من واشنطن إلى بكين: منشور ترامب يكشف معالم حرب باردة جديدة

من واشنطن إلى بكين: منشور ترامب يكشف معالم حرب باردة جديدة

قراءة تحليلية في أبعاد الرسالة الدولية والاستراتيجية
منشور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصته الخاصة Truth Social، الذي خاطب فيه الرئيس الصيني شي جينبينغ، ومرّر “تحياته الحارة” إلى فلاديمير بوتين وكيم جونغ-أون، قبل أن يختتم بجملة مثيرة: “كما تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأمريكية”، لم يكن مجرد تعليق عابر. بل يمكن قراءته كسلوك سياسي اتصالي مركّب، يتقاطع فيه العلمي والنفسي مع السياسي والاستراتيجي، وينعكس على الداخل الأمريكي والخارج الدولي معًا. وفي هذا المقال، سنحاول تفكيك الرسالة في ضوء علم الاتصال والسياسة الدولية، ثم رصد التداعيات المستقبلية المحتملة على موازين القوى العالمية.الخطاب الذي نشره ترامب يعكس ما يُعرف في علم الاتصال بـ”الرسالة المركبة” (Mixed Message)، إذ يجمع بين التحية والمجاملة من جهة، والاتهام والتهديد من جهة أخرى. هذه الثنائية ليست عفوية؛ بل جزء من أسلوب ترامب الذي يتقن فن “الاستفزاز الاتصالي”، حيث يستخدم السخرية والتناقض اللغوي لتوليد جدل إعلامي واسع.
من الناحية السيكولوجية، يوظف ترامب نظرية المؤامرة بوصفها أداة قوية لتحفيز العاطفة الشعبية. عبر إشارته إلى “تآمر” خصوم الولايات المتحدة، يعيد صياغة المخاوف الشعبية تجاه الصين وروسيا وكوريا الشمالية، ليجعلها مادة للتأطير السياسي والاستراتيجي. هذا الأسلوب يعزز من مشاعر الخوف القومي، ويجعل الجمهور الداخلي أكثر وعيًا بوجود تحديات خارجية.
اجتماع شي وبوتين وكيم في بكين، على هامش العرض العسكري الأكبر في تاريخ الصين، لم يكن حدثًا بروتوكوليًا فقط، بل رسالة رمزية عن تشكّل محور استراتيجي شرقي. حضور ترامب الرقمي في هذا المشهد عبر منشوره يُظهر إدراكه لخطورة هذا الاصطفاف. حين يصفه بـ”التآمر”، فهو يوجّه رسالة إلى الداخل والخارج معًا:
إلى الداخل الأمريكي: التنبيه إلى أن الإدارة الأمريكية تواجه تحديات استراتيجية تتطلب يقظة وطنية.
إلى الخارج الدولي: محاولة لتأطير هذا التحالف الثلاثي كخطر مباشر على النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
لكن اللافت أن الرسالة لم تمر عبر القنوات الرسمية، مما يجعلها أقرب إلى “تعليق سياسي – استراتيجي” وليس “موقفًا دبلوماسياً”. بكين تجاهلتها رسميًا، وركّزت على خطابها الداخلي القائم على إظهار القوة ورفض “البلطجة” الغربية.
ترامب يستخدم الرسالة كأداة لتوضيح الأولويات السياسية والاستراتيجية لإدارته. فهي تعكس موقفه من التحالفات الدولية وتوضح للمتابعين حجم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة. من هنا نفهم لماذا لم يوجّه ترامب الرسالة عبر مؤسسات الدولة التقليدية، بل عبر منصته الخاصة: لأنه يخاطب الجمهور الداخلي والعالمي مباشرة، معززًا صورته كقائد حازم على الساحة الدولية.

التداعيات المستقبلية المحتملة. على السياسة الداخلية الأمريكية هو تعزيز شعور اليقظة الوطنية: الرسالة تركز على تحديات خارجية قد تتطلب سياسات قوية واستجابة فعّالة من الحكومة. مع إظهار قوة القيادة الأمريكية: الرسالة ترسخ صورة ترامب كقائد يدرك المخاطر الدولية ويتصرف بحزم.
اما على مستوى العلاقات الدولية فانها تكريس محور الشرق: وصف التعاون الصيني-الروسي-الكوري الشمالي كـ”تآمر” قد يدفع هذا المحور إلى تبني خطاب مواجهة أكثر صراحة. ى بمعنى ان تصعيد التوتر شرق-غرب: هذا النوع من الخطاب يغذي سردية مواجهة جيوسياسية جديدة ويزيد من حدة الاستقطاب العالمي.مع تراجع الدبلوماسية التقليدية: قد يؤدي اعتماد خطاب مباشر وشعبوي من قبل القيادة الأمريكية إلى تقليل دور القنوات الدبلوماسية التقليدية.
وعلى الرأي العام العالمي فان توسيع فجوة الثقة: خطاب ترامب قد يُفسر على أنه عدوانية أمريكية جديدة، مما يزيد من فقدان الثقة العالمية في حياد الولايات المتحدة. مما يعني إعادة الاصطفاف الإقليمي: دول الجنوب العالمي قد تجد نفسها مضطرة للاختيار بين معسكرين، مما يهدد بزيادة التوترات الإقليمية.
إذا تأملنا الرسالة من زوايا متعددة، نصل إلى استنتاج مهم: ترامب لم يكن يصف حدثًا سياسيًا عاديًا، بل كان يصوغ سردية استراتيجية للسياسة الأمريكية. سردية عنوانها: “العالم يتآمر علينا، والقيادة الحالية تدرك التحديات، وأنا أملك الشجاعة لفضح هذا التآمر”.
هذا النمط من الخطاب لا يخلو من خطورة. فبينما يعزز رسالته داخليًا وخارجيًا، فإنه قد يرسّخ عالميًا سردية الانقسام، ويعجّل بتشكيل محور عالمي شرقي – غربي متناحر. بكلمات أخرى، رسالة ترامب قد تكون الشرارة التي تسهم في مفاقمة الاستقطاب الدولي.
رسالة ترامب إلى شي جينبينغ، التي حملت في طياتها المجاملة والاتهام معًا، ليست مجرد منشور على وسائل التواصل الاجتماعي. إنها تعبير عن فلسفة سياسية كاملة تقوم على الشعبوية، والتأطير العاطفي، واستدعاء نظرية المؤامرة. هي أداة استراتيجية موجهة إلى الداخل الأمريكي والعالم في الوقت ذاته.
في المدى القصير، تساعد ترامب في تعزيز صورته كقائد حازم. أما في المدى الطويل، فقد تكون هذه الرسالة جزءًا من معمار سياسي جديد يعيد تشكيل العلاقات الدولية على أسس أكثر صدامية وأقل دبلوماسية. بين الاستراتيجي والدولي، وبين الخطاب والواقع، تقف رسالة ترامب شاهدًا على مرحلة مفصلية قد تحدد مستقبل أمريكا والعالم بأسره.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات