أودّ أن أقرّر أولا أنني لست ضد الحرية الشخصية، بل على العكس تماما، للناس حريتهم في التصرف، وفيما يلبسون، ويشربون ويأكلون. ونزع الحجاب أو ارتداؤه ليس قضية مهمة جدا بحد ذاتها فهي لا تعدو كونها اختيارا شخصيا غير مجرّم، ولا يُعاقب عليه القانون، وبإمكان المرء ألا يعطيه أكبر من هذه المساحة لولا ارتباطه بالمسألة الثقافية والدينية على نحو مغلوط ومبالغ فيه.
لا أتعامل شخصياً مع هذه المسألة بأي مشاعر إضافية، فللمرأة أن تلبس ما شاءت، كما الرجل، إنّما الكتابة عن لباس المرأة يأخذ طابعا ثقافيا ودينيا؛ لأنّ الخيارات فيه مفتوحة على مؤشرات الأفكار والاعتقادات، لا يحملها لباس الرجل في الغالب، فالرجال كلهم على هيأة واحدة تقريبا، لا خيارات متعددة أمامهم، ويبدو لباسهم كاملا يغطي جسمهم كله. بل كلما كان لباس الرجل كاملا، نُظر إليه أنه أكثر أناقة، فلباس “الطقم الكامل” مع ربطة العنق، فهذا أكمل حالات لباس الرجل العصري أناقة وجمالاً، ورغبة لدى الرجال والنساء على السواء، ولذلك تعرّض الممثل المصري محمد رمضان إلى موجة من الانتقادات وهو يظهر عاري الصدر. إنها مسألة خارجة عن المألوف في لباس الرجال، ولم يشكل حالة ليكتسح (الموضة) فيكون “ستايلا” لغيره من الشباب.
إن اختلاف الاعتبار بين اللباسين لا يأخذ حيّزا في التفكير الثقافي الديني في كتب الفقه الإسلامي وفي القرآن الكريم، فلا تجد تلك التفاصيل للباس الرجل، كما هي التفاصيل المتعلقة بلباس المرأة، إذ يجب عندهم ألا يشفّ ولا يصف، ويغطي كامل البدن، ولغطاء الرأس تفصيلات تخصّه وحده: “وليضربن بخمرهن على جيوبهنّ، ولا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها”، فلا يوجد آية في القرآن الكريم عن لباس الرجل تشبه آية لباس المرأة. وأما آية “يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد” فجاءت لانتقاد ما اعتادت عليه العرب في الجاهلية من التعري وإظهار عوراتهم، وهم يطوفون بالبيت الحرام، فالخطاب فيها عامّا لبني آدم كلهم، فالآية في سورة الأعراف، وهي سورة مكية.
لم يعتد الرجال الخروج وهم يكشفون نصف الجسد، أو أن ذلك اللباس الذي يرتدونه فيه مواصفات زائدة عن الحدّ المتعارف عليه، إنما النساء ينصبّ التفكير لديهن على كيف يكون لباس إحداهنّ مميزا، لافتا للنظر في الحفلة أو في المناسبة المقصودة أو في اللقاء التلفزيوني، واستحوذ هذا الموضوع كثيرا على الأخبار التي ترصد حياة النجمات السينمائيات والمطربات ولباسهنّ في المهرجانات المتعددة، وأثرنَ في أحيان كثيرة حفيظة الناس والمتابعين، إذ كنّ يرغبن في إبداء زينتهنّ أكثر مما ظهر منها، فبدت النهود المكوّرة، والأرداف المكتنزة والسياقان اللامعة، والأعضاد الوردية، والمتون المكشوفة، وتوخين أن يكون اللباس ضيقاً واصفا شفّافاً وشافّاً عما تحته، وتفنن مصممو الأزياء- الذكور منهم تحديداً- على أن يكون اللباس مثيرا ومبهرا للجمهور، كما حدث على سبيل المثال مع رانيا يوسف ومعاركها الافتراضية على لباسها الموصوف إعلاميا بالفاضح، ولباس لاعبات جمباز جزائريات اللواتي ارتدين البوركينو خلال مشاركتهنّ في فعاليات الألعاب المتوسطية التي أقيمت في مدينة وهران الجزائرية في شهر حزيران عام 2022.
لقد انتبه الشاعر العربي إلى لباس المرأة، وذكره في شعره، وكان يلاحظ أعضاء النساء من فوق تلك الملابس، فيصفها ويتمتع بالنظر إليها، أو ربما انتقد وضعيّة خاصّة بها كقول الشاعر في وصف لباس إحداهن:
لحدّ الركبتينِ تشمّرينا
بربّك أيّ نهر تعبرينا
كأنّ الثوبَ ظلّ في صباحٍ
يزيدُ تقلّصاً حيناً فحينا
لكلّ هذا التاريخ الحافل بالثقافة والأفكار ارتبط لباس النساء بالملاحظة والكتابة عنه قديما وحديثاً، وسبق وناقشت جانبا من هذه الظاهرة في مقال بعنوان “معوقات الثقافة في فلسطين”، وأفردت لمسألة الحجاب مساحة من الحديث ضمن المظاهر العلمانية في الثقافة الفلسطينية والعربية دون الخوض في الأسباب.
أعود إلى المسألة مرة أخرى لبحثها وبيان ما أظنه من أسباب نزع الحجاب عند مجموعة من الكاتبات، وأخريات يرغبن في ذلك لكنهن لا يستطعن فعله، وقد شكلن ظاهرة- على الأقل- في الوسط الثقافي الذي أعرفه وأتعامل معه، ففي هذه الدائرة تعرفت إلى أديبات نزعن حجابهن، وقد عرفتهن محجبات.
إن بحثي هذه المسألة والإشارة إليها ليس له أية علاقة بالتقييم أو التصنيف أو اتخاذ المواقف أو التقويم الخلقي في الحكم على المرأة من خلال لباسها، حاسرة أو محجبة، فلا يحمل إطلاقاً أيّ تصور مسبق عنها أخلاقياً، فالموضوع ليس له ارتباط بالسلوك الجيد أو غير الجيد لأولئك النساء وغيرهن ممن لا يرتدين الحجاب، ولا أنحاز إلى أيّ نوع من اللباس، فالمرأة حرّة حرية كاملة في اختياراتها، والمحجبة والحاسرة عندي سواء لا أفضل واحدة على أخرى، فلا أنتقد الحاسرة، كما لا أعلي من شأن المحجبة، إنما أمر الكتابة مردة الجودة في طرح الأفكار وفي شعريتها التي جاءت فيه في النص المدروس أو المقروء للمتعة أو الفائدة، وقد كتبت عن أديبات كثيرات وقرأت أعمالهنّ دون أن يكون الحجاب عاملا حاسما في الكتابة أو في القراءة.
تتصل هذه المسألة- على العموم- بالصدق مع الذات، إذ كان الحجاب في كثير من الحالات نتاج تدين شعبي تقليدي وعادات اجتماعية وجدت المرأة الكاتبة ذاتها فيه، فشبّت محجبة، ولم تكن الناحية الدينية الشرعية هي الدافع الأساسي لذلك، وكل ما تقوم به من شعائر هي تقليد مجتمعي لا أكثر، مثلها في ذلك مثل الرجل، فهؤلاء لا يعنيهن بحث هذه المسألة، إنما وجدن أنفسهن كاتبات وينشرن في الصحف والمجلات ولهن علاقات مع كتاب وكاتبات أخريات، ويحضرن مهرجانات ومؤتمرات وأمسيات وسهرات ويشاركن فيها، فدخلن في أجواء لا دينية وعلاقات صداقة متنوعة، وعلاقات غرامية وجسدية، فوجدن أن الحجاب معيق ومعيب في ظل هذه الحالة، فخلعنه ونزعنه دون أسف. ولا يخفى أن الذكور الشهوانيين ممن يكتبون قد شجعوهن على هذا الفعل، فلقين الثناء الحسن على فعلهن وعلى جمالهن.
إن التنافس بين النساء على إثبات الجمال أو الحضور أو الدخول في علاقات مع أولئك الذكور يأخذ جانبا مهما عند كثيرات منهنّ في نظري من الإقبال على هذا القرار، فزاد بينهن المبالغة في التأنق والتعري رغبة منهن في إغواء الذكور والاستيلاء عليهم.
كما أن للانتقال من مكان إلى آخر دورا في هذه المسألة، فانتقال الكاتبة للعيش في المدينة بعد أن كانت تعيش في الريف جعل بعضهن يعشن قلق الازدواجية، فتلبس الحجاب في الريف وتنزعه في المدينة، أو تلبسه في بلد كالسعودية أو إيران أو السودان وتنزعه في فلسطين والأردن وباريس وأمريكا.
لا يمثل الحجاب عند هؤلاء شيئا سوى أنه من متطلبات النظام العام، على عكس النساء نسويات التفكير فإنهن ينظرن إلى الحجاب على أنه علامة تدل على التخلف والرجعية والانغلاق والاستعباد، ويحمل تاريخا مريرا من التسلط والاضطهاد، ولذلك ارتبط نزع الحجاب في مصر بمسألة تحرر المرأة، فتوافق النضال ضد المستعمر بالنضال ضد الاستعباد الذكوري الديني فكان نزع الحجاب دليلا على هذا التحرر الاجتماعي الذي سيقود إلى التحرر الفكري والوطني والخلاص من الاستعمار. ومن يعود إلى كتاب محمد محمد حسين “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر” سيرى أن المؤلف يقف عند هذه المسألة، ويمنحها قليلا من الحديث.
هذه الفكرة هي أكثر فكرة غبية مرتبطة بالحجاب، وليس للحجاب علاقة بانفتاح الفكر وانغلاقه، كما أن نزعه كذلك، وليس له علاقة بالإبداع من عدمه، وليس ثابتا أن الحجاب يحجب القدرة على التفكير والإبداع- كما كان يقول لي صديق يساريّ الاتجاه- بدليل أن مبدعات كثيرات في مجالات غير أدبية وكذلك أدبية ونقدية يرتدين الحجاب بل والنقاب أيضا، ووجود الحجاب وعدمه ليس له أي مؤشر إيجابي أو سلبي في هذه المسألة، فلو كان الأمر بهذه البساطة المخلة بالتفكير المنطقي وطبيعته لكان نزع المرأة لباسها جميعه أدعى لتكون أكثر إبداعاً وعبقرية، فلماذا إذاً ينحصر الحديث بالحجاب فقط؟
تومئ الكلمتان (نزع وخلع) إلى شيء من التمرد والعنف، ردا على تسلط سابق مفترض أو حقيقي، وعلى ذلك تكتسب ظاهرة خلع الحجاب لدى المرأة الكاتبة المحجبة ردا طبيعيا على هذا التسلط، ولذلك كثير من الكاتبات اللواتي تحررن من أزواجهن بالطلاق أو الموت أو السفر نزعن عنهن الحجاب إمعانا في التحرر من كل سلطة دينية أو اجتماعية، وترافق مع ذلك أحيانا في بعض الحالات المبالغة في نزعة التحرر، كالظهور بلباس البحر بمرافقة صديق أو لباس النوم أو الملابس الداخلية، أو في السرير أو تظهر إحداهن وهي تشرب المشروبات الروحية أو تدخن، عدا إقبالها على الكتابة الأيروسية المكشوفة بنهمٍ غريب، والإعلان عن تبينها أفكاراً إلحادية، فتقبل على التظاهر بقراءة كتب الفلسفة، وأكثر كتاب فلسفي رائج بين هؤلاء الكاتبات، كتاب “هكذا تكلم زارادشت” لنيتشه، أو يقبلن على قراءة روايات الماركيز دوساد لما فيها من عنف جنسي مرضي مؤلم. بل يصبح الأدب المترجم هو الأدب المحبب لهؤلاء الكاتبات، فيكفرن بالكتّاب العرب، والمؤلفات العربية، إن إحداهن تحدثت في ندوة عن الكتابة بصحبة كتاب آخرين لم يطاوعها تاريخ الإبداع العربي الزاخر الممتد لأكثر من ألفي عام أن تذكر كاتبا عربيا واحدا مهماً، ليكون إلى جانب عملاقتها من الأدباء الأجانب، ففي خمس دقائق أو أقل تحدثت فيها، سردت ما لا يقل عن أسماء عشرة كتّاب أجانب.
هل للأمر علاقة بالفلسفة أو الأدب المترجم؟ لا أدري. إنما لا بدّ من أن تعاقر الأديبات الفلسفة وكتب الفلسفة والروايات الموصوفة بالعالمية كعلامة ظاهرة من علامات التحرر الديني القائم على التحرر من الحجاب، ليكون ذلك أيضا علامة على التغريب والإيغال في نزعة التخلص من كل ما يربط أولئك الأديبات بالماضي، حيث كنّ من المحجبات، كأنّ عليهنّ التكفير عن تلك المرحلة بالمزيد المضاعف اللافت للنظر في التخفف من اللباس، والغرق في الملذات الظاهرة، والانجرار وراء التثاقف الزائف.
إنّ هذا النوع من الأديبات مثير للشفقة حقّاً، فهنّ على ما يبدو ما زلن في صراع مع قديم التربية وأفكارها، فتبالغ في قهر ذاتها، لعلها تصل إلى نوع من التصالح وحسم الصراع، فليس غريباً أن تصاب إحداهنّ بالجنون أو بالاكتئاب، لأنّها بالفعل داخلة في معركة شرسة مع ذاتها التي لم تجدها في هذا السلوك، كما كانت تطمح وتظنّ، ولا تستطيع العودة إلى ما كانت عليه، فهذا بالنسبة لها وللوسط الثقافي المتربص بها نكوص على الأعقاب وردة إلى التخلف وانتكاسة فكرية وعودة إلى أحضان الرجعية والبؤس والظلامية في التفكير والسلوك.
في الحقيقة تصاب أولئك الأديبات بخيبة أمل كبيرة وحادة؛ إنهن ينتقلن من أزمة، ومن إمكانية التصالح مع الذات ليكنّ أكثر اتساقاً مع أنفسنّ، وإذ بهنّ يقعن في حبائل الأمراض الثقافية التي ليس لها شفاء، وهذا الأمر نفسه هو الذي يجعل تصرف الأديبات اللواتي كنّ محجبات ونزعن الحجاب ظاهرة عصيّة على التفكيك والفهم، فلم يتم التعامل مع المسألة كلبس الجينز أو حذاء الكعب العالي أو استخدام الماكياج، بل أخذ أبعاداً أكبر، فالحجاب أخذ سمة الرمزية أو الأيقونية، ولهذا فهو من وجهة نظري ظاهرة لافتة، فهل ستكون يوما ما محلّ بحث علم الاجتماع الثقافي لباحث جريء يرتاد هذه المنطقة المدببة لعلّه يكشف عمّا وراء هذه الظاهرة من نزعات أو ميول أو دوافع؟ أم أن المسألة برمّتها لا تستحقّ كل هذا العناء من التفصيل والبحث والتجريد، وأنا أعطيتها أكثر مما يجب؟
ربما سيقول بعض القرّاء، وبعض الكتّاب، وبعض الكاتبات شيئاً من ذلك. ولكنْ، ألم يربط القرآن الكريم مأزق آدم وحواء ومأساتهما في النزول من الجنّة عقابا على أوّل الخطايا في العصيان باللباس، فقال سبحانه وتعالى: “ينزع عنهما لباسهما ليريَهما ما ووريَ عنهما من سوءاتهما”؟ ألا يعدّ هذا مؤشّرا ذا دلالة مهمّة على أهميّة بحث اللباس وكيف يمكن أن يكون؟ وما يرتبط فيه من تصوّرات تقترب أحيانا من التصورات العقدية، كما جاء في الحديث النبوي: “ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا”، لاحظوا كيف ارتبط اللباس بالمصير الآخرويّ، ونزل منزلة الاعتقاد، فحكمَ الحديث على هؤلاء النساء بالحرمان من الجنة، كالملحدين والمجرمين والكفرة.
كثيرة هي الأسئلة، إنّما الإجابات والأفكار أكثر، ولا شيء قاطع ألبتة في هذه المسألة، فمن شاءت أن ترتدي الحجاب فلتفعل، ومن أرادت نزعه فلتفعل، ولا يحقّ لإنسان أن يحاسب إنساناً على فعله، إنما هي أفكار يتردد صداها في النفس لعلها تجد من يؤيدها أو ينقدها أو ينقضها، وكل شيء جائز ومسموح به، بل ومشجّع عليه عندي بلا أيّ ضيق أفق أو ضجر أو عصبية كاذبة مدّعاة، بعيداً عمّا أحبّ أو أكره من اللباس أو التصرّفات والسلوكيات.