ناقش اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، الذيأجري الخميس الماضي عن طريق تقنية الفيديوكونفرنسبين رام الله وبيروت، قواعد الاشتباك مع الاحتلال، بما فيذلك تفعيل العاملين الإقليمي والدولي لمواجهةمخططات تصفية القضية الفلسطينية.
وأكد المجتمعون رفضهم المطلق لجميع المشاريعالهادفة لتجاوز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني،وصدر البيان الختامي للأمناء، الذي دان مظاهر التطبيعمع الاحتلال الإسرائيلي كافة، واعتبرها “طعنة في ظهرالشعب الفلسطيني“.
بعد قراءة البيان بإمعان، عاد بي مصطلح “الطعنة” إلىالتعبير الذي استخدمته للمرة الأولى في فبراير من العام1985، حينما أبرم الزعيم الراحل، ياسر عرفات، رئيساللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مع الملكحسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية، اتفاق عمان، الذينص على ممارسة الفلسطينيين حقهم الثابت في تقريرالمصير حينما يتمكن الأردنيون والفلسطينيون من تحقيقالانسحاب الإسرائيلي ضمن “الاتحاد الكونفدرالي العربي” المزمع إنشاؤه بين الأردن وفلسطين.
كنت في تلك الآونة ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية فيالاتحاد السوفيتي، حيث عقدت مؤتمرا صحفيا في اليومالتالي لتوقيع القيادة الفلسطينية لاتفاق عمان، أعلنتفيه أن هذه الخطوة تعتبر “طعنة في ظهر الشعبالفلسطيني“، حيث ينسف الاتفاق كل الجهود الدولية التيبذلت لتثبيت حق الشعب الفلسطيني في العيش بدولتهالمستقلة، وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثلالشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
قلت آنذاك أن اتفاق عمان إنما يستبدل الدولة المستقلة بـ“كونفدرالية” مع المملكة الأردنية الهاشمية، ويستبدلمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيدللشعب الفلسطيني، بـ “وفد أردني فلسطيني مشترك“،ويستبدل التمسك بالمؤتمر الدولي تحت إشراف هيئةالأمم المتحدة طريقا للتوصل لحل عادل وشامل للقضيةالفلسطينية بـ “مفاوضات ثنائية مباشرة مع إسرائيل“،وهو ما يعني صفقة منفردة، بينما كنت أرى ضرورةالتمسك بالمؤتمر الدولي.
حينها، تركت بإرادتي موقعي الرسمي الدبلوماسي فيموسكو، لاختلافي مع القيادة الفلسطينية التي رأيت أنها“طعنت” الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ومسيرتهالنضالية والجهود الدولية للأصدقاء دعما لهذا النضال“في الظهر“.
لم تمض أشهر قليلة، حتى أدركت القيادة الفلسطينيةالخطأ الفادح الذي ارتكبته، فألغت اتفاق عمان.
ثم كانت المرة الثانية التي استخدمت فيها نفس التعبير،حينما كتبت مقالا نشر في صحيفة “إزفيستيا” السوفيتية،لسان حال الحكومة السوفيتية آنذاك، انتقدت فيه تأييدالقيادة الفلسطينية للغزو العراقي للكويت واحتلالأراضيها (2 أغسطس 1990- 26 فبراير 1991)، واعتبرته“طعنة في ظهر الشعب الفلسطيني“.
وبعد “الطعنة شبه القاضية” التي تلقاها الشعبالفلسطيني والقضية الفلسطينية بتوقيع القيادةالفلسطينية اتفاقية أوسلو عام 1993، برعاية أمريكية، وبلاأي ضمانات سواء من هيئة الأمم المتحدة أو من قبلالدول الراعية لعملية السلام وعلى رأسها روسيا والصين،اللتان تصران دائما على موقفهما المبدئي، المؤيدللحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني خلافا للدولالعظمى الأخرى، بعد تلك الطعنة أصبح الشعبالفلسطيني اليوم معرضا للطعنات تلو الطعنات التييتلقاها أحيانا من الأخوة والأهل قبل الغرباء.
انقطعت آنذاك عن القيادة الفلسطينية زهاء ثمانيسنوات، إلا أن حبي للأرض والوطن، ورغبتي في الإسهام بمايمليه علي ضميري تجاه أبناء جلدتي، وفضولي للاطلاععن قريب مما سيحدث من تطورات في مستقبل القضية،دفعني إلى الموافقة على الدعوة التي وجهها الرئيسالراحل، ياسر عرفات، لشخصي المتواضع، لأكون ضمنوفده العائد إلى أرض فلسطين.
عدت مع الرئيس عرفات، وكلّفني فورا أن أضع خطةميدانية، للمساعدة في تطوير قطاعات التجارة والصناعةوالزراعة للضفة الغربية وقطاع غزة. وعلى مدار أشهر ثلاثةمن دراسة الوضع الميداني، واللقاء مع رجال الأعمال،ممن يمثلون مختلف القطاعات، ودراسة الأوضاع والقيودالجديدة التي ستفرض على أنشطتهم في إطار بنود اتفاقيةأوسلو، طلبت لقاء الرئيس عرفات مع 40 من ممثلي هذهالقطاعات، وقدمت تقريرا مفصلا عما شهدته من أوضاععلى الأرض أمام الجميع بحضور الرئيس الفلسطينيشخصيا.
أعلنت ساعتها وما لا زلت أؤمن به حتى اللحظة، وتحققتنتائجه بعد حين، وهو أن أوسلو لم تكن سوى فخ نصبللفلسطينيين، و“ستكون” سببا في خلافات حادة بينالقيادة الفلسطينية، والعائدين من الخارج، وبين الشعبالفلسطيني المقيم تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي،و“ستكون” عواقب الاتفاقية كارثية على مسيرة النضالالفلسطيني. بعد كل هذه السنوات حدث بالضبط ما تنبأتبه وقتها، وها نحن نرى اليوم الانقسام الفلسطينيوالغياب التام لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتشكيك فيشرعية القيادة الفلسطينية على الصعيد الفلسطينيوالعربي والدولي، ولم نعد نملك من أمرنا سوى الدعاءمن الله العلي القدير أن يستر الحال في القادم من الأهوال.
لست متفائلا باجتماع الأمناء العامين للفصائل، لأنهم،وخلال عام ونصف مضوا، لم يستغلوا فرصة مبادرتين،طرحتهما موسكو لاستضافتهم من أجل تجاوز الخلافاتواستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وأقولها بصراحةإن الانقسام الفلسطيني هو ما مهّد لصفقة القرن، وهو ماأضعف الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية،وهو تحديدا ما يمثّل “طعنة” مؤلمة “في ظهر الشعبالفلسطيني والقضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني“.
السؤال المطروح الآن، ما الذي يمكن أن تقدمه اللجنةالمشكّلة من تصور عن إمكانية استعادة الوحدة، وما هوذلك “الأمر الغامض” الذي نحتاج لـ 5 أسابيع كي تضع لهاللجنة “تصورا” يسبر أغوار تحقيق البرنامج الوطنيلأهداف النضال الفلسطيني؟ يدهشني كذلك تسمية اللقاءبـ “التاريخي“!
لقد وصل مستوى النضال الفلسطيني إلى حد أصبحمصطلح “الحدث التاريخي” يستخدم لوصف تشكيل لجنةلاستعادة الوحدة الفلسطينية، أو اجتماع للقياداتالفلسطينية، لإعلان أنه “لا دولة في غزة ولا دولة بدونغزة“. أين حمرة الخجل أيها الرفاق؟
ترى هل يدرك القادة الفلسطينيون وجود قرار دولي ثابتومؤكد صادر عن هيئة الأمم المتحدة يحدد ما هي الدولةالفلسطينية؟
لا أريد الخوض في تفاصيل الأضرار التي تتحملها القيادةالفلسطينية في مسيرة النضال الفلسطيني، وأتوسم أنتكون الأسابيع الخمس المقبلة إيجابية على أية حال،وأتمنى من أعماق قلبي أن أكون مخطئا في نظرتيالتشاؤمية للوضع.
ختاما، أنا على يقين أن دولة الإمارات العربية المتحدة،التي قدّمت فرص عمل لـ 300 ألف فلسطيني، وغيرها منالدول العربية، سوف تستمر في دعم نضال الشعبالفلسطيني، كما عودتنا، حتى تتحقق طموحاته في التمتعبدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وأتمنى منالقيادة الفلسطينية أن تتخذ مواقف متزنة ورزينة، مهماكانت الظروف، وألا تتدخل في شؤون السياسات الداخليةوالخارجية للدول، وحقها الكامل والمشروع في اتخاذقراراتها السيادية كما يتراءى لها.
* سفير فلسطين في روسيا سابقا