الكافر الوحيد هو المفلس – بين المصلحة والشعارات

الكافر الوحيد هو المفلس – بين المصلحة والشعارات

يُروى عن فولتير قوله: «في السوق لا يوجد يهودي أو مسيحي أو محمدي، الكافر الوحيد هو المفلس». هذه المقولة تكشف بذكاء عمق الطبيعة البشرية حين تُختبر أمام المصالح. ففي الحياة اليومية، وخاصة في فضاء السوق حيث تتقاطع حاجات البشر ومطامعهم، تسقط الفوارق الدينية والمذهبية والشعارات الأخلاقية، ليبقى معيار وحيد يحكم التفاعل: الربح والخسارة.
السوق ليس مجرد مكان للبيع والشراء، بل هو مسرح اجتماعي يكشف حقيقة الناس أكثر مما تكشفه الطقوس والشعارات. في السوق، يقف التاجر والمشتري على قدم المساواة، يتبادلان المصالح بعيدًا عن انتماءات العقيدة أو القومية. اليهودي يشتري من المسلم، والمسيحي يبيع للمحمدي، والكل يبحث عن الجودة والسعر الأنسب. هنا يتجلى أن الاختلاف الديني أو الثقافي ينتهي أمام قوة المنفعة.
السوق بهذا المعنى صورة مكثفة عن المجتمع: لا يحكمه الخطاب الأخلاقي المعلن، بل سلوك عملي يضع المصلحة في المقدمة. وكأننا أمام مرآة تفضح ما نحاول إخفاءه خلف الأقنعة.
الناس في حياتهم الخاصة والعامة يرفعون شعارات كبرى عن العدالة والصدق والأمانة، لكن حين يأتي الامتحان العملي، تظهر تناقضاتهم بوضوح. التاجر الذي يصدح بأن “الدين المعاملة” قد يزوّر الميزان إذا شعر أن مصلحته تقتضي ذلك. والزبون الذي يطالب بالعدل والإنصاف قد يساوم بائعًا فقيرًا بلا شفقة. هكذا تتحول القيم أحيانًا إلى مجرد غطاء اجتماعي، سرعان ما يُزاح عندما يتعارض مع المكسب المادي.
إن ما تكشفه المقولة ليس فقط ضعف التزام الناس بالمبادئ، بل أيضًا قوة المصلحة في إعادة صياغة أولوياتهم. وكأن الإنسان يضع المبادئ في خانة “الترف” ما لم تُصطدم بالمنفعة المباشرة.
حين قال فولتير إن الكافر الوحيد هو المفلس، يمكن أن نفهم الكلمة بأكثر من معنى. فالخسارة المالية المباشرة في السوق تجعلك خارج اللعبة، لكن هناك إفلاس أخطر: الإفلاس الأخلاقي. المفلس في الثقة أشد خطرًا من المفلس في المال. فالذي يغشّ مرة قد يربح مالًا، لكنه يخسر سمعته، ومن يفقد سمعته يخسر رأس ماله الحقيقي. السوق بطبيعته لا يرحم؛ قد يمنحك فرصة للغش، لكنه سرعان ما يعاقبك بهجران الناس لك. هنا يصبح الإفلاس القيمي بداية لانهيار اقتصادي واجتماعي أيضًا.
الإنسان مخلوق مزدوج: يعيش بالمثال في خطابه، وبالمنفعة في سلوكه. يفاخر بالصدق، لكنه يناور حين تضيق به الحال، ويتحدث عن النزاهة، لكنه يبحث عن الطرق المختصرة للربح. هذا التناقض يذكّرنا أن الشعارات وحدها لا تكفي لبناء مجتمع متماسك. ما لم تتحول القيم إلى التزام عملي، ستظل مهملة. المقولة إذن ليست سخرية من السوق وحده، بل نقد للحياة كلها، لأنها تقول لنا بوضوح: عند أول اختبار حقيقي، لا يُقاس الإنسان بما يقول، بل بما يفعل.
لا نحتاج إلى النظر بعيدًا لنفهم معنى هذا القول. في أسواقنا العربية اليوم، نرى التاجر المسلم يبيع لجاره المسيحي أو اليهودي أو غير المتدين بلا حرج، والعكس صحيح. لكننا نرى أيضًا وجوه الغش والاحتكار واستغلال الحاجة. في التجارة الإلكترونية مثلًا، قد تُقدَّم منتجات رديئة بواجهة براقة، وفي الأسواق الشعبية قد يُحتال على البسطاء بالميزان أو بالكلمة المعسولة. في السياسة والاقتصاد كذلك، تُرفع الشعارات عن الوحدة والعدالة، لكن خلف الكواليس تتحكم الصفقات والمصالح. وكأن المقولة تكبر معنا من فضاء السوق الصغير إلى فضاء المجتمع كله: المصلحة هي التي ترسم الخطوط، لا الانتماءات ولا المبادئ.
المقولة التي تُنسب إلى فولتير هي في النهاية درس إنساني عميق. إنها تقول إن الدين أو الهوية أو الشعار لا يُختبر بالكلمات، بل بالمعاملة حين تُصبح المصلحة على المحك. والذين يفشلون في هذا الامتحان هم المفلسون حقًا، سواء امتلكوا المال أو فقدوه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات