23 ديسمبر، 2024 6:50 ص

الكتابة وتحقيق الكينونة

الكتابة وتحقيق الكينونة

سألني أحد الأصدقاء ممن أحسن الظن به وأعتز بصداقته، ما سبب نشركم للمقالات بكثرة وبصورة مستمرة، ومن أين لك بهذا الوقت لتكتب كل هذه الموضوعات؟ فلم أجبه متحيراً وخجلاً ومندهشاً من سؤاله ولم أستطع اجابته بصورة عفوية سريعة ربما تكون غير مقنعة له أو مربكة لي بسبب دهشتي، أو ربما تحسست من سؤاله في حينها وتعثرت في الاجابة، فعدت اليوم ها هنا في هذا المقال لأرد بشيء بسيط على ذلك التساؤل، لا لأقنع به صديقي فحسب بل لأقنع نفسي والآخرين ايضاً.
كان رد فعلي النفسي الذي كتمته في داخلي ولم أجهر به في وجه صديقي الطيب الذي أهداني سؤاله هو هل أنه قرأ ما أكتب من مقالات، وهل تفضل حضرته عليَّ ببعض النقد والتقويم لما فاتني من أفكار وآراء فيما كتبته، لأتشرف بها وأصححها، فعين الآخر فاحصة وسليمة ومفيدة تشارك عين الكاتب في بعض الأحيان، الذي قد يقع في أخطاء أو قد يتزمت في فكرة ما، ولكن فاتني من عين صديقي الكثير من ذلك ولم يقدم لي شيء من النقد لأستفد منه في قادم الأيام، فشكراً له على كل ذلك، فأن كان قد تركني في حيرة من أمري فهو قد تفضل عليَّ من باب آخر لأقدم شيئاً من بيان فلسفتي وتجربتي البسيطة في كتابة المقال مما قد أسجله للقارئ الكريم للتعرف على بعض معاناة الكتابة وهدفها والجو النفسي والفكري الذي يشعر به كاتب المقال حينما يكتب ويجهد نفسه في متابعة الأحداث والتواصل مع الحدث وقربه من الناس والمجتمع وواقع الحياة ومتغيراتها المستمرة.
الكتابة، أي نوع من الكتابة كانت، بحثية أو أدبية أو فنية أو صحفية أو ثقافية، انما هي عمل شاق ومضني، يأخذ من صاحبه الوقت الكثير ليختلي بنفسه مع فكره وقلمه وورقه أو حاسوبه، ليسجل ويدرس الموضوع الذي ينوي تقديمه في مقال، وكتابة المقال ليس بالشيء البسيط الهين مما قد يتصوره البعض من الناس، فهو أمر لا يتيسر لكل شخص من القيام به مهما كانت ثقافته أو مستواه العلمي والمعرفي والثقافي، لأن الكتابة هي ملكة وخبرة وطاقة لا تؤتى لأي شخص كان، ما لم يتدرب ويتقن أدوات هذا الفن، الذي هو أحد الفنون الأدبية كالشعر والخطابة والنقد، فالكاتب يحتاج الى مجموعة من الأدوات والإمكانات والعناصر في ممارسة هذا العمل المضني، فالثقافة وحدها لا تكفي لكتابة المقال، مهما كان الشخص قارئاً ومثقفاً، وامكانية الشخص الأدبية واللغوية العالية لا تصنع منه كاتباً من دون ثقافة واطلاع وقراءة مستمرة، فالكتابة تحتاج لمجموعة متظافرة من الجهود والامكانات والادوات التي تمكن صاحبها من ولوج عالم الكتابة والتفوق فيه، كالثقافة واللغة والأسلوب والخيال، وقبل هذا وذاك يحتاج الكاتب الى قاعدة ترتكز عليها كل هذه العناصر وهي (الموهبة)، التي تعد الأساس في عملية الكتابة، والموهبة دون ما ذكرناه من شروط الكتابة لا تصنع كاتباً أيضاً، فتلاحم كل الامكانات والضوابط والعناصر مع الموهبة والخبرة والتجربة هي التي تصنع كاتباً محترفاً في عالم الكتابة.
وهل يعلم المتلقي والقارئ القدير ما مقدار الجهد الذي يبذله الكاتب في اتمام مقاله وتحقيق غايته ورسالته؟
قد يجهل الكثير ممن هو بعيد عن عالم الكتابة ذلك الأمر، ولكن الكُتّاب وحدهم من يدرك حجم تلك المعاناة والجهد المبذول، فالكاتب حين يدور في رأسه موضوع ما فهو لا يهدأ أبداً ولا يستقر، حتى ينجز ما يريد ويطمأن لما يهدف أليه، ويحتاج الكاتب الى جو فكري ونفسي هادئ كي ينجز مقاله، وجو الكاتب ومزاجه شبيه بجو الشاعر والأديب والباحث حين يريد كتابة قصيدة أو قطعة أدبية أو بحث علمي، بل أن كاتب المقال يحتاج لدقة كبيرة في ايجاز فكرته وايضاحها للمتلقي، من حيث كثافة الفكرة وقلة الكلام، وما قل ودل، وهذا جهد كبير لا يتسنى لأي شخص القيام به.
والكتابة ليست مجرد متعة وواحة خضراء لصاحبها يسكن اليها، بل هي مسؤولية كبرى ملقاة على عاتقه. كان استاذنا مدني صالح ـ وهو الكاتب والاستاذ في الفلسفة ـ يشترط على الكاتب الذي يروم الابداع والتفوق والنجاح في ممارسة الكتابة أن يكون مسؤولاً عما يكتب وأن يلتزم بأمور منها أن : يخاف الله، ويستحي من الناس، وأن لا يكتب الا كما علمه الله، وأن يأكل من قدامه وليس مما يليه، ولا يكتب الا النافع الممتع الجميل، ولا يبدل الرأي اذا رأى الفلوس، ولا يظلم نفسه بتحميلها ما لا تطيق. وهذه الشروط قلما يتقيد بها كاتب، الا من وطّن نفسه وربّاها على الصبر والتحمل والالتزام، والا فالكُتّاب أنواع وألوان مختلفة، فكثير منهم يتلون ويتقلب بحسب الأيديولوجيات ومقدار الدفع من المال ليكون ممثلاً لفكر أو سلطة ما، ولذلك قلنا ونؤكد على أن الكاتب مسؤول وملتزم أمام ما يكتب، وأن يرضي ضميره وقرّائه فيما يكتب، والا فالكثير من الكُتّاب هم أبواق ومأجورين ودعايات لأفكار وطروحات وأيديولوجيات مختلفة مدفوعة الثمن، وهذا ما يجعل ذلك الكاتب رخيص ومبتذل ومتلون بحسب ما يدفع له من أموال وما يكسبه من وجاهة ونفوذ خدمة للطرف الذي يخدمه.
الكتابة رسالة كبيرة ينبغي على حاملها التشرف بها والاخلاص لها وتنفيذها بأمانة تامة، وقد استطاع الكثير من المفكرين والادباء والكتاب الارتقاء بمجتمعاتهم وشعوبهم عن طريق ما قدموه من أفكار ودعوات ومشاريع ثقافية وفكرية وسياسية واجتماعية، وكثير من الامم والشعوب حققت نهضتها عن طريق الكتابة والصحافة والتواصل مع الناس والمجتمع، من خلال الاحتكاك مع الواقع ومتغيراته اليومية، والخروج من أبراجهم العاجية التي يألفها البعض ولا تروق للبعض الآخر، فالكتابة الصحفية والتفاعلية (الرقمية) تساهم في الكثير من الافكار وتغيير وجهات النظر والقناعات، من خلال اسلوبه وفكره ومد جسور ثقافية ومعرفية مع المثقفين والكُتّاب والدارسين الآخرين، ممن يشغلهم الهم المعرفي والعلمي والثقافي.
لقد استطاع مفكرون وأدباء ومثقفون تأدية رسالة الكتابة على أتم وجه والنهوض بواقعهم السياسي والاجتماعي والتعليمي والثقافي والفكري وتغييره، وهذا ما لمسناه من خلال تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر، وفي مجالات معرفية وفكرية مختلفة، فقد ساهم كُتّاب عرب كبار من خلال المجلات والصحف التي أنشأوها أن يرتقوا بالحركة الثقافية لمجتمعاتهم، كما كان الأمر مع جمال الدين الافغاني ومحمد عبدة والكواكبي وقاسم أمين ومحمد رشيد رضا وشبلي شميل وطه حسين وأحمد أمين والزيات والعقاد سلامة موسى والزهاوي والجواهري وجماعة الأهالي في العراق، ومجموعة كبيرة من المثقفين في مصر وسوريا ولبان والعراق والمغرب العربي، فأن تحقق شيء من النهضة العربية، ولو بصورة يسيرة على أرض الواقع، فإنما يعود لتلك الكتابات والمجلات والصحف التي أشاعت جو الثقافة والحوار والتفكير بين الناس وفئة المتعلمين والدارسين، وكان لكل واحد من هؤلاء الرواد الذين ذكرناهم أعلاه وغيرهم الكثير، لديه مجلة أو صحيفة جعلها منبراً فكرياً وثقافياً ينشر من خلاله ما يريد من أفكار، اضافة الى ما تم ترجمته من أعمال وأفكار غربية تم نقلها عربياً من خلال صفحات هذه المجلات والصحف العربية. كما كانت لهؤلاء الكتاب والمثقفين سجالات وحوارات فكرية تعبر عن طبيعة الافكار والمجتمعات وروح العصر الذي عاشوه.
ومن خلال تجربتي البسيطة والمتواضعة والجديدة في عالم الكتابة استطعت أن أنُمّي وأطُور في داخلي مهارة الكتابة والقراءة والتواصل المستمر مع القُرّاء والاصدقاء والمثقفين وأصحاب الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية عراقياً وعربياً، وأن أعقد صلات طيبة فيما بيننا، فضلاً عن فتح باب الحوار والتلاقح الثقافي والتعارف بين هذه المؤسسات وأصحابها وبين الكُتّاب والباحثين العراقيين الشباب ممن يحمل هماً ثقافياً ومعرفياً كبيراً، وهذا مما ساعد على تقديم الكاتب العراقي وخروجه الى الساحة العربية، وبناء جسور ثقافية منفتحة على الآخرين.
والكتابة مهما كانت صحفية أو تفاعلية رقمية أو بحثية أو مراجعة وقراءة في كتاب ليست بالأمر الهين والبسيط يقوم بها اي كاتب، بل هي جهد كبير يبذله، ومن خلال مقال الكاتب نستطيع التعُرف على هويته وأسلوبه وسعة خياله وثقافته وطريقته في التفكير، وهذا الأمر لا يتسنى لأي شخص كان، بل يحتاج الى دربة ومهارة ومعرفة في المجال والتخصص الذي يخوض فيه الكاتب موضوع مقالته. وهذا ما جعل الكثير من الكُتّاب أن يكونوا مفكرين وأدباء وباحثين كبار في مجال العلم والمعرفة والأدب. والكاتب الجيد هو الذي يتقن جميع أدواته ومهاراته، فالكتابة ليست مجرد نزوة يمر بها الشخص أو مراهقة ثقافية يمتهنها لفترة ثم يتركها، فهذا النوع من الناس يسقط بسرعة لأنه دخل مجالاً ليس بالهين، بل سقط في بحر ينبغي عليه أن يعرف خطورته وعمقه وكيف عليه ممارسة السباحة والهدوء والمطاولة في هذا العالم المتلاطم الأمواج.
وكتابة المقال تتيح للكاتب أيضاً أن يطرح أفكاره للآخرين وأن يوسع دائرة قرّائه وقراءته ونشر ما يريد من آراء وطروحات بصورة مستمرة دون انقطاع، فضلاً عن روح التحاور والتواصل مع من يحب من الأصدقاء والمثقفين والمتلقين ممن يشغلهم الهم المعرفي والثقافي المشترك.
وأشعر بالسرور والمتعة والنجاح حين أمارس الكتابة بصورة مستمرة دون انقطاع، لأنها وحدها من تشعرني بالحياة وتحقق لي كينونتي وهويتي وديمومتي بين الآخرين، وطرح أفكاري بفاعلة واستمرار، وتجدد لي حيوتي ونشاطي حين أتعرف في كل يوم على أفكار وأصدقاء وآراء جديدة تساهم في تعديل وتقويم أفكاري ومعرفتي وثقافتي التي تلقيتها سالفاً دون تمحيص أو تدقيق مسبق، والتي حقنت في رؤوسنا حقناً وفقاً للتربية والنشأة والمحيط الذي درجنا عليه بصورة عفوية واعتباطية، كما كان عليه محيطنا الاجتماعي والسياسي والثقافي والأيديولوجي، الذي ينشأ كل شخص وفق محيطه ودينه ومعتقده وقوميته، والتي قد تساهم في تعصب الشخص وانغلاقه وانتمائه للجهة التي ينتسب لها، وهذا بالتالي ما أدى الى تمزقنا وتشظينا وضياعنا أشتاتاً دون أن نتقبل بعضنا البعض ونعترف بالآخر المختلف كما نعترف بذواتنا. والكاتب الحقيقي هو من يستطيع أن يتحدى كل تلك الظروف والأزمنة والأمكنة ليصنع عالماً جميلاً خالياً من العنف والتطرف والكراهية، بما يحمل من قلم وفكر ووجدان.