18 ديسمبر، 2024 9:09 م

الكتابة بديلاً عن الانتحار

الكتابة بديلاً عن الانتحار

ما من أحد يصدق إن الكتابة هي البديل الوحيد عن الانتحار. فهناك بدائل كثيرة وأكثرها سطوعاً إيمان الإنسان بأنه أكثر المخلوقات قدرة على النجاة في لحظة الانهيار مهما يكن شكل هذا الانتحار ومهما تكن دواعيه.
لكن هل المعنى المقصود من الانتحار هو الذهاب إلى الموت الفزيولوجي عمداً؟
ولأن وهم الإبداع قد وصل إلى مرحلة لم يعد قادراً فيها على التمييز بين ذاته وموضوعه، اعتقد بعض الكٌتاب بمهمات خارقة للأدب والفكر وبعضهم الآخر اعتقد إن الكتابة هي محاولة فردية لقلب اللحظة التاريخية وبمعنى أصح تدمير هذه اللحظة بالخروج من جسد التاريخ وبالتالي إلغاء الواقع المعاش.
ربما، هكذا فهم بعض الكٌتاب إن الكتابة عمل انقلابي، وهكذا حلت محل القيمة الأدبية لعمل ما قيمته من حيث هو فعل تحريضي مباشر ضد الواقع.
نستطيع أن نتذكر هنا على الفور بكائيات نكساتنا وخيباتنا.. لكن ما الذي بقى لنا فيها من الناحية الأدبية؟
ها نحن نرى تسرباً نحو فائض الفنية، ونحن لا نحتاج طبعاً للمقارنة بين لحظتين تاريخيتين، فلكل منهما ظروفها المختلفة.
لكن السؤال الذي يلح الآن:- هل الظرف التاريخي الآن هو أفضل حالاً عما كان عليه في العقود الأربعة الأخيرة ؟ أي إن السؤال بصيغته الفنية هو:- هل البحث عن الفضائل الفنية للعمل الأدبي يعني نقيضاً للبحث عن فضائل الالتزام؟ وإذا كانت الكتابة بديلاً عن الانتحار فما معنى هذا الكم الهائل من الأحاديث عن قيمة الأدب والفكر؟!
أعتقد إننا نستطيع الآن القبض على نوع من التشابه. كان الأدب عند بعضهم ولاسيما في ستينيات القرن العشرين انتحاراً مباشراً وصدامياً، يصعد الكاتب إلى أعلى قمة في الأيديولوجيا ثم يقفز احتجاجاً على الواقع فيصفق له الناس يومين أو ثلاثة، وحيث يحضر أولئك الذين يرتدون البدلات الداكنة ويضعون النظارات السوداء ليحاكموا جثته، يكتشفون إنها جثة رجل آخر. وهكذا، تظهر بعد أيام حقائق جديدة… فمثل هذا الكاتب لم يكن أيديولوجياً بهذه الحدة ولكنه لحظة انتحاره كان فاقداً لذاكرته التاريخية، ولكن موته مع ذلك يظل موتاً تراجيدياً وينتهي في الأيديولوجيا وكأنه إحدى شخصيات ماركيز لا نستطيع أن ننساه ولا نستطيع أن نقره.
إذن، ما وجه الشبه بين ما حدث وبين ما يحدث؟
بدأ الانتحار الآن يتخذ طابعاً أكثر فنية، فما دام الفن هو الهدف الأول والنهائي للكاتب فإن طريقته في الانتحار يجب أن تكون طريقة جميلة حتى في اللحظات الأخيرة،.. لا ينسى الكاتب الجمالي أن يكون موته شكلياً فيصعد إلى أعلى قمة في اللغة ثم يقفز لا إلى الأيديولوجيا ولكنه يقفز نحو العدم.
من اللغة إلى العدم، تلك هي اللحظة الجمالية التي بواسطتها يستطيع الكاتب أن يكون (بخوراً) في مجالس الكبار ويكون حكاية في مجالس الصغار ويكون في النهاية مبعثراً كحطام زورق في ساحل حجري بلا نهاية.
لابد أن يسأل البعض:- أين تذهب جثته إذن ؟
هل قلت إن له جسداً حتى تكون له جثة ؟
هذه ليست نكتة ولكنها حقيقة، فالإنسان الذي يقفز نحو العدم لابد أن يكون إنساناً قد خرج للتو من الميتافيزيقيا، فنحن لا نعرف له اسماً ولا شكلاً، مع إننا نحاول دائماً استدعاء روحه لتكون إحدى شهودنا على القضية.
ما هو المطلوب إذن ؟
أتذكر مقولة تولستوي، حين يبدأ في قراءة كتاب جديد (حسناً لنرى أي إنسان هذا الكتاب، وماذا يستطيع أن يعلمني من جديد عن الحياة الإنسانية). لكن ما الذي يستطيع أن يقدمه كاتب يفاضل بين الكتابة والموت، وما هي اللحظة التي يصل فيها الكاتب إلى هذه المفاضلة؟
يجب أن لا ننسى إن الكاتب هو كاتب اجتماعي بالدرجة الأولى، وهو بغض النظر عن ثقافته الخاصة إنسان يمارس نشاطه العلمي والفكري داخل هذا المجتمع وهو بالتالي يؤثر ويتأثر بالحركة الاجتماعية، لذلك فإن أي نشاط إبداعي له من المستحيل أن يتحقق دون الشرط الاجتماعي. هذه بديهية نعرفها جميعاً، ثم إن الكاتب يمتلك ثقافة خاصة بإطلاعه المستمر على ثقافته القومية والتعمق فيها أو بإطلاعه على ثقافات الشعوب الأخرى.
بمعنى إنه إنسان مميز من ناحية تكوينه الثقافي، لكن هذا التميز لم يحدث عن طريق اللغة وحدها، فلا شك إن أحداً منا لم يقرأ ماركيز باللغة التي كتب بها، وجميعنا ربما لم نقرأ دوستوفسكي بلغته. ماذا يعني ذلك؟
يعني إنه لو كانت اللغة شرطاً وحيداً لتحقق الفاعلية لما اعتبرنا ماركيز عبقرياً بهذه الصورة لكن ما كسبناه حقاً في قراءتنا لماركيز هو قوة المخيلة وقوة الأفكار.
ماذا لو افترضنا إن ماركيز في أثناء كتابته لرواية (مائة عام من العزلة) كان في وضع نفسي يفاضل فيه بين نجاحه في الكتابة والانتحار؟
أعتقد إنه ما كان ليستطيع إنجاز مثل هذا العمل الجيد، ذلك، لأن كتابة عمل أدبي يحتاج إلى وعي حاضر وحاد في القضايا الإنسانية ويحتاج إلى إرادة عظيمة للنضال ضد كل ما هو غير إنساني، ومن ثم يحتاج إلى جعل ذاته محوراً للعالم وليس العكس. إنها أنانية شديدة تلك التي ترى العالم وقد انهار فجأة في لحظة يأس وعلى الكاتب أن يناضل ضد هذا اليأس.
لا أحد يطلب من الكاتب أن يحكم على ذاته بالإعدام، فالعالم موجود في ذات الكاتب شاء ذلك أم أبى، لكن هناك من الكٌتاب من يوجه موهبته الأدبية إلى نبذ العالم والانتقام منه أو الانعزال عنه كلياً حين ينصب اهتمامه الأدبي/ الفكري على تعاسته الشخصية.
هنا تبدأ المفاضلة بين الكتابة والانتحار مبررة بشكل واضح. فالكتابة لم تعد إلا منفذاً للهروب من المرض النفسي أو للخلاص منه، كما فهمها فرويد وكما يفهمها أيضاً كافكا الذي قال:- (يجب أن أبقى زمناً طويلاً بمفردي، إن كل ما قمت به ليس إلا نتيجة للوحدة).
إن كل ما يستطيع أن يفعله كاتب متوحد ومعزول وذاتي هو أن يقنع نفسه والآخرين بأنه لا جدوى من هذا العالم وبأن المصير المرعب الذي ينتظرنا ليس هو الجحيم الإنساني فقط بل هو وبصورة أخرى افتقاد حتى هذا الجحيم للخلاص من الحياة.
ما الذي يجب فعله أمام هذه الانهيارات.. ؟
كلنا نلاحظ هذا الاتجاه الذي يظهر في أدب البعض ولاسيما المحدثين – النزوع إلى تصوير التعاسة الشخصية، الهروب إلى اللغة، فقدان العلاقة الطبيعية بالمحيط الاجتماعي…
ما أكثر وجه الشبه بين انتحارين، أن يقف الكاتب على أعلى قمة في اللغة ثم يقفز منتحراً نحو العدم، أو أن يقف على أعلى قمم الأيديولوجيا ثم يقفز إلى الشارع احتجاجاً على الواقع.
جميل هو الموت الكلي!! والأجمل منه هو ذلك الموت الواقعي الذي يحاول أن يتقدم التاريخ عارياً حتى من سلاحه الفكري