

(*)

هل هناك مَن لم تستوقفه ُ هذه الصورة الشعرية النادرة (كل الذي كنتُ أعانيه ِ، تكسرُ الاخشاب ِ اذ تحترق / 129- النهاية ) هنا تمتزج رؤيتان واحدة للعين والاخرى للإذن ونلاحظ ان الصورة إذنية ،أكثر مما هي عينية ،فالاولوية لفعل التكسير ويليه الاحتراق ، رغم ان التكسير مشروط ٌ بالنار ..في الحب، رشدي ينفي أفلاطون وبني عذرة ويشترطه حبا واقعيا كالعراق ..(أجمل مافي حبنا..رطوبة الارض /126) ..والشاعر إلتقط وحدة وصراع الاضداد (أُحس الموت َ في أهدابنا يقظان ) ورغم ذلك فهو يتمنى (. ليت الظلمة الخرساء تنجاب.وليت الموت لايدنو ). .لكن في قصيدة متأخرة ،يشهر حزنه

(مات المغني

هل نستعيد حكاية السنوات

عارية ً

بلا وترٍ

يرافقها

ولاصوت المغني )..وقبل هذه القصيدة المتساءلة ،بسنوات ليست قليلة يجيبنا رشدي

(ماذا نغني، صخورٌ في حناجرنا

وعبر مرفئنا، ريحٌ وأعصار

تلوب للضفة الاخرى سفائننا

ويسحق الفجرَ عند الفجرِ بحارُ / من قصيدة الغريب / للكلمات أبواب وأشرعة )

(*)

التقط ُ قصيدة (عندما لانتكلم ) من مجموعته الشعرية (للكلمات ابوابٌ وأشرعة )..قبل الحديث عنها أحاول القيام بمسح عام للمجموعة : ثمة مسافة ٌ بين سنة الاصدار وسنوات القصائد :

*المجموعة صدرت في 4/11/ 1971

*القصائد مكتوبة في بغداد بين 1961- 62- 63- 64- 65- 67- 68 -69، وهناك ثلاث قصائد مكتوبة في 1970..قصيدتان مذيلتان :بودابست (كلمات ) و(بطاقة بريد) أما قصيدة (مذكرات ستارا زاجورا) فقد ثبّت الشاعر في نهايتها : صوفيا 1970 .. قصيدة (الجدران لاتدق ) مكتوبة في القاهرة عام 1958..من كل هذا نستنتج ان هذه المجموعة اشبه ماتكون بمختاراتٍ شعرية ..على مستوى التقنية الشعرية، يهيمن الصوت الغنائي الوجداني للشاعر ..

(*)

يهندس الشاعر قصيدته (عندما لانتكلم ) من خلال ثلاثة مقاطع ، ترى قراءتي أنّ القصيدة تتمفصل في سبع إحالات تكرارية ، وكل إحالة تزيد فضاء القصيدة : سعة ً..وفي القصيدة :لغة الكلام معطلة ، لسببٍ مغيّب في النص الشعري ،لكن بالتجاور النصي ربما نلتقط السبب في القصيدة التي تلي ذلك وهكذا نحصل على نصين يقتسمان المهيمنة ذاتها بدءً بالعنونة ويمكن اعتبار قصيدة (أغنية دون صوت /48) بمثابة العتبة للنص الذي يليها ..

*النص الاول (عندما لانتكلم / 51)

*النص التالي (كلمات ليست حزينة جداً/ 53

الفرق بين النصين : هو الفرق بين : السر / البوح

(*)

في (عندما لانتكلم )

الإحالات متبادلة بين طرفين ،في النص ثمة حكاية وجيزة ،تفترش الاحالة التكرارية الثالثة

وهناك سيادة الماء بتنويعاته :

الضحك : ماء النفس

الدمع : ماء العين

المطر : بكاء الشتاء

الثلج : فضاء الوحشة

(*)

في المقطع الاخير من ( كلمات ليست حزينة جدا) ، تستوقفني مفردة (النسيان ) ،فأستعملها بوصلة ومحطات لنسيانات مبثوثة في قصائد المجموعة والنسيان هو نتيجة وهو التالي ..الأول هو الحدث ويليه التذكر وبهذا الصدد ، في كتابه (الشفاء )..يرى الشيخ الرئيس أبو علي ابن سيناء..(التذكر هو الاحتيال لإستعادة ما اندرس فلايوجد على ما أظن إلاّ في الإنسان ، وذلك أنّ الاستدلال على أن شيئاً كان فغاب إنما يكون للقوة النطقية ..)

(*)

تستوقفني مفردة (نسيان ) وفعل (نسيتُ ) أرى ان القصيدة لدى رشدي فعل تذكر / تذكير ويصبح التذكر استعادة ما أفل ؟ والتذكير يوجهه الى الطرف الثاني من باب (..إن نفعت الذكرى ) والذكرى تنبجس من ذاكرة الشاعر بصيغة صليب (ولم نحمل سوى الصلبان ، تذكاراً من الحفرة /ص160/

البحث عن الظل )..يمتد خيط القصيدة من قلب العاشق الشاعر رشدي ويطوف ليستقر الطرف الثاني من الخيط في سبّابة العاشق نفسه ..

(ضعي لنا في السرير

شيئا من البغض

خيطا من الحزن ِ

المرير ..المرير

نلفه بين أيادينا

إذا تمطت في مآقينا

وداعة النسيان

فوق السرير

*

بين خيوط الحرير

ينسدل الزنبق

يفتح في جبينك المرهق

عيونه ..تغفو حقول العبير

تنام في مناجم الزئبق

*

ضعي لنا في السرير

شيئا من البغض

من رقدة الموت

ومن ضراوة الركض

أجمل مافي حبنا ..رطوبة الارض/125)

والنسيان عنوانا يتصدر أولى قصائد ديوانه (للكلمات ابواب وأشرعة ) :

(نسيان

وجوهنا مرت عليها سنين

ماعرفت بعضها

عيوننا، ماتركت ومضها

في غابة الزنبق والياسمين

لم تترك الاذرع في الاذرع شيئا، عندما تذكرين / 7)

ثم يختم قصيدته

(صديقتي ، أحار ما أنتقي

هدية ً، قرطاً..؟ سوارا ثمين ..؟

همسة َ حب ..؟قبلة ً في الجبين ..؟

صديقتي تسمحين

في لون أحزاني

هديتي، لاتغضبي

باقة نسيان

لإمرأة تجهل عنواني …)..

هنا مقايضة ٌ متعادلة الطرفين : النسيان مقابل مجاهلة العنونة ، لكن النسيان حين نعاود القراءة ، نراه محاولة للتناسي يمهد له الشاعر بالاندارج العلاماتي : قرطاً..سوارا ثمين ..همسة ..قبلة ، ثم يمتشق لها هدية ً من خيبته العاطفية : لون أحزاني ،وهكذا يتحول الورد من علاقة حب الى نقيضه ، وحين نكشط هذه العلامة ،سنجد قبسا من الموروث الاجتماعي الذي يتطير من تبادل قوارير العطر بين العشاق ..من (بطاقة ..الى متزوجة حديثا ) التقط ُ هذا المقطع :

(أتذكرين صُنعَنا اللعب ِ

ألم تزل أوراقنا لديك ِ

ألم يزل أطفالنا، يشدهم اليك ِ

تألق الذهب ْ

في وجهك ِ الشاحب ، جهشة ِ ناظريك ِ

تحية ً لطفلنا الصغير ، قد نسيت إسمه

أضعتُ رسمه)

نحن هنا امام نوع من الذواكر، يطلق عليها (الذاكرة الحدثية) ، فيها التقط الشاعر، حالة عشق وشعرنها بين قوسي ّ الزمكان ..وفي الوقت نفسه :اكتفى بالعنونة واختصر تلك اللحظة ،ثم سعى الشاعر الى تشظية ماجرى ، من خلال فعليّ ( نسيت ُ/ أضعت ُ/ 40)..والنسيان يواجهنا كمصباح في عتبة ديوان رشدي ..(هجرة الالوان )

}كانت نزهة ً رائعة ً

في غابة النسيان ِ ياولدي…

لقد عدت ُ بشجيرة حب ٍ

زرعتها في أرض ِ المستقبل {

في ديوانه الأخير (الطريق الحجري) تنتاب الشاعر حالة التحرر المطلق من : التذكر..النسيان ..الحزن ..الفرح ، لقد تحرر الشاعر من الشيء والضديد ..

(أنت لايأخذك الحزنُ

على مامات من أشجار ماضيك

ولايُفرحك القادم من عمرك

أنت اليوم حرُ

بين كفيك غصون الآس

في عينيك أمطارٌ

وفي صدرك سرٌ

ولاتبكي على مامر ّ

أنّ الدمع مرْ / ص148- قصيدة الطريق)

ثم يهبط الشاعر من عليين الحرية الى مثنوي التذكر (وحيداً مع الليل والذاكرة../220- قصيدة السد)..في هذا الضنك لامجال للنسيان فالشاعر بين نسق ثلاثي : الوحدة / الليل / الذاكرة ..

(*)

في (وجهها الثاني ) وهي من القصائد العمودية الانيقة بطراوتها ،بعد توصيفه للنشور الذاتي ، يتساءل الشاعر (ألوجه..هذا الوجه اعرفه

وأحس أني ساكن فيه

قلبي على الاهداب منطرح ٌ

وفمي على جرج ٍ يناغيه

لو مرة ً أغلقت ُ نافذتي

ووهبت َ لي صمتي

ياوجهها الشمعي ..يابيتي )

وقبل ختام القصيدة يعلن الشاعر :

(والضحك في العينين مرتجف ٌ

والوجه…

ينسى وجهها الثاني )

نلاحظ وجهين في القصيدة ، والشاعر يحاول نسيان أحدهما ، لكن الفعل يشتغل بنقيضه ، فالنسيان والتذكر في مثل هذه الحالة توأمان سياميان ، لذا يكون التوسل مسك ختام القصيدة :

(هب لي عروق الليل تطعمني

ياوجهها الثاني

والصمت في الاهداب مرتجفا

هب أضلعي لحظات نسيان ِ)..

وسيعود الشاعر لمثنوية الوجه وللنسيان في قصيدة (القناع )

(وكأن وجهك َ عاد للطرقات – حتى وجهك الثاني نسيته / 97)

في قصيدة (العودة ) ، يطالب الشاعر من المكان ، ان يستعيد المكين في ذاكرته

(نكاد على ايماءة ِ الطرف نرتمي

لنمسك ظلاً من هشيم رؤانا

وعدنا،، فيا وادي العقيق تذكرا،،

نكابر أحيانا ونصمت ُ آنا /62)

(*)

بالقصيدة وحدها ينقض الشاعر على النسيان وهو يخاطب ولده عليا في عامه الرابع ، ويأخذ فعل (تذكر ) نسقا ثلاثيا :(تذكر حدود الزمان الاخيرة/ 135) (تذكرت بانك يوما ستبكي ../136) (تذكر بأن الدرب الاخيرة /138)..نلاحظ ان النسيان هو مهيمنة القصيدة لكنه مثبّت بالفعل النقيض له .في قصيدة (النافذة ) ثمة معادلة متكافئة الطرفين : بين الضياع / النسيان

(كما يضيع الحلمُ

في زاوية النسيان / 149)..

يتساءل رشدي في القصيدة الاخيرة من ديوانه (الطريق الحجري) :

(ماذا نترك للذكرى

ماذا يتبقى في منعطفات البيت، سوى النسيان

وسوى الوهم ،بأن الغائب يأتي الآن

وبأن الضوء يغازل وجهاً

غادره الربان

ماذا نترك للذكرى،

لوغبنا عن حقلك ،

ياوطن الاحزان / 277- الى شاعر بوح )

(*)

عندما لانتكلم

قالت لها ضحكته ، أشياء

فأنتحبت وحيدة ً

واختبأ المساء

في غاب عينيها

وغامت رجفة البكاء

قالها اشياء

في ضحكة عابرة،

في ضحكة خرساء
قالت لها ضحكته، أشياء

كنا معاً، في الصمت نلهو، كانت الدنيا

من غير ان يحيا سوانا

دون ان نحيا

ساذجة ً، طيبة ً ، بلهاء

قال لها، في ضحكه، اشياء

*

وعندما مر علينا الماء

متنا وحيدين ..وحيدين

وفي الشتاء

ينهمر المطر

يملأ قبرينا، ويهمي حولنا القمر

جداولَ الثلح ِ

وتبكي لوعة ٌ خرساء

قال لها شيئا ، وغطى ضحكه اشياء

*

قالت له، ضحكتها أشياء :

الثلج في عينيك ،

والجداول البيضاء

في شعرك الاسود ،

والأمطار والشتاء

تملؤني، تميتني ، والنظرة الخرساء

قالت له شيئا…

وغطى ناظريه الماء .)

*أشتغلت الورقة المشاركة على ثلاثة دواوين لللشاعر رشدي العامل :

* للكلمات أشرعة وابواب / وزارة الاعلام – بغداد / 1971

*هجرة الالوان / دار الشؤون الثقافية / بغداد/ 1983

*الطريق الحجري/ دار الشؤون الثقافية / بغداد/