لست في وارد سرد المواد الدستورية التي خرقت من قبل بغداد، أو ذكر كل الأزمات المتتالية المفتعلة النابعة من عدم وضع النقاط على الحروف بدقة، أو التفسير الخاطيء للدستور, أوتعامل بغداد مع الاستحقاقات الدستورية بإنتقائية وعدم التسلح بالصراحة والموضوعية, أو التستر على ما جري في الأروقة السياسية التي فسحت المجال أمام من يريد أن يجيرها وفقاً لأفكاره وتصوراته. ولكن أشير الى أن العملية السياسية في العراق عاشت في حالة إرباك قاتلة بسبب ما علق فيها من إشكالات وما واجهها من صعوبات وما إصطنع لها من أزمات. وبسبب تحول الطموحات المشروعة للأكثرية الى أطماع تسلطية وإحتكارية، تبدلت الأوضاع وإنعدمت الحلول, والأساليب كلها إنحصرت وتحولت الى نفق ومسار واحد لا يحتمل الاستراحة أو الالتفات الى الوراء، نفق التلويح بالسلاح وخيار القوة وفرض الأمر الواقع، ومحاولات إرجاع الوضع إلى الوراء وزرع الشكوك في كل شيء، أما بالإستناد الى نظريات المؤامرة، أو تضليل الحقائق الراسخة في أذهان الكثيرين.
وعندما أقفلت بغداد أبوابها بوجه الكوردستانيين، ورفضت قبولهم كشركاء في الوطن الذي رسموا حدوده في عشرينيات القرن المنصرم، حينما صوتوا لصالح ضم ولاية الموصل الى العراق، وكذلك في العملية السياسية التي كانت لهم اليد الطولى في تأسيسها بعد إسقاط صدام. وبعد أن نفذت الصفحة الثانية من الأنفال التي تمثلت بقطع الرواتب والمستحقات المالية الدستورية للكوردستانيين. تصاعد دخان الأزمات في كل مكان، وبتنا نعيش في حيرة بين ماضي حكمته الديكتاتورية، وحاضر نلعنه ولا نستطيع التعايش فيه, لذلك كان لابد من مراجعة الحسابات والمواقف ودراسة عمق المستجدات والأحداث للعبور نحو المستقبل بشجاعة، وبما أن الرئيس مسعود بارزاني، رئيس إقليم كوردستان، هو المعني بتصويب الأمور, وإتخاذ القرارات المناسبة, سواء في تعويض الخسائر السابقة التي لحقت بنا، أو في الرغبة بعدم إلحاقنا المزيد من الخسائر. أعاد سيادته النظر في الأحداث باحثاً عن فرص وخيوط النجاة، معتبراً أن كوردستان سفينة على متنها كل المكونات والقوميات, إذا ما غرقت فالجميع يغرق, واذا عبرت الى بر الامام فالجميع ينجو. حذر وأنذر، ولكن دون جدوى ، وفي الختام وجد، سيادته، في فض الشراكة بين أربيل وبغداد بطريقة دستورية عبر الحوار والتفاهم سبيلاً ناجعاً وأميناً لحل المشكلات والأزمات، فإلتف حوله غالبية قادة الأحزاب الكوردية والتركمانية والمسيحية والشخصيات والرموز الوطنية والقومية والدينية، وقرروا إجراء الإستفتاء على الإستقلال في الخامس والعشرين من الشهر الحالي، على أن تشمل العملية كركوك وباقي المناطق الكوردستانية التي كانت تقع خارج إدارة الإقليم.
ذلك القرار وضع الكوردستانيين أمام مرحلة ما قبل إعلان الدولة المدنية الديمقراطية الفدرالية، مرحلة تحتاج الى تحولات وتحالفات وتفاهمات وتقديم التطمينات وفقاً للمصالح والمتغيرات، والتحوّل في السياسة، أو حتى في المواقف (كما هو معلوم) ليس موضوعاً شائكاً أو مستحيلاً، بل ممكن، لو جرت بعض التعديلات والتغييرات على العلاقات بين الأحزاب السياسية المتفاهمة وغير المتفاهمة، من خلال تحركات تزيل الشكوك وتلمس فيها آفاق الحرص على تطبيع العلاقات لبحث ومناقشة الموضوعات الحيوية الهادفة التي تهم الجميع. تلك التوجهات إعتبرت المرحلة الحالية، مرحلة مثالية لإختبار المواقف والهواجس والنوايا عند المواطنين الكوردستانيين عموماً والكركوكيين بشكل خاص، ونتج عنها صياغة رؤية مبدئية نضالية وطنية جديدة مستندة على أرضية الإستقلال والإستقرار، وعقدت العزم على التوجه بفرح غامر نحو صناديق الإقتراع في يوم الإستفتاء لقول (نعم) للإستقلال دون الألتفات الى المخاطر والمصاعب أو تهديدات الآخرين.
المسألة الرئيسية التي ينبغي أن تكون حاضرة الآن بين صفوف الكوردستانيين، كقوميات ومكونات دينية وأحزاب سياسية، وبين الكركوكيين بشكل خاص، التي شاءت الاقدار أن يتشاركوا العيش وتربط بينهم علاقات تاريخية عريقة وروابط مشتركة ووشائج القربى. ليست السلطات في كركوك أو بقية المدن الكوردستانية، ولا القوى السياسية التي تحكم في الوقت الحالي، بل هي تحقيق التفاهمات وحل الخلافات على أساس العودة الى اللحمة والإنسجام وتسامي الفرقاء فوق صراعاتهم، والتركيز على تصفير المشكلات عبر سبل الاعتدال في السياسة والفكر وقبول الآخر، وتسريع اللقاءات الصريحة والواضحة، وعدم المطالبة بالمحال أو التشبث بالأماني الجوفاء التي تتعارض مع العدالة والواقعية، أو حتى التحدث بلغة التعصب والتطرف. وعبر المراجعات العميقة لطبيعة التطورات السريعة في المنطقة وإستبعاد ذكر أسباب المشكلات والجهات المبادرة بها والمفتعلة لها، أو اللعب بورقة المفاوض المنتصر الذي يفرض شروطه على طاولة التفاوض، أو الخاسر الذي يقبل بالشروط. وكذلك، إيقاف وقبر كل العلاقات السلبية وإعادة الاعتبار للجميع بنوايا حسنة، والإبتعاد قدر الإمكان عن صراع الأراء الشخصية والارادات والصراعات الحزبية، وجميع عوامل التوتر والقناعات والأوصاف الإزدواجية، وبالذات في وقت باتت فيه الدولة الكوردستانية الفدرالية على الأبواب والتي تبشر بإشاعة روح التسامح والتعايش، وصياغة دستور إستراتيجي عقلاني حكيم، يثبت فيه حقوق وواجبات الجميع، وينظم علاقاتنا البينية من جهة، ويمتن ويطور علاقاتنا مع الدول والشعوب المجاورة، وفي مقدمتها العراق.
هذا التوجه نحو تأسيس الدولة المدنية اللا قومية، يتطلب إختصار الطريق والزمن واللياقة والبراعة والحنكة والحكمة الدبلوماسية التي تبعث برسائل إطمئنان الى الحكومات والشعوب المجاورة، لأن المصالح المهمة التي تربطنا معها تبدأ بتسهيلات السفر والتجارة والصناعة والزراعة والري والطب والسياحة وتنتهي في مشاركاتهم في الأعمار والبناء والنظر للأمور بواقعية لتطلعاتنا المشروعة في إعلان دولتنا على اسس دستورية وقانونية. هذه الأقدار وتلك المصالح تؤكد على أن الكركوكيين جميعاً سيصوتون بنعم لصالح الإستقلال، في يوم الإستفتاء.