23 ديسمبر، 2024 3:33 ص

الكتابة في عالم متغير

الكتابة في عالم متغير

نظرت إلى عرض البلاد وطولها
فما راقني عرض هناك وطول
أبو العلاء المعري
1
حين يعصف بنا ماضي العراق القريب وتتلاحق أحداثه دامية مدوّخة، يدفع عالم الكتابة إلى مأزق يفجّر في وعي الكّتاب أو المثقفين كل الأسئلة الجوهرية المتعلقة بكتاباتهم المتنوعة: ما هي الكتابة؟ ما دورها؟ أين تكمن تأثيراتها النقدية؟ .
يجدر بنا اليوم إذ نتناول مسألة الكتابة مع بدايات الماضي المشار إليه أعلاه، هذا الماضي الذي لزمته فاعلية اختزال الإنسان العراقي، أن نحدد سؤالنا الجوهري على أساس ما يخص البعد الأخلاقي والمعرفي والتأريخي والنقدي لوجودنا الإنساني، في مثل هذا الطوفان الإعلامي، المقروء والمكتوب والمرئي، الذي أخذ يحل مكان ثقافة عراقية معرفية خالصة ومتطورة حاولت في ما مضى أن تقيم جسوراً معرفية مع الثقافة العربية أو الغربية وترى إلى معنى الإفادة منها، مساهمة بذلك في عملية التطوير والتنوير والتجدد . نقول أخذ هذا الطوفان الإعلامي يحل مكان هذه الجسور ويطمس ما كان يتشكّل في حواراتها وتداخلاتها وتأثيراتها من معانٍ إيجابية، ليولي ثقافة الاحتلال والعقائد أو الادلاء مكانة أولى، ويرسّخ مكانة موازية لثقافة غريبة دخيلة أو لثقافة النظام العقائدي الجديد وسلطته، هذه الثقافة التي تحملها الوجوه العقائدية المستعادة .
في ظل هذه الأوضاع، نتساءل ما هو واقع الكتابة اليوم، وما الذي يمتلكه للوقوف، بشكل نقدي، أمام هذه المتغيرات الدراماتيكية الحاصلة؟ بداية نقول: إن عالم الكتابة متعدد الأوجه، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن كتابة نقدية خالصة دون الوقوع في حلقة واسعة من الإشكاليات التي تدفعنا ثانية لقراءة الظروف الاقليمية والدولية بصورة دقيقة ومجردة ولنفهم، لاحقاً، دينامية التشكيلة الثقافية البائسة وننطلق من بؤس هذه التشكيلة وتلك الظروف ليمكننا على ضوئها تلمس منطق الخراب الثقافي في الوقت الراهن، ولعل القارئ الجاد الذي يعرف هذه الوقائع قد ينطلق من هذا التقديم نفسه ليطرح نفس السؤال المتعلق بماهية الواقع أو تداعيات هذا الخراب الثقافي على الكّتاب لكي يرصدوا تأثير البنى المعرفية والصرعات السياسية والاجتماعية في بنية الشكل الثقافي نفسه وتنوعاته، وهذا الرصد يتطلب، في نفس الوقت، جهداً كبيراً في الممارسة النقدية المغايرة المتحررة والإغناء الفكري والتحول الحضاري .
2
لقد أوحت الولايات المتحدة، بموجب شريعة الغاب، للعراقيين أنهم أمام حقيقة واحدة لا لبس فيها تتمثل بالموت القادم من كل الجهات مثله مثل الخوف المتربص بهم دوماً والذي سيقودهم مجدداً إلى الشتات، وتعول عليها في الحكم الأحداث الدامية المنسية والكهوف المنتشرة التي أصبحت ملاذاً للوجوه المجرمة الجديدة تحتمي بها لتتربص، فيما بعد، فرصة عبثية تنتقيها لممارسة الجرم والتوليفات العدوانية ذات المنهج العبثي الذي دبجته وتدبجهه المسميات المضمرة بين الولاءات أو الاصطفافات الطائفية التي تقود البلاد إلى الوراء ذاك لأنها منظومة شرسة تريد إعادتنا إلى العهد الواحد والصوت الواحد والعقيدة الواحدة المغلقة لتأهل بدورها الفكر العقائدي وتفرغنا من مهماتنا الإنسانية النبيلة إزاء ظلام الأحزاب والعقائد والعمائم واللحى بكل صنوفها وألسنة قادتها المنفلتة أو أقلام كُّتابها التي طالما كتبت أو نطقت بالأكاذيب والتضليل والدعوة إلى الأحتراب في زمن لا ينتج إلا الوشاية والكوليرا والجنائز واللغة الباهتة .
تترى الأسئلة التي توجّه إلى المثقفين، من قبل بعضهم البعض، في ما هم عليه في الماضي والحاضر وهم، أيضاً، لا يقوون على الإجابة عن كثير منها وفي الغالب لا يملكون مثل تلك الإجابة النهائية التي تزيح عن كاهلهم ثقل السؤال ومرارته، ولذا صار من السهل جداً على كثيرين أن يمطروا التاريخ بماضيه وحاضره بوابل من الأسئلة القاسية المحرجة لأنهم لايملكون إجابة عنها ولا حتى الرغبة الأولى بانتظار الجواب، ولغرض الإمعان في أحراجهم ووضعهم ثانية في الزاوية الأشد ضيقاً عندما يعضون شفاههم، ندماً أو حسرة، معبرين عن حالتي اللاجدوى والعجز، فالإجابات المتوقعة أو المتعلقة بمستقبل البلاد وثقافته وتاريخه لا يملك أحد ما قدرة الإجابة عنها بالتقولات والتنظيرات والمزايدات المشوهة أو التزوير ولذا كان الوجه الحضاري الثقافي للبلاد مستباحاً حتى إشعار آخر، فأيّة صفة هذه يمكن أطلاقها على واقع البلاد الراهن أو الثقافة فما يحدث في قلبها وشمالها وجنوبها وحتى على أطرافها هو حالة تتجاوز مفهوم الاستباحة بكل معانيها وصورها إلى ما هو أخطر من ذلك وكما هو معروف أن الواقع المرير المحيط ببلادنا لا يسر الناظرين، كل يوم موت ودمار ومع هذا الخراب تتراجع أوضاع البلاد من سيء إلى أسوأ، قد يهب البعض من المتبطرين أو مروجي ثقافة الاحتلال والتزوير والخديعة ليحاول عبثاً أن يظهر لنا تفاؤلاً بمستقبل مشرق، ألم يكن هذا التفاؤل مدعاة للسخرية؟ جميل جداً أن نكون متفائلين وعلى قدر هذا الأمر نتقبل الموضوع ولكن، أليس التفاؤل الآن بعيداً عن الموضوعية في هذه المرحلة أو ضرباً من الخيال؟ ألم تتأملوا جيداً ما يدور الآن بالعراق؟ من يتهمني بالتشائم أوافقه، من يختلف معي سأكون ممتناً له فقط لو قدم لي ما يدعو للتفاؤل، علينا أن نقف أمام مرارة الواقع العراقي بمنتهى التجرد ومن ثم الحديث عن الحقيقة، وأعني حقيقة الخراب الثقافي والروحي والسياسي، والجهر بها بلا مواربة أو تزويق وتردد مثلما علينا أن لا نتغافل عن حيثيات الزمان والمكان التي تطرأ على مجمل الأوضاع وعلينا مراقبة المثقف الحائر والدليل والسياسي البليد وحتى رجل الشارع البسيط في عملية استنباط للحقيقة نفسها ومدياتها المفتوحة خاصة وإن استنباطه هذا يتمحور بعيداً عن الواقع الذي يحيط به وعليه أن يفهم أيضاً أن وجوده في الحكومة أو الحياة بشكل عام، بأي صفة كانت وبأي حال من الأحوال هو وجود شكلي كارتوني يدعو للضحك ولايحظى بشيء مثلما لا يمكن له عمل أي شيء إنه يشبه إلى حد ما قطعة من قطع لعبة الشطرنج ولا أود الإشارة هنا حول ما حدث ويحدث من أمور باتت معروفة للجميع.أمور أمتزجت بها الخرافة بالحقيقة أو الثقافة بالجهل لكنها تُدفع دائماً إلى غرابة تتجاوز الدهشة لتجلب لنا الجنون، ها هي المأساة تتفاقم والعراق يتوزع إلى دويلات طائفية بينما الفرقاء في أزمة إذ لم يبد أحد ما قلقه أو حرصه لكل ما يدور ويحدث من موت، فلا قانون ولا سيادة ولا عدالة ولا تقاليد ثقافية حضارية أو أمن ذاك لأن الفوضى هي سيدة الموقف بشكلها المخيف وتجريديتها القابضة للارواح مثلما هي طموحات الفرقاء الأحادية ونزواتهم الشخصية المتزايدة لسرقة أكثر عدد ممكن من الثروات المباحة المبددة وهذا ليس ظناً بل حقيقة واضحة تؤكدها الأحداث الدائرة الآن وفي الأمس القريب .
3
ما من شك في أن ظاهرتي الغيبية والعقائدية تشكلان مشكلتين أساسيتين يواجههما الفرد العراقي في الوقت الراهن، وبالتأكيد ليست المشكلتان متشابهتين أو متماثلتين لكنهما متلازمتين في كل الظروف إلا أن خصائص الظاهرة العقائدية قد أدت إلى هدر الكثير من الأفكار المتحررة البريئة في إطار العمليات المنظمة لغسل الأدمغة ومسخ الارواح، وهذه الأساليب أدت في نفس الوقت إلى تداخل شديد بين المشكلتين المتفاقمتين، ولا يعني هذا التداخل إن معالجة المشكلتين هي معالجة واحدة أو إن مواجهتها هي مواجهة واحدة في كل جوانبها وتفاصيلها وتفرعاتها مع العلم أن هذا التداخل قد جعل هذه المواجهة، بالنسبة للافكار المغايرة، واحدة في جانب أساسي منها يتعلق بمشروع المعرفة بالرغم من التعقيد البالغ الذي سيواجهه الكّتاب العراقيين والذي سيخلف بدوره واقعاً أكثر ضراوة مما قد يتصوره البعض وما يحصل اليوم في مدن العراق وقصباته لهو دليلاً على ما ستتمخض عليه الاحداث في المرحلة القادمة وثانية سيكون الفرد العراقي ضحية لمثل هكذا أساليب فكرية مغلقة أصبحت من العناوين الرئيسية للثقافة العراقية الراهنة ويمكن القول أيضاً أن الثقافة في العراق لا تستطيع أن تواجه هاتين المشكلتين منذ لحظة إنهيار النظام الديكتاتوري وحتى يومنا هذا ولو أن بعض المواجهات قد تمت باشكال مختلفة وبدرجات متناقضة من الحدة خصوصاً من جانب المثقف المختلف وهذه المواجهات كانت متفاوتة تفاوتاً كبيراً أيضاً ذاك لأن مشكلة العقائدية قد أمست مشكلة مزمنة في العراق واجهها العقائدي في مراحل ومنعطفات متباعدة بالتصعيد إذ لم يفكر أحداً ما باحتواء هذه المشكلة كما يفترضه مفهوم ومعنى الاحتواء إضافة إلى أن الممارسات العقائدية ذات الميول الغيبية قد ظهرت هي الأخرى متزامنة مع الأحداث وأخذت على عاتقها موضوعة التصعيد أيضاً ومنذ ذلك الحين والفرد العراقي بين رحى الغيبية والعقائدية يُطحن طحناً أو يموت بلا أي ذنب . يبدو لي في بعض الأحيان أن مظاهر العنف سوف تصبح في قادم الأيام أكثر شراشة والاسباب عديدة ومتعددة ولا نريد الخوض بها لأنها أصبحت واضحة، كما سيشترك العنف العقائدي في تعميق الانقسامات أو تفتيت البلد أكثر مما هو عليه الآن من تفتت وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن خصوصية الحالة العراقية السائدة الآن قد تؤدي إلى هذا التلازم بين الغيبية والعقائدية وستجعل الثقافة أمام واقع جديد مختلف .