الكتابة الملتزمة: بين ضريبة الكلمة والجهر بالحق وبناء الهوية الوطنية

الكتابة الملتزمة: بين ضريبة الكلمة والجهر بالحق وبناء الهوية الوطنية

علينا أن نكتب الحقيقة، ولو ضد أنفسنا، لأن ما لم نُواجهها اليوم، سيُعيد التاريخ إنتاج المأساة غداً… ؛ والحق لا يُولد في صمت القبور، بل في صخب الضمائر اليقظة.

أن المصالحة الوطنية لن تُبنى دون مكاشفة، ولا مكاشفة دون اعتراف، ولا اعتراف دون شجاعة , ولا شجاعة دون حرية, وللحرية ضريبة، وللوعي ثمن باهض … ؛ نعم لا بد أن نتصالح مع أخطائنا، أن ننظر إلى مرايا التاريخ دون مكياج، أن نسمع صوت من كنا نصم آذاننا عنه، وأن نعترف أننا – جميعًا – شركاء في خطايا الماضي، بالسكوت أو بالمشاركة.

فلا مكانَ هنا للمجاملةِ أو المُداراةِ أو التلفيقِ او التدليس في تقييمِ الشخصياتِ والأحداثِ والوقائعِ والظواهرِ والسلوكياتِ والافكار والرؤى والعقائد والعادات والتقاليد … ؛ ولكن، ينبغي التنويهُ هنا جَلِيًّا: حينَ أنتقدُ شخصيةً ما، لا يعني ذلكَ إدانةَ أسرتِها أو عشيرتِها أو طائفتِها بأكملِها، “فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ” , ولغةُ التعميمِ الجارفةِ مرفوضةٌ جملةً وتفصيلاً… ؛ وإذا ذكرتُ عائلةً أو عشيرةً، فذلكَ للاستئناسِ بآراءٍ تاريخيةٍ أو أنثروبولوجيةٍ أو سياسيةٍ تخصُّها (كتَناوُلِ دورِ بعضِ العشائرِ في أحداثٍ تاريخيةٍ معينةٍ، أو دراسةِ بنيتِها الاجتماعيةِ)، وليسَ القصدُ شمولَ الجميعِ بالطعنِ أو الانتقاصِ… ؛ فما يُوجَّهُ لهذهِ العائلةِ قد ينطبقُ على غيرِها، وما يُثارُ حولَ نسبِ تلكَ العشيرةِ قد يكونُ صفةً مشتركةً بينَ القبائلِ كافّةً… ؛ وأسلوبي في هذهِ المقالات والابحاث يعكسُ ما يدورُ بينَ العراقيينَ من مَهاتراتٍ وسجالاتٍ واتهاماتٍ في المجالسِ الخاصّةِ والعامّةِ ومواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ؛ فهو تسليطٌ للضوءِ على المسكوتِ عنهُ، وكشفٌ للأكاذيبِ والطعونِ والافتراءاتِ التي تُقالُ في الخفاءِ… ؛ إنني أتناول ما يُقال في الخفاء، وما يُهمس به في المجالس، وما يُشاع على صفحات التواصل، لا لأُروّج له، بل لأفضحه، لأقيم الحجة، ولأُخرج الوعي العراقي من حالة الخدر والاغتراب… ؛ كي يعرفَ كلُّ طرفٍ أنَّ التهمةَ التي يُلقيها على غيرِهِ قد تكونُ ألصقَ بهِ من غيرِهِ- من باب – :”الزُمُّوهُمْ بِمَا الزَمُّوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ”- ؛ وحينَ أستعملُ هذا المنطقَ المقلوبَ والمنهج المنكوس ، فليسَ إيمانًا بهِ، بل فَضْحًا لعللِهِ وعُيوبِهِ، وإقامةً للحُجّةِ على الخَصمِ بما يعتنقُهُ من خرافاتٍ وخزعبلاتٍ وترّهاتٍ وأساطيرَ ومعتقداتٍ باليةٍ وأفكارٍ متحجّرةٍ وادّعاءاتٍ كاذبةٍ… ؛ ولستُ مسؤولاً عن كلِّ ما يُذْكَرُ، فأنا أنقلُ صَدَى ما يدورُ بينَ أبناءِ الشعبِ العراقيِّ وغيرهم ، “وَنَاقِلُ الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ” كما يقال … ؛ وألزمتُ نفسي بسلوكِ دَرْبِ المكاشفةِ والصراحةِ، رغمَ علمي بأنَّ الصراحةَ – في زمانِنا هذا – طريقٌ مُوحِشٌ لا يسلكُهُ إلا قلائلُ نذروا حياتَهم لإنقاذِ العراقِ وأهلِهِ من براثنِ الاستعمارِ والتبعيةِ والطائفيةِ المقيتةِ والعنصريةِ البغيضةِ والمناطقيةِ الضيقةِ والحزبيةِ المتعصبةِ والتخلّفِ والانحطاطِ… ؛ فالمصالحةُ الوطنيةُ الحقيقيةُ لن تُثْمِرَ إلا بعدَ خطوتينِ جوهريتينِ: المصارحةُ والمكاشفةُ أولاً (كجلساتِ الحقيقةِ التي عرفها التاريخُ كما في جنوبِ أفريقيا)، ثمَّ الاعترافُ بالجُرمِ والخطأِ والاعتذارُ والتكفيرُ عنهما ثانياً، مستندينَ في ذلكَ إلى شهادات حية و وثائق وحقائق و دراساتٍ وبحوثٍ ومقالاتٍ وكتبٍ رصينةٍ (كأعمالِ المؤرخينَ العراقيينَ والعربِ والأجانبِ الموضوعيةِ)، ومُصغِينَ لشهاداتِ المعاصرينَ للأحداثِ لتوثيقِ روايةِ التاريخِ بأمانةٍ… ؛ واكرر قائلا : وعليه ارجو من الاخوة العراقيين المحترمين و الوطنيين منهم ان لا يسيئوا بي الظن ؛ فإن ما أكتبه، وما أطرحه، غايته إثارة النقاش وإثراؤه، لا تقديس رأي، ولا تخوين مخالف… ؛ فالحق لا يُولد إلا من رحم الحوار النزيه، والنقد البناء، والاعتراف بالأخطاء، والتوقف عن عبادة الرموز وتقديس الأوهام ؛ كما ذكرنا انفا .

وان توقف العلاج والشفاء من المرض على اجراء عمليات قيصرية مؤلمة ؛ فلابد منها ؛ وصدق الشاعر عندما انشد قائلا :

إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركباً *** فما حيلةُ المضطر إلا ركوبها

فنحن لسنا ملائكة ولا أنبياء، ولكننا أبناء حضارة تعبت منّا، ودماءٌ سالت لأجل وحدة لم نعرف كيف نصونها , وهوية لا نعرفها ، وتاريخ مُزقته الخرافة، وابتلعه التقديس الأعمى… ؛ نعم، لا بد من مصالحة حقيقية، ولكن هذه المصالحة تبدأ من المكاشفة، من المصارحة، من تعرية الذات، ومن الاعتراف بالذنب الوطني الذي اشتركنا فيه جميعاً، صمتًا أو فعلاً.

نعم، العراقي اليوم في حاجة إلى ثورة داخلية، إلى طرد الخرافة، وهدم الهويات القاتلة، والتحرر من سجون التاريخ المزور… ؛ فنحن نكتب لكي لا تتكرر المآسي، ولكي لا تدور الأجيال في نفس الحلقة المفرغة من التبعية، والاستعباد، والضياع… … ؛ فأنا لا أكتب اليوم لأجل قبيلة أو عشيرة أو حزب أو زعيم او جماعة او منطقة او عقيدة ، بل لأجل الحقيقة، حتى وإن آلمت، وإن نبشت ما يُراد له أن يُدفن… ؛ ولا يعني نقدي لهذه الشخصية أو تلك أنني أُدين ذويه أو عشيرته، بل أسلط الضوء على نماذج وصور، تتكرر عبر الأجيال، يُراد بها أن تُعبّد طريق الزيف باسم “الحق”… كما اسلفنا … ؛ وإنني أعاهد الله والتاريخ والعراق أن أظل، ما حييت، في صف الحقيقة، لا أخشاها، ولا أتهرب منها، ولا أزيفها، لأن خلاص العراقي يبدأ حين ينظر في مرآة نفسه بصدق، ويتصالح مع جراحه، ويسعى ليكون عراقياً فقط، بلا أي لقب يُضاف ولا أي قيد يُقصيه… ؛ وإن كان في ذلك ألم، فإنه ألم الشفاء، لا وجع الخرافة والتعصب والكراهية … ؛ وانا في هذا المقام لا أطلب من أحد أن يتفق معي، لكنني أطلب أن يُنصت إليّ بعين عراقية، وقلب عراقي، وضمير حر… ؛ لأننا لن نبني وطنًا إلا إذا أعدنا بناء وعينا…؛ ولكل منا الحق في الاجتهاد وابداء الرأي فمن اصاب منا مشكور ومن أخطى فهو معذور , والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية كما قيل قديما .

ومع كل هذا، لم أطرح نفسي وصيّاً على الحقيقة، ولا تاجراً بالنوايا الوطنية، بل دعوت إلى ما هو أسمى من الأدلجة : المصارحة أولاً، ثم المكاشفة، ثم المصالحة… ؛ فلا مصالحة وطنية بلا اعتراف بالذنب، ولا تطهير بدون إقرار بالخطأ، ولا نهوض بلا مراجعة لما كُتب وما قيل وما فُعل.

ورغم الحذر الذي يفرضه هذا الزمن، حيث قد يُقتل المرء بسبب كلمة أو يُخوّن بسبب موقف، صمّمت أن أواصل في طريق الصراحة، ولو كان موحشاً… ؛ فالشعوب والاوطان لا تُبنى بالمجاملات، بل بالحقائق، والحق لا يتبدى إلا بمكاشفة شجاعة، تحاكم الذات قبل الآخر، وتفتش في السرديات المتداولة لا من باب التجريح، بل من باب التمحيص.

لقد تعلّمت من العراق أن لا شيء أكثر كذباً من الصور الرسمية، ولا أشد ظلماً من التاريخ حين يُكتَب على مقاس المنتصر أو السلطان… ؛ ولذلك، فإنني حينما أتناول شخصية أو قبيلة أو عشيرة، فليس من باب التجني أو التحامل، بل من باب الرؤية الأنثروبولوجية التي تحلل الظاهرة ولا تلعنها، وتفكك الخطاب دون أن تُدين العائلة… ؛ كما اسلفنا .

ولذلك، أدعو العراقيين إلى الكفّ عن عبادة الرموز الزائفة، والتمترس خلف هويات سالبة، والارتهان إلى أوهام الاصطفاء الطائفي أو القبلي… ؛ أدعوهم إلى أن يواجهوا الحقيقة بأنفسهم، أن يسمعوا بعضهم لا عبر خنادق الاتهام، بل من خلال جسور الفهم والتراحم والتواصل … ؛ لأن حب العراقي ينبع من حب العراق، ومن لا يحب العراقي الآخر، لا يحب العراق في جوهره، مهما تغنّى باسمه.

ولتكنْ أقلامُنا سيوفاً تقطعُ حبالَ الجهلِ والفرقةِ، ولتكنْ كلماتُنا لَبِناتٍ في صرحِ عراقٍ جديدٍ، يُليقُ بأمجادِ سرجونَ وحمورابيَ والامام علي والمتنبيِّ والجواهريِّ … الخ ، ويستحقُّ أن نُورِثَهُ لأجيالٍ قادمةٍ تفتخرُ بانتمائِها إلى أرضِ الرافدينَ، موطنِ الحضارةِ والإبداعِ، لا أن تخجلَ من إرثٍ من التشوهِ والدمارِ… ؛ فالعراقُ أكبرُ من جراحِهِ، وأعظمُ من زلّاتِنا، وأجدرُ بأن نصنعَ لهُ مجداً جديداً يُضاهي مجدَهُ الخالدَ.

أحدث المقالات

أحدث المقالات