ما أكتبه ليس مقالات… وإن بدا شكلها كذلك.
إنها حلقات مترابطة في خارطة طريق متكاملة لبناء الدولة والإنسان والمجتمع، ولقيادة المرحلة المقبلة في العراق برؤية جديدة تتجاوز المقولات المستهلكة، وتعيد فهم الواقع بعيدًا عن الانفعالات والاصطفافات.
ولهذا، فإنني أطلب من كل مهتم بالشأن العراقي أن يقرأ هذه النصوص بتمعّن، وأن يتتبع خطوطها لا كمواقف مجتزأة، بل كمشروع فكري وسياسي متكامل، يراد له أن يكون بديلاً حقيقيًا عن هذا الخراب المديد.
في العراق، ثمة فرضية راسخة تُعاد بصيغ مختلفة، وتتسلل إلى الخطاب السياسي والشعبي على حد سواء:
أن القيادة للسنة… والمعارضة للشيعة.
قد تبدو الفرضية صادمة لأول وهلة، لكنها مع ذلك تعبّر عن بنية عميقة تشكّلت عبر التاريخ، وتجسدت في لحظة ما بعد 2003 بوضوح سافر، حين استلم الشيعة – لأول مرة – مفاتيح السلطة، بينما ظلت روح المعارضة تسكن في وجدانهم وتتحكم في سلوكهم، فيما بقيت القيادة – كمفهوم سياسي وإداري وأمني – أكثر سلاسة لدى خصومهم، وأقصد هنا القيادات السنية والكردية.
فهل هذه فرضية واقعية؟ أم مجرد وهم ناتج عن المظلومية والعاطفة؟
وما جذورها؟ ولماذا تتكرر في كل مشهد؟
وهل يمكن للعراق أن ينهض في ظل هذه الثنائية المقلوبة؟
أولًا: بين التاريخ والتكوين العقائدي
منذ مقتل الإمام الحسين، تشكل الوعي الشيعي على فكرة المظلومية والخروج عن السلطة، حتى أصبحت “السلطة” نفسها مرادفة للغصب والانحراف.
في المقابل، أنتجت أغلب المدارس السنية – السياسية والفقهية – مفهوم “طاعة أولي الأمر”، وتكريس مفهوم الاستقرار حتى في ظل الظلم، ما جعل قبول الحكم جزءًا من العقل الجمعي السني، ورفضه جزءًا من اللاوعي الشيعي.
ولم تكن المعارضة في التجربة الشيعية مجرد خيار، بل عقيدة.
ولم تكن القيادة في التجربة السنية ضرورة، بل إرث تاريخي سهلته الجغرافيا وتحكمت به القوة.
ثانيًا: الموقع الجيوسياسي ودور الخارج
العراق، بحكم موقعه بين إيران والجزيرة وبلاد الشام والجزيرة وتركيا، كان دائمًا ساحة تجاذب.
ولأن السنة يرتبطون جغرافيًا بالعالم العربي السني، فقد وجدوا دعمًا خارجيًا ممن يرى فيهم امتدادًا استراتيجيًا.
بينما ظل الشيعة أسرى الجغرافيا الإيرانية، التي استخدمتهم مرات، وأضعفتهم مرات، وفرضت عليهم وصايتها في أغلب الأحيان.
بعد 2003، أرادت أمريكا أن تُسلم الحكم لشيعة العراق، لا حبًا بهم، بل لأنهم الطرف الأضعف الذي لا يشكل تهديدًا على الأمن الإسرائيلي أو المحور الخليجي.
وهكذا تولى الشيعة الحكم ولكن بقيادات تفكر بالسلطة وليس الدولة وتسعى لتعزيز نفوذها وحل مشاكلها من دون النظر للمجتمع واحتياجاته، بينما بقيت القيادة الحقيقية في غرف خارجية، أو عند أطراف كردية وسنية تتقن فن التفاوض واللعب على الحبال.
ثالثًا: البنية الاجتماعية وأثرها على نمط الحكم
في الاجتماع السياسي السني، تغلب النخبوية والعقل العشائري، مما يخلق مساحة للقيادة وصناعة القرار.
بينما يغلب على الاجتماع السياسي الشيعي طابع التبعية والشخصنة والتقديس، مما يجعل القائد تابعًا لجمهوره أو لمراجعه، لا قائدًا لهم.
وهذا يُنتج زعيمًا شيعيًا مترددًا، يراعي الجميع، ويخشى التفرد، حتى لو كان مقتنعًا بحقيّة موقفه.
بينما يُنتج زعيمًا سنيًا مباشرًا، حاسمًا، لا يتردد في اتخاذ القرار.
وهذا ما يفسر لماذا لا تزال القيادات الشيعية تعيش أزمة اتخاذ القرار، بينما تتقدم القيادات السنية – رغم ضعفها العددي – بمبادرات جريئة وذكية أحيانًا.
رابعًا: من منطق الدولة إلى عقدة المعارضة
حين جاء الشيعة إلى الحكم، لم يأتوا بمشروع دولة.
جاءوا بخطاب مظلومية، وبسلوك معارض، وبذهنية انتقامية وإن تم تغليفها بالشراكة ولولا الضغوط الخارجية والواقع الجيوسياسي لكان لدينا دولة فاطمية أخرى.
لذلك رأينا كيف تحولت السلطة إلى غنيمة، وكيف أنشأوا دولة داخل الدولة، ومليشيات فوق القانون، وأعادوا تدوير فكرة “المظلوم المنتصر” بشكل مأساوي.
أما السنة، فقد وجدوا أنفسهم لأول مرة في موقع المعارضة، لكنهم أتقنوا اللعبة سريعًا، وتحول بعضهم إلى ممثلين بارعين في النظام، يفاوضون باسمه في الخارج، ويعارضونه في الداخل، ويجمعون بين السلطة والضحية بمهارة.
فهل يمكن قلب المعادلة؟
السؤال الأهم ليس لماذا حدث ذلك، بل كيف نخرج منه.
إن إعادة بناء الدولة العراقية يتطلب أولًا أن نكسر هذه الثنائية.
فالقيادة ليست امتيازًا طائفيًا، بل مسؤولية وطنية.
والمعارضة ليست قدرًا مذهبيًا، بل وظيفة مؤقتة في سياق التوازن السياسي.
الشيعة بحاجة إلى أن ينتجوا قائدًا شجاعًا، عقلانيًا، يؤمن بالدولة لا بالطائفة، ويتخذ القرار دون إذن من الجمهور أو الفقيه.
والسنة بحاجة إلى أن يتخلصوا من وهم الضحية الجديدة، ويشاركوا في البناء لا في التهديد الدائم بالانسحاب أو حتى الانفصال.
إنها ليست دعوة لإعادة توزيع الأدوار، بل لإعادة تعريفها.
فالقيادة والمعارضة لا تُوزع وفق الطائفة، بل وفق المشروع.
ومن يملك مشروع الدولة، هو من يحق له أن يقودها، مهما كان مذهبه.
ومن لا يملك سوى الماضي… فليجلس في مقاعد المعارضة حتى يتعلم.
…
[الرسالة مقتطعة] عرض الرسالة بالكامل