منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم الأمة بجميع أطيافها وفصائلها غارقة في الكفاح المسلح , الذي ما أورثها سوى الخسائر والإنتكاسات والإنكسارات والإندحارات والخراب والدمار , حتى وصلت إلى حالة مروعة خلاصتها أنها لا تستطيع الحفاظ على سلامة أوطانها , وهي لا تزال منشغلة بالكفاح المسلح , وبشراء الأسلحة التي تقاتل بها أبناءها , وتدمر ديارها.
ومضت الأجيال مضللة بأن الوطنية بندقية , والشرف أن تموت في سبيل ما يراه المتسلطون على مصير الناس , فالحروب تلد حروبا , والصراعات تنجب صراعات , والويلات في مسيرة الإنشطارات الأميبية المتواكبة , ولا من أحدٍ يستفيق ويرى بعيون العقل والبصيرة , ويحاول الخروج من دوامة الهلاك والإهلاك المتعاظمة.
ويغيب عن وعي الأمة الكفاح العقلي الذي هي في أمس الحاجة إليه , هذه الأمة التي ما تعلمت مهارات المواجهة العقلية والفكرية , ولهذا ضاعت حقوقها وتميعت قضاياها , وصار الغاصب صاحب حق , وصاحب الحق مدانا ومجرما , لأنها لا تعرف سبيل العقل , وتحسب البندقية هي الحل.
وفي واقعها المعاصر يتعاظم التفاعل المسلح وينتفي االكفاح الفكري , الذي يعتمد الحجة والأدلة والبراخين والتفنيد والإثبات والإقناع , وغير ذلك من مهارات التواصل الإنساني السائدة في الدنيا المتقدمة.
ويبدو أن على الأمة أن تستفيق وتكون في عصرها , وتؤمن بالقوة العقلية وليس البدنية أو البارودية , وأن تستنهض ما فيها من الطاقات الفكرية والمعرفية , لكي تؤسس لمسيرة ذات قيمة معبرة عن جوهرها , لا أن تنحسر وتنكمش وتتبعثر في تصارعات دامية خالية من الغايات السامية والمصالح المشتركة لأبنائها.
فالمطلوب كفاح عقلي وثاب يزعزع ما يعشعش في ظلمات النفوس من عاهات ودمامل , وتفاعلات سوداء لا تأتي بغير السيئ المشين.
نعم الكفاح العقلي هو الطريق الصالح لنجاة الأمة من ويلاتها , وما يعصف بأرجائها من دعوات إنكسار وحطام.
والأمل كبير بإرادة الأجيال الطالعة المتحمسة المنورة المؤمنة بقوة العقل , والمؤهلة لخوض غمار الكفاح العقلي الوهاج , الذي سيعيد للأمة قدرات تفاعلها الحضاري الأصيل.
فالعقل سلاحنا الأمضى وطبيب الخطوب!!