18 ديسمبر، 2024 8:49 م

أن تُدمن القراءة:
   نُدمن القراءة حتى تتحول بمرور الزمن إلى حاجة عضوية.. ذات مرة، حين أُلقي بي في زنزانة، سرعان ما وجدتني تحت طائلة حنين حارق للكتاب، أي كتاب. اكتسحتني رغبة قاهرة ومقهورة في شيء يُقرأ؛ كلمات وجمل وصفحات أياً يكن فحواها ومغزاها. كنت على استعداد أن أقرأ أي شيء حتى أكثر الكتب سخافة ورادءة، لكن لم تكن ثمة حتى قصاصة جريدة قديمة. في هذه الأثناء رحت أبتكر لنفسي طريقة فريدة في فن القراءة؛ أن أقرأ ما لا يوجد؛ أن أقرأ كتاباً بات يلوح في أفق خيالي ويتشكل خارج أنطقة الحواس الخمس. كتاب لم يؤلفه أحد بعد. خطرت لي موضوعة؛ الشخصيات في أدب نجيب محفوظ. وبعملية مركّبة، بجدلية مثيرة، انشطر ذهني نصفين؛ نصف يؤلف ويكتب ونصف ثانِ، في الوقت عينه، يقرأ. كان ذلك اختباراً رائعاً لقدرات الذاكرة. وفوجئت بكائنات محفوظ الخيالية تظهر على شاشة ذاكرتي وتتحدث معي، على الرغم من أن بعض كتب محفوظ كنت قد قرأتها قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات. هكذا تواطأت ذاكرتي معي لقهر وحشة المكان المغلق الذي كان يضيّق علي الخناق. ومن ثم لتشبع رغبتي في القراءة بحيلة ماكرة.. أمتعني كتابي الافتراضي مثلما لم تمتّعني كتب حقيقية كثيرة قرأتها قبل ذلك، وبعد ذلك. وكنت أتصور أنني حال أن أحظى بقلم وأوراق ستتدفق مني كلمات الكتاب مثلما يتدفق الماء من جرّة مملوءة نقوم بتمييلها، لكن هذا لم يحدث لا لأني نسيت ما دوّنت في رأسي، وإنما لأني فقدت الحماس والرغبة حالما ألفيت الكتب مكدّسة أمامي بعد خروجي إلى الهواء الطلق. كان نهمي للقراءة ساعة غادرت الجدران الأربعة أقوى من إرادة الكتابة. ولمّا عدت للكتابة، بعد لأي، شغلتني موضوعات أخرى فيما بات كتابي المتخيل يتبخر شيئاً فشيئاً حتى تحوّل إلى طيف شاحب بعيد يقبع في أقصى الذهن.
   إن حياة كل فرد هي سلسلة من تجارب خاصة تؤثث ذاكرته.. يلخص بطل رواية أحلام مستغانمي ( عابر سرير ) مسيرة حياته بالأسرّة التي نام عليها في تنقّله من مكان إلى آخر. ويرى دون جوان حياته عبر ما خبر من علاقات مع النساء.. فيما ترك ماركوبولو سني حياته في مدن غريبة كثيرة عبرها فمنحته تلك الحكايات المثيرة الفذة. أما عاشق الكتب فإن سنوات عمره تبددت بين مئات آلاف الصفحات حتى غدت ذاكرته مكتبة فارهة.
   يتهيأ لي أن ذاكرة بطل مستغانمي أشبه ما تكون بفندق فخم بمئات الغرف. وذاكرة دون جوان أشبه ما تكون بفردوس يعج بالفاتنات. وذاكرة ماركوبولو أشبه ما تكون بأطلس معقّد. فيما كل من الفندق والفردوس والأطلس قائم في شكل متاهة. أما ذاكرة القارئ المدمن فهي مكتبة؛ متاهة مكتبة كتلك التي تحدّث عنها أمبرتو إيكو في روايته الشهيرة ( اسم الوردة ).
  وإذن كيف نتخيل النهاية المنطقية/ التراجيدية لكل من هؤلاء؟.. يُعثر على بطل رواية مستغانمي ميتاً على سرير في غرفةٍ بنُزل ريفي. ويلفظ دون جوان أنفاسه الأخيرة في حضن عشيقة تجاوزت سن الكهولة. ويختفي ماركوبولو في مدينة مسحورة من نسج خياله. أما قارئ الكتب فمن الطبيعي أن نتصوره يقضي نحبه في حريق مكتبة.
   كان آخر كتاب قرأته في العام الماضي/ 2012 لهنري ميللر، عنوانه؛ “الكتب في حياتي.. ترجمة؛ أسامة منزلجي.. دار المدى، بيروت/ 2012”. ولعلّه الأفضل والأمتع من بين أكثر من خمسين كتاباً هي حصيلة ما قرأت خلال ذلك العام.
   لا أقول أن ميللر يقوِّم حياته من منظور قراءاته، فقد كان عابر سرير بمعنى ما، ودون جوان عصري كما يفصح في أغلب رواياته، وجوّاباً تسحره الأمكنة وكائناتها، لكنه كان قارئاً من الطراز الأول.. كان مدمن قراءة مثلما هو مدمن تنقل وترحال وعلاقات حميمية ومحمومة. غير أنه يعترف بأن الهدف من تأليف كتابه، آنف الذكر، هو أن يسرد قصة حياته من خلال حكاياته عن الكتب بعدِّها تجربة حيوية تجعله يتفحص ذاته. فالكتب ملقاة أمامنا كأشياء الحياة الأخرى وظاهراتها، وعلينا إما أن نتعاطى معها أو نتجاهلها. ولم يكن بمستطاع ميللر أن يتجاهلها حين التقاها مبكراً في طريقه.. يقول؛ “إنني أعتبر لقاءاتي بالكتب أقرب شَبَهاً بلقاءاتي مع ظواهر أخرى في الحياة أو الفكر. اللقاءات كلها مرتّبة وليست منعزلة. وبهذا المعنى، بهذا المعنى حصراً، تشكِّل الكتب جزءاً لا يتجزأ من الحياة كالأشجار، والنجوم والروث. وأنا لا أجلّها بحد ذاتها. لا أضع المؤلفين في أية خانة خاصة، أو متميزة، إنهم كالأشخاص الآخرين، لا أفضل، ولا أسوأ. إنهم يستغلّون القدرات التي وُهبوا، كما يفعل أي نوع آخر من الكائنات البشرية”.
الكتب في حياتي:
واحد من الأشياء التي تجعلك تفطن إلى أن الحياة قصيرة جداً هو وقوفك عاجزاً أمام هذا الكم الهائل من الكتب الموجودة في العالم، والتي يعلو جبلها الشاهق يوماً بعد آخر. كم سنة إضافية تحتاج، بشرط توفر عافية البدن والروح، فقط من أجل أن تقرأ الكتب التي تجزم أن من الضروري قراءتها؟. وقد تقول؛ ما علينا إلا أن ننتقي.. وحتى لو فعلت لبقيت في نفسك حسرات على كتب لن يتسنى لك الوقت الكافي أبداً لقراءتها..
   العلاقة مع الكتاب هي من النوع الحميم.. هنا أتحدث عن عاشق الكتاب، ذلك الذي ترتعش أعطافه غبطة كلما وقع على كتاب جيد جديد.. يمسك بالكتاب بين أصابعه فيحس بنبض الحياة فيه ودفئها. غير أن الولع بالكتب ليس سمة عامة للبشر جميعهم. هناك من لم يخبر سحر الكتب.. أو لم يستطع اكتشاف كيفية استقطار اللذة من فعل القراءة. تكون القراءة تحت وطأة أوضاع صعبة وخانقة ترفاً أو بطراً لا جدوى منه، وليس من حقنا أن نلوم من لا يجد لقمة لأطفاله لأنه لا يفكر بالقراءة.. لكن حتى في الظروف الطيبة سيكون هناك من لا يطيق قراءة جملتين في كتاب.. وقد نختلف مع هنري ميللر في قوله: “آخر شيء في العالم يمكن أن أنصح به هو أن أجعل كل شخص يتعلم القراءة”. هو الذي يعتقد أن الكتب ليست للجميع. شخصياً أرى أن من وسائل تحقيق إنسانية الإنسان وصون كرامته هو أن يتعلم. وفي عالم اليوم تتوفر وسائل أخرى للتعلم غير الكتاب. بيد أن لعالم الكتب رونقه ونكهته الخاصين.
   يمكن الحديث عن الكتاب بوصفه حياة مستقلة.. كائن حي له حضوره اللافت.. وجود متخيل مكافئ لعالمنا.. حياة بديلة.. رحلة في عقل أحدهم ( المؤلف ).. مغامرة نخوضها ونحن جالسون في غرفنا.. خطاب موجّه لنا نتلقاه بلهفة وتربص.. مكان افتراضي متخيل نلجأ إليه هرباً من عالمنا المتخم بالبؤس.. بئر معارف نغترف منها، الخ.. وتجربة كل منا مع الكتاب هي التي تحدد، في النهاية، شكل نظرتنا إليه وعلاقتنا معه.. ولكل عاشق كتاب قصته مع الكتب.. يحرك هنري ميللر حنين طاغ لاستعادة لحظات حياة معيّشة حتى الذروة “وهذه اللحظات تظهر أحياناً ( كما يقول ) من خلال الاتصال بالكتب، وأحياناً أخرى عبر الاتصال برجال ونساء لقّبتهم بـ “كتب حيّة”. أحياناً هو حنين إلى رفقة أولئك الفتية الذين نشأت معهم وكانت إحدى الروابط الأقوى معهم هي ـ الكتب”.
   حين يعجبك كتاب ما كثيراً تود لو يشاركك في قراءته الآخرون، لاسيما من أصدقائك المقربين. وقد تحمل الكتاب إلى صديق تعتقد أنه سيعثر على سر المتعة مثلما عثرت عليه أنت. ربما يكون الأمر هو البحث عن ذاكرة مشتركة. وفي فضاء قراءة الكتب تنعقد صداقات لا تنسى، “فالكتاب ليس فقط صديقاً، بل يصنع لك أصدقاء. وعندما تمتلك كتاباً ذا عقل وروح، تغتني، ولكن عندما تعطيه لشخص آخر تغتني ثلاثة أضعاف”. هذا على الأقل هو الدافع الأعظم الذي بموجبه تستهويني الكتابة عن الكتب.. أريد أن أعرّف الآخرين بما قرأت.. أن ألفت الانتباه إلى ما أدهشني، وفي الغالب أكتب عن الكتب التي تترك في نفسي أثراً.
   والقراءة بمنظور ميللر إبداع بالمعنى الأعمق للكلمة، “والكتاب من دون قارئ متحمس الذي هو في الحقيقة نظير المؤلف وغالباً منافسه الأشد سرّية، يموت”. وكلاهما ( القارئ والمؤلف ) يمتح من المنبع نفسه. ثمة جوهر مشترك بينهما. “والكاتب، طبعاً، هو أفضل القراء قاطبة، لأنه بعمل الكتابة، أو “الخلق” كما تسمى، إنما فقط يقرأ ويدوِّن رسالة الخلق العظيمة التي كشفها الله الخالق بطيبته أمام بصيرته”. ومنذ اللحظة التي يشرع فيها بالكتابة تتقد عنده شهوة القراءة.. ففي أثناء التأليف يعود ميللر ليلتهم بضعة كتب. ولمّا نضج أكثر أصبح متطلباً، فراح ينتقد ما يقرأ ويعتقد أن بإمكانه كتابة ما هو أفضل. غير أن مؤلفين معينين سحروه تماماً.. يقول: “وعندما حان الوقت للتأكيد على طاقاتي الخاصة في التعبير بدأت أعيد قراءة أولئك “الخطباء الساحرين” بعين جديدة. صرت أقرأ ببرودة، بكل ما أملك من طاقتي على التحليل. وذلك، صدّق أو لا تصدّق، لكي أنتزع منهم سرّهم”.
   هذا الجدل الحار بين القراءة والكتابة هو ما يعكس السيرة الخفية لمؤلف من طراز هنري ميللر من جهة، وروح كتابه ( الكتب في حياتي ) من جهة ثانية. الكتاب الملهم الذي يجعل كلا من الكاتب والقارئ يؤمن بجدوى وروعة ما يفعل. 
[email protected] 
[email protected]