جدنا حمورابي وضع القوانين لكي ينتصر على النوازع الغابية المطمورة في النفس البشرية , وأراد أن يكون الحكم بالقانون ليقضيَ على مفهوم وسلوك الحكم للأقوى , ولذلك وضع في مسلته الموسوعية الأصيلة مجموعة من الضوابط والقواعد والمعايير , التي يتوجب العمل بموجبها لكي يسود العدل ويرتقي البشر إلى جوهر إنسانيته , ويمتلك الفرصة للتعبير عن قدرات الخير فيه , لأن البشر ينزع إلى إطلاق الشرور لأنها أسهل وأسرع وذات طاقة أكبر.
وبعد أن دارت القرون والسنون بمئاتها وآلافها , تجدنا في المكان الذي إنطلق منه القانون نقتل القانون ونرفع رايات القوي يحكمنا , وله الحق المطلق بالتصرف بحقوقنا وممتلكاتنا ومصادرة ثرواتنا , ولا نستطيع فعل شيئ سوى أن نتبجح بكلمة “فساد” , التي لا تعني شيئا سوى مزيدا من النهب والسلب والإستهتار بحقوق المواطنين , بل وصف الشخص بأنه فاسد تبدو وكأنها تعبير عن شجاعته وقوته وكونه فوق القانون بل هو أبو القوانين , فينال هيبة ومكانة متوجا بفساده المؤزر من عمائم المرائين بدين.
وأوجدنا أقوياء بإرادتنا المسلوبة وعقولنا المعطوبة , وتبعيتنا المرهوبة , وخنوعنا للمتاجرين بوجودنا , وبإستلطافنا للظلم والقهر والحرمان , وسكوتنا على الضيم والإذلال المبرمج الذي فتك بكل بشر إنسان.
فنحن في قرارة أنفسنا نريد القوي أن يحكمنا وليس القانون , لأننا عززنا هذا السلوك ووفرنا له المسوغات الكافية لتطويره وإستفحاله , وتحوّله إلى قيمة إجتماعية ودينية تستحق التقدير والتكبير , وبهذا فنحن وبلا إستثناء فاسدون , وشبيه الشيئ منجذب إليه , ولذلك إنتخبناهم مرارا وتكرارا وما تعبنا من الوجوه الكالحة التي يتطاير الشرر منها , والمتمرغة بالفساد والخطايا والآثام , وهي تتعبد في الكراسي وتجيد تصنيع المآسي والويلات المروعة.
فلماذا نتظلم ونتأفأف ونتظاهر , ولو أعيدت الكرة لإنتخبناهم جميعا وبلا إستثناء , بل ولأعطينا سيد فسادهم وطائفيتهم أعلى الأصوات , فهل يمكننا أن نثبت غير ذلك وقد ساهمنا بتكرار ذات المأساة لمرات ثلاث وأكثر , مما يشير إلى أننا نريد الذي يمتهننا ويذلنا ويقهرنا , ولا نريد الذي يحترم إنسانيتنا ويقدر دورنا في الحياة.
تلك حقيقة مأساوية تعصف في أروقة أعماقنا , تؤهلنا لإستحضار رموزها والمعبرين عنها بوقاحة وإستهتار مبين.
فهل من عمل يشاكس ما تقدم؟!
وهل منّا مَن يحترم قانون؟!!
وهل هذا دليل على أن شريعة الغاب هي ديننا ومذهبنا؟!!