23 ديسمبر، 2024 4:27 ص

الكاتب وجمر المسكوت عنه !

الكاتب وجمر المسكوت عنه !

احيانا تكون الكتابة عن الواقع السياسي العراقي اشبه بالكتابة عن الزنا بالمحارم , إذ يتعين على الكاتب ان يختار المفردات التي لاتخدش الحياء ولاتؤسس الى ثقافة شاذة يمارسها البعض من افراد المجتمع بالخفاء . ولأن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة الفاعلة لطرح الأفكار التي تبحث عن صيغة جديدة لتغيير اي واقع يشوبه الفساد , لذلك يتعين على الكاتب ان ينتقي الكلمات وكأنه ينتقي جمرها الخفيف إن لم يتحمل جمرها المتقد او شرارها المتطاير الذي من المحتمل ان يكوى بها على ايدي اطراف مناهضة لهذه الأفكار التي لاترغب بتسليط ضوءها الشديد عليها , وكأن امر اخراجها من مستنقع فسادها يعود شأنه الى اسيادهم الفاسدين وهذه هي المأساة .
والمأساة هنا معناها انهم يتجاهلون الأستسلام لرد الفعل الداخلي الذي يعبر عن الضرر الذي الحقوه بالمجتمع , وهذه حقيقة يجب ادراكها بأنفسهم , اما ان يدركها عنصر آخر بعيد عن مواجهة هذه الأضرار بشكل عملي فهو التناقض بعينه . لذلك فإن الكتابة تضع هؤلاء المتسببين بالمأساة امام مرآة اخطائهم ليروا بأنفسهم عيوبهم .
في فلم ” حظر تجول* ” وهي قصة لإمرأة قتلت زوجها من دون ان تفسر ذلك لأبنتها , يعبر عن رفض للإستبداد الذي يلغي الجهر بالجرائم الجنسية وخاصة جرائم الزنا بالمحارم او مواجهتها لكي لا يخضع المجتمع لثقافة السكوت عن كشفها. هذا الجانب المسكوت عنه هو الذي يصنع الجريمة .
في الواقع السياسي العراقي المسألة معكوسة , إذ ان الفاسد يعتبر كشف اعمال الفساد التي يمارسها من قبل المعارضين المحتجين هو بمثابة المحظور الذي لا ينبغي كسره من ايِّ احد بل وينبغي مواجهة من يقف ضده . أما المعارضون انفسهم فيرون – من المنطلق نفسه – ان ذلك الفساد هو نوع من انواع الاستبداد الذي يمارسه الفاسد وهو امر مسكوت عنه من قبل اطراف العملية السياسية وينبغي كشفه ومواجهته لكي لايكون ثقافة قائمة بالمجتمع أو بأيِّ مكوّنٍ في أيّةِ عملية سياسية مقبلة . فأي الطرفين على صواب ؟!
ليس القصد هنا هو الحكم على ثقافة المسكوت عنه ومعالجته بالقبح سواء من قبل رجال الفاسدين او من جانب فئة من المحتجين سواء كانوا مندسين او جوكرية كما نعتوا من قبل البعض . فهؤلاء جميعا يخضعون للقانون وهم فعلآ يتحركون امام انظاره والقانون لايعرف الحياء . والكل يعرف ان المجتمع العراقي يرفض القتلة والمندسين والجوكرية وكل اعمال التمرد التي تنطوي على التدمير والقتل والأختطاف والأضرار بالمجتمع , بل ويميل الى تسفيهها .
ان تشريح الواقع السياسي العراقي بالكتابة الموضوعية ليست موقفآ مريضآ من الكاتب أوغلضة منه أوذريعة للخارجين عن القانون ان تتقزز ارواحهم منها , بل ينبغي على صانع الفساد ان يتقبل قبحه الذي يصنعه لتتقزز نفسه منه لينشّط فيها غريزة النفور منه , أما ان يقوم بالهجوم على هذا وذاك بما تفرضه غريزة الخضوع لتكريس ثقافة المحظور المنحرف والدفاع عنه وكأنه من الحرمات ان تعارضه أو تكشفه امام الملأ , ليدفع الى خراب الحياة اولآ ثم الى خراب اليقين والأخلاق وكل شيء جميل ليبقى القبيح معولآ مسكوتآ عنه للتهديم الذي نستشعره ولا نحاربه , فهذا أمر لاترتضيه كل القيم السماوية .
وهذا ما جاء به فلم ” حظر تجول ” وبكل جرأة ليضع المجتمع والقانون في مواجهة مباشرة أمامه كما تفعل الكتابة التي لاتحترم وجود ايّ شائبة بالمجتمع , لأن الكتابة الموضوعية التي ينتمي اليها الكاتب هي ليست كابوسآ على السفهاء , بل دالة بالتفاصيل التي تحفظ شرف العراق وشعبه وهي قانون اخلاقي يضعه فوق الرؤوس السويّة وغير السويّة على حد سواء لبناء الإنسان والحياة الحرّة الكريمة .

* فلم من اخراج المصري امير رمسيس , يتناول جريمة أم مظلومة عارضت ثقافة الحظر على كشف المسكوت عنه المنحرف فدفعت ثمن كسرها له غاليآ .