19 ديسمبر، 2024 11:08 م

(( انتشرت وحدتنا الطبية العسكرية ( وحدة الميدان الطبية ) على مساحة مربعة من الأرض في وسط الصحراء الموحشة الخالية من الحياة الطبيعية سوى بضعة جنود منتشرين هنا وهناك جاهزين لكل حالة طارئة الممتدة بين حفر الباطن السعودية وجنوب البصرة حيث كنا نفترش الرمال نهارا في داخل المواضع والسواتر الترابية كأننا نبني قبورنا ونحن أحياء وكلما زاد عمق الموضع زاد الأمان فيه . أسدلت السماء ستارها الحالك في ظلمته على الأرض ورمالها الناعمة للتواري قرص الشمس البرتقالي بمنظر مهيب ومخيف وهي تسلمه إلى حقيبة الأفق البعيد لصباح آخر ونهار جديد حيث يبدأ دوي أطلاق النار وأصوات المدافع والقنابل تدك الأرض من تحت أقدامنا وهي تخلع القلوب من مكانها بين الحين والآخر كنا نموت في كل لحظة والشهادة لا تفارق حناجرنا لها طعم مرارة الموت على لساننا مستعدين للموت وأزيز الطائرات بأسرابها تشق عنان السماء ليلا ونهارا لا تكاد أن تهدأ ولو لساعة واحدة ذهابا وإيابا . الظلام شديدا في ساعات الليل حيث لا نكاد نرى يدنا وهي أمام وجهنا . أن المسير إلى واجباتنا الليلية للحراسة نتلمس أسلاك الهواتف السلكية الممتدة على الأرض بشبكتها العنكبوتية بين المواضع والمقر تأخذنا إلى نقاط الحراسة المتوزعة على حدود وحدتنا الطبية . كانت الساعة الثانية من فجر أحدى الليالي الموحشة والمخيفة تقشعر لها الأبدان وتصك معها الأسنان من البرد القارص من كانون الثاني لعام ( 1991 ميلادية ) أسقطت طائرات التحاف الدولي ما تيسر من قذائفها الصاروخية والحاويات العنقودية المحرمة على وحدتنا بالتحديد حيث الأصوات أخذت تخترق المسامع وتصمها والأضواء تعمي الأبصار من شدت الانفجار وألسنة النيران تأكل كل شيء كأن الجحيم  تلقي بشررها علينا ولظاها يصهر ما تحتها من بشر وبدر . والحرائق في كل موضع يقع عليه بصرنا والصراخ يتعالى وساد الهرج والمرج بين المقاتلين والضباط الناجين من هول الواقعة وهذه الحمم السماوية . لقد بلغت الأرواح الحلقوم وتجمدت الدماء في العروق وتوقفت الأنفاس في الصدور من الحركة من شدت الرهبة والخوف لهذا المنظر الرهيب الذي لم نشهده سابقا بعدها مزق السكون المطبق أصوات الجنود المتعالية لطلب النجدة والمتحصنين داخل المواضع مع الشهداء والجرحى وأكداس التراب المتراكم فوق الجثث والأجسام وتلك الجثث المتناثرة الأوصال أنه لمنظر بشع جدا كأن القيامة قامت ونهضت مبكرا قبل موعدها ووضعت الموازين وجفت الأقلام ونشرت الصحف للحساب . أن هذا المنظر الذي لن أنساه أبدا فهو محفور في الذاكرة لا يوصفه قلم ولا يُخط على قرطاس من الألم والقسوة أستذكرها وأنا أسأل نفسي لماذا ولِمَ كل هذا ونحن نفقد الأحبة والأصدقاء في كل موقعة من هذه الحروب المُدَمِرة التي خضناها فالأجوبة بقية مدفونة تحت طيات كتاب الحروب وصانعيها والمتاجرين بها وما نحن إلا وقودا لهذه الأتون المستعِرة في بلداننا بين الحين والآخر )

أحدث المقالات

أحدث المقالات