كيف نجعل أفكارنا واضحة؟
في أساس الفهم البراجماتي للحقيقة المعرفية تقوم في رأينا تعاليم (تشارلز بيرس 1839 ـ 1914) في مقال بعنوان (كيف نجعل أفكارنا واضحة؟) والتي أميل لأعتبارها مقالاً مهماً ليس لبراجماتية بيرس وحسب بل للفلسفة البراجماتية بشكل عام بالرغم من أن بعض الفلاسفة البرجماتيين المعاصرين لم يأخذوا بهذا الجانب أو ذاك من تعاليم بيرس نفسها خصوصاً تلك المتعلقة بالعملية المعرفية النقدية التي تمنحنا فرصة الخروج من المأزق المبهم في عملية جعل الأفكار واضحة، وهكذا فان الوعي الإنساني لا يمكن أن يتحقق ويظهر إلا في حالتي وضوح الفكرة وقيمتها المعرفية بوصفهما وسيلتان تتطابقان وتتجاذبان معاً كي تصلان إلى المعنى المنشود الذي يتلخص في أتخاذ الفرد رأياً نقدياً أو موقفاً ما من شأنه الأفصاح عنه والعمل عليه بصورة حثيثة لإنجازه وبهذا سنجد المعنى المجرد والمراد الوصول اليه هنا ليس إنعكاساً لجوهر الشيء وحسب بل تجسيداً لماهيته الداخلية التي تمتلك دلالات ومضامين وإشارات موضوعية يستطيع من خلالها الفرد التفاعل مع العالم الخارجي بصورة متجددة، بل يدخل أيضاً في علاقة مع نفسه بالذات تسقط الصورة التقليدية لمفهوم الحقيقة المعرفية المختزلة وكيفية التعامل معها .
في ضوء ما تقدم من توضيح ولو بشكل مبتسر على أن يأخذ بنظر الأعتبار أي شئ يخرج عن حدود الحقيقة المعرفية ومفهومها المتعلق بالفكرة والمعرفة والكتابة، وبما أن الفلسفة البراجماتية هي فلسفة علمية أنبثقت من الروح المادية للقرن الماضي وهي أمريكية النشأة رأسمالية الإتجاه حسب الدكتور (سماح رافع محمد) والبراجماتية هنا في أصلها اللغوي حسب موسوعة (روزنتال) الفلسفية مشتقة من كلمة يونانية تعني العمل النافع أو المزاولة المجدية ويصبح المقصود منها هو المذهب العملي أو المذهب النفعي الذي يهتم بالإطار الخارجي ويهمل الجوهر وهنا لا أريد أن يُفهم من أننا نتبنى الوضعية، التي هي أحدى تفرعات البراجماتية، في اتجاهاتنا الفكرية تلك التي رفضت التسليم بالحقائق المطلقة والقضايا الميتافيزيقية، لكننا نريد في ما نكتب، عن المعرفة النقدية، الأبتعداد عن حالة التردد التي قد تصيبنا أحياناً بالخيبة ونحن نُقدم على الكتابة النقدية التي نريد منها أيضاً أن تفضي إلى نفع معرفي نحققه للآخر لحل التوترات التي تنشأ بين المطامح الذاتية وإساءة أستخدام المعرفة بضوابط غير منهجية قد تفقدنا الأمل (بيوتوبيا) المستقبل .
ثمة معادل جديد يطرح نفسه في الكتابة الإبداعية النقدية محاولاً أن يحيل العالم إلى فوضى وهي فوضى تبدو مشروعة في بداية الأمر ذاك لأنها تتجاوز نظام الفكرة الجاهزة الذي يدفع المعرفة قسراً إلى الاستسلام للفوضى وهذا الأمر لا لبس فيه من خلال ما تزدحم فيه وتحتضنه الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية وحتى المواقع الألكترونية من موضوعات ثقافية وسياسية وبحوث ودراسات في كافة مناحي المعرفة وبهذا تكون سلطة المعرفة قد تجاوزت حدود الصياغة الموروثة في التقاليد الثقافية المتعارف عليها ليصبح العالم حراً في عملية إنسياقه إلى ما يجاوز المعرفة ليشكل وفق هذه الضرورة مضامينه ودلالاته الحديثة خارج دعوات الشكلانية المحضة وخارج الواقعية المحضة التي تميل إلى تحديد الفكرة بحجة الأخلاص للمنهج الشكلاني المغمور في هذه الأطر الغائمة بالاصطلاحات المتنوعة والبعيدة عن كل شكل من أشكال الضرورات التحديثية المعاصرة في عالمنا اليوم الذي يخترقنا بوسائله الحديثة، الأنترنيت حصراً، معرفياً وروحياً حيث تصبح كل من الكلمة والصورة داخل المخيلة في حالة موصولة يتجاوز أحدهما الآخر بصورة مفتوحة على المدى الزمني الطويل الذي يمنح الآخر المعرفة .
من الضروري أن تدفعنا الكتابة إلى تحريك ورسم الصورة الحقيقية للعالم أنسجاماً مع موقف الكاتب في أشتراطاته التي تناقض هذه المعطيات الواقعية المحضة التي تسن بدورها قوانينها الموضوعية الأكثر قمعاً للشرروط الإنسانية الرامية إلى أبراز حالة من الانسجام الروحي والفكري بعيدتان كل البعد عن شكل المتناقضات التي تتخذ من ضديتها تجسيداً للنفي عبر صيرورة أخرى تدفع العالم من خلالها إلى جملة من العلاقات المتشابكة والشائكة، هذه الحالة في بعض الأحيان تهدف إلى خلق حوار جديد نفتقد إليه منذ أمد بعيد، حوار يتجاوز الحروب الكلامية المرتبطة بذلك الماضي الذي مازال يطل علينا برأسه الأشعث في كل مكان ويدس بأنفه الكبير بمنتهى الفضول ليمارس عبثيته بإصرار غريب فحينما تبرق لُحيظَة أمل تبرر وجودنا الكوني أو الإنساني والمعرفي من جديد تنبثق عتمة أخرى من أقصى عهود الظلام تُخرج هذا الأمل من عزلته ويجعلنا نتلمس حدة اليأس لديه حتى نصطدم بقفاه وبهذا يصبحان، اليأس والأمل شيئاً واحداً حينها تكون الكتابة درعاً وقتياً للحقيقة المعرفية تدفعنا قليلاً إلى الأمام كيلا تتعطل الحياة أبداً وتتوقف الحواس ولا نريد أيضاً أن نجعل من الحقيقة حالة مغلقة ونمنحها الكثير من التصورات التمجيدية في سياق آخر يمكن أن نرى فيه إيحاءات توفيقية متكررة تؤثر على المعطيات المعرفية للحقيقة ذاتها .
ليس مهماً لأحدنا معرفة الحقيقة المعرفية بقدر أهمية معرفة ماهيتها ففي هذا العالم الملئ بالمتناقضات لنا الكتابة علامتنا الفارقة أو بتعبير آخر للكاتب محمد عابد الجابري (متهمون نحن بالكتابة) التي نرسمها بمنتهى الهدوء فوق خارطة الوجود المليئة بالمتناقضات المنتشرة والأشياء المحنطة المحيطة بنا كي نحفر ماهية الحقيقة المعرفية لنصل إلى الحقيقي المعرفي الغائب دائماً الذي نمارس عدوانيتنا تجاهه وندعي في ذات اللحظة أحتواءنا له فالضمادات الوقتية والطارئة لم تعد تخفي بشاعة الواقع أو فضاعة الجرح ولأن الحقيقة لازالت تتطاول في نومها ويختزل الوضوح بدوره الفكرة بالكلام المبتسر أو الكتابة التقليدية الانشائية ليخلق توافقاً تناصياً مع ما قيل في الماضي، خير الكلام ما قل ودل، وهنا لا أدعو إلى الاستطرادات الهذيانية أو الأسفاف، وسوف تستمر الكتابة النقدية الصارمة في هذا المشروع لتؤكد صيغ بعض الخطابات السائدة التي سترهقنا إلى حد اللعنة وبهذا نختزل مفهوم الحقيقة لنرى الأفق بمنظار براجماتي لا نحبذه، فمن الصعب جداً أن توضح لأحد ما في مجتمع بشري قائم على النفع ومعايير الربح والخسارة الدوافع الروحية والإنسانية وراء سعينا المحموم للكتابة عن شؤون الحياة والفكر والأدب والكون والجمال فهذه العوالم السرية السحرية المثيرة التي تقرب الحقائق وتجعلنا نغوص في أستغراقاتنا لا سيما المستقبلية منها لتنهض وحدها وتستغني عن الآخر الذي تصدمه التحديات الحياتية التي يطرحها أمامه المستقبل، وهل ثمة مستقبل؟ هذا ليس سؤالاً سلفياً ولكي نتجاوز التكرار في مقولة (ألتوسير) التي مفادها يتعلق بالإجابات الممكنة نقول أن إعادة صياغة الأسئلة هنا وبهذا الصيغة المجردة قد يجعل الإجابات ممكنة إلى حد ما ففي محاولة البحث عن الإجابة فأن الأمر مرتبط بالسؤال الآخر الذي يعادل الأول أهمية والمتعلق بالأسباب التي تدعو المرء إلى الكتابة للمستقبل وعنه فغاية العثور على الجواب لا تتم بالأسلوب الميكافيلي بل بنبوءة الكاتب المستقبلية التي ستبدو ملازمة لما قاله الفيلسوف هايدغر: (من المستحيل الكلام على العدم) في عالم تختزل فيه الحقيقة ويتعرض فيه الإنسان للاستلاب بتسليمه للحتمية الصرفة أو تلك المتعلقة بالتفسيرات الغيبية، فكل دعوة تنحو إلى تفريغ الآداب والفنون والعلوم من غايتها الأولى وهي الإنسانية لا تخدم المستقبل وهنا لا أريد أن نتجاوز الحاضر لأنه يتصل أتصالاً وثيقاً بالمستقبل الذي هو مطمح المتنورين من النخب الفكرية التي تعتنق المعرفة أسلوباً ومنهجاً في الحياة وتبتعد عن التمثيلات الذهنية المجردة أو الدينية المغلقة بسياقها التقليدي الأمر الذي سيقدم للنقد المعرفي ليكون مدخلاً لفهم الحيثيات التي تستطيع التعامل مع المستقبل لتجعله حليفها الأبدي الأول .
الهوامش
1 المذاهب الفكرية المعاصرة/سماح رافع محمد/ القاهرة
2 نقد العقل المجرد/عمانوئيل كانط ترجمة أحمد الشيباني/بيروت
3 قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري/هشام غصيب/بيروت