الكراهية هي من أكثر الغرائز تأثيرا في النفس البشرية واستثارة للنزعة العدوانية الانتقامية .. تحرر الفرد من كوابحه الأخلاقية فينتابه شعور عميق ومستديم مدمر يعبر عن عدائية وغضب وحقد تدفع صاحبها لتوظيف قدراته لتدمير من يكره.
والكراهية الجماعية الموجهة يمكن لها أن تصهر في بوتقتها العناصر المتنافرة في المجتمع, وان توجد بينهما رابطا مشتركا يوحدهم تجاه عدو مشترك على نحو ينخر قواه ويضعف مقاومته, فتجرد الفرد من استقلاليته ليكون جزءا من جماعة لا هوية لها, يتحرق للالتحام بأشباهه في جماعة ليكونوا جمهورا شديد الاتقاد, والكراهية الجماعية سلاح فعال بيد القوى الغاشمة, حيث تبدأ بتحديد العدو المحتمل وتحليله, ووضع العقيدة الملائمة لهذا العدو, ومن ثم اختيار آليات التنفيذ .. ومن الأمور البديهية أن تبدأ هذه القوى في البحث عن قاعدة جماهيرية تقف معها عندما يكون هنالك ظلم مشترك لاستنزاف عاطفة الشعور الجمعي وتوظيفه, وتجعل من هذه الجماهير تتوق للانتقام ممن ظلموهم, أي إن الكراهية يجب أن تنبع من ظلم حقيقي واقع من العدو المراد مهاجمته … فالحركة النازية ظهرت كنتيجة حتمية لكره الألمان الشديد على دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى وفرض معاهدة (فرساي) المهينة على الالمان, وظهر (هتلر) كقائد لهذه الحركة ونجح في تأجيج هذه الكراهية بين الالمان ورسخ فيهم النزعة الثأرية الانتقامية لجسامة الظلم الواقع عليهم, فاكتسح أوربا ولم ينسى (هتلر) كراهية الالمان الشديدة لليهود فأباد (6) ملايين يهودي, هذه الإبادة لم ترفع من شعبيته في ألمانيا وحسب بل وساهمت في إضعاف المقاومة الشعبية لدول كانت تناصب اليهود الكره الشديد مثل (بولندا ورومانيا وهنكاريا) أمام الغزو الألماني … وحين سئل (هتلر) عما إذا كان من الضروري إبادة اليهود أجاب: ((لو زال خطر اليهود وكراهيتهم, لكان علينا أن نخترعهم)).
وقد فطن ثعالب السياسة إلى أن الكراهية حين لا تنبع من ظلم واضح ولا تقوم على أساس قوي, فان الحاجة إلى حلفاء تصبح أكثر صعوبة وتعقيدا لتوحيد الجماهير وتوجيههم نحو العدو المحتمل, فتختلق الكراهية اللامنطقية أي (الكراهية المصطنعة), وهي طريقة لإخفاء الفشل وضعف الحجة والإخفاق في تجييش الجماهير نحو العدو, فتعمد إلى استخدام الجماهير ومصالحها كطعم لإيقاع الظلم الجسيم فيهم من العدو المراد مهاجمته, وتأجيج الكراهية الناشئة من هذا الفعل وتحويلها من فعل معنوي يختلج المشاعر المكبوتة إلى أفعال مادية انفعالية انتقامية … هذه الكراهية اصطنعتها الولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء ونقض الحياد الذي التزمت به بعد أن لاحت في الأفق بوادر انتصار الحلفاء وملامح نهاية الحرب واندحار دول المحور, فاستخدمت السفن السياحية بركابها المدنيين (دون علمهم طبعا) في نقل المعدات العسكرية للحلفاء, وكان لتدمير الالمان لهذه السفن بركابها المدنيين سببا كافيا لتأجيج مشاعر الحقد والكراهية الشديدة لدى الجماهير ضد الالمان, لم يجد الساسة الاميركان صعوبة في تعبئتها ودخول الحرب.
والكراهية توحد الجماهير المنبوذة والمشتتة والتي يصعب توحيدهم نحو هدف محدد … ومن المفزع حقا إن نلحظ كيف يعمد الجبناء إلى ترسيخ الكراهية لأنفسهم بأفعال قبيحة وشائنة تديم كراهية المجتمع لهم لتزداد عزلتهم داخل المجتمع وتوحدهم لتنظيم أنفسهم لمواجهة كارهيهم وتأجيج (الكراهية المضادة) وهذا النوع من الكراهية ينشا لدى الجماهير التي تشكل أقليات متنافرة داخل مجتمعات متماسكة … ولم يبرع قوم في تسخير الكراهية بكل أنماطها كسلاح فعال لتوحيد صفوفهم ولملمة شتاتهم المبعثر والانطلاق والسيطرة على مراكز صنع القرار الدولية كما برع اليهود, فليس غريبا أن تستعين جميع القوى الغاشمة في العالم في رسم سياساتها العدوانية باليهود, بل ان الكثير من الأقليات أخذت بمحاكاة اليهود وتستعين بأفكارهم لتحقيق أهدافها, فقد برعوا في اصطناع الكراهية لأنفسهم داخل المجتمعات التي تحتضنهم, فأسبغوا على أنفسهم كل صفة من شانها أن تعلوا من مقامهم على مقام بقية أفراد المجتمع, والعمد بالاستخفاف وازدراء كل من حولهم من غير اليهود, وانحدروا بطبائعهم إلى أسفل درجات الانحطاط الأخلاقي, فامتهنوا ابغض المهن في المجتمعات (مرابين- داعرين- مقامرين- جواسيس) فأصبح ليس هنالك من رابط يوحدهم غير كراهية المجتمع لهم والتربص للانتقام والتنكيل بهم, فشهد التاريخ مجازر رهيبة بحق اليهود في شتى المجتمعات وفي مختلف العصور, فأصبح اليهودي نتيجة هذا الاضطهاد يرتاب من كل ماحوله, ولا يشعر بالأمن والأمان إلا بين أقرانه اليهود تجمعهم (عقدة الاضطهاد) تلك العقدة التي أضحت من اشد الفتن المنتشرة بين المجتمعات التي تعاني من مخاطر التفتت والتشرذم, فالكراهية الأشد قسوة وأكثرها تحفيزا على التحام العناصر المتنافرة والمنبوذة, هي تلك التي تنبع من الخوف ذاته, وتتكيف عبر الكبت, وتحويل شعور الخوف إلى نوع من الرغبة العارمة للانتقام بشكل أشبه ما يكون بطقوس الثار الخفية, مما يؤجج من غضب الإنسان المضطهد (بكراهية مضادة), حيث وحد هذا الاضطهاد شراذم اليهود في المجتمع الواحد وبينهم وبين يهود المجتمعات الأخرى, يجمعهم الظلم المشترك والرغبة العارمة للثائر والانتقام وإنزال القصاص بجميع المجتمعات الغير يهودية, وهذا يبدو جليا من بشاعة الإجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني, وانشاءوا اللوبيات الضاغطة والمنظمات الماسونية والعصابات الإرهابية للسيطرة على مرافق الحياة المهمة في المجتمعات والدول ومؤسسات المال والأعمال ووسائل الإعلام والأحزاب السياسية ورجال الفكر والأدب والفن انتهاءا بالسيطرة على أنظمة الحكم في العالم, ونشروا الفسق والفجور والفساد والكراهية في المجتمعات لتفكيكها وشرذمتها, ونجحوا إلى حد كبير في نشر الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد وبين مجتمع وأخر, وما فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين إلا لالقاءهم بعيدا عن المجتمعات الغربية والتخلص من شرورهم.
ليس هنالك من طريقة أكثر فاعلية لتوليد الكراهية لفئة ما أكثر من إيقاع الظلم الفادح بهذه الفئة, فكره العرب والمسلمين للولايات المتحدة والغرب عموما ينبع من كونهم يعانون ظلما حقيقيا واقعا يدعوهم لهذا الكره, ويسهل كثيرا على الولايات المتحدة من تسخير هذا الكره وترجمته إلى أفعال إرهابية بالغة القسوة والعنف لترد برد أقسى واعنف, ولم تكن أحداث (11 أيلول) ببعيدة عن تفكير مهندسي الحرب في البيت الأبيض من رهابيي الإسلام وعنصريي الجناح اليميني المتطرف من تسخير هذه الكراهية ضد العرب والمسلمين والبدء بحرب عالمية ضد المسلمين, فتحتل أفغانستان وتدمر العراق وتبيد مئات الآلاف من الضحايا بكراهية صنعتها أفعالها وأججت لها بأئمة وشيوخ الإرهاب والتكفير من على أراضيها ليسهل التبرير إن الذين أخطأت بحقهم وأبادتهم ودمرت أوطانهم ما هم سوى مخلوقات شريرة تستحق أقصى أنواع العقاب بما فيها الإبادة الجماعية دون شفقة ولا رحمة ولا التصرف إزاءهم بحياء, وخنق تأنيب الضمير والإيغال في كراهيتهم وغلق الباب بوجه احتقار النفس.
ومن الغريب حقا أن نجد هذا الكم الهائل من الكراهية التي غرستها الدوائر الغربية- الصهيونية في المجتمعات العربية لشرذمتها وإضعافها والسيطرة على مقدراتها, فمن الحكام المستبدين الذين خلقوا فجوة واسعة بينهم وبين شعوبهم وزادت من كراهية الشعوب لحكوماتها وأضعفت كثيرا الولاء الوطني والشعور بالانتماء للوطن, الى نشر الفتن والقلاقل بين مكونات المجتمع الواحد وبينه وبين بقية المجتمعات العربية الأخرى بطائفية مذهبية ودينية خرجت إلى العلن ولم يعد من يؤججها يشعر بأدنى حرج, الى ترسيخ النزعة القومية المتطرفة بين الأقلية والأغلبية على حد سواء لإحداث الصدام بينهما … وما يقلق حقا أن نجد المجتمعات العربية حكومات وشعوب تنقاد هذا الانقياد الأعمى خلف المخططات الرامية لنشر الكراهية المخطط لها والممنهجة في مجتمعاتهم, حتى حين ثارت وأسقطت حكامها المستبدين, وبات من يفكر في تولي زمام الأمور فعليه تقديم فروض الطاعة والولاء للغرب قبل ان يفكر فيما سيقدمه لشعبه, وترك بناء الدولة ومؤسساتها الدستورية والانشغال بأعمال انتقامية بين طائفة وأخرى او قومية وأخرى, بل وتذهب ابعد من ذلك ليجزا المجتمع الواحد بين نظام سابق ولاحق او المنتفعين والمتضررين والاقتتال بينهما, وهذه كلها لن تجلب سوى الكراهية ومزيدا من الأعمال الانتقامية فيما بينهم وتوقف عجلة النمو والتطور وتنتهي بتآكل المجتمعات وتنتهي بتدمير نفسها ذاتيا.
وهكذا نرى إن الكراهية هي وسيلة سهلة لتحفيز جماعة ما للتوحد والدفاع عن نفسها ومن ثم الهجوم والانتقام, إلا إنها في نفس الوقت ذات ثمن باهظ, فالكراهية تبقى راسخة حتى بزوال أسبابها ويدفع المجتمع ثمنا باهظا لها عندما يتخلى عن القيم النبيلة والمشاعر الإنسانية ويستبدلها بمشاعر مستديمة من العدائية والغضب والضغينة تجاه الآخرين تترجم بأفعال انتقامية شديدة الضرر على المجتمع.
Khalid.alkhafaji@yahoo,com