في كتابه “هجوم على العقل” يصف نائب الرئيس الاميركي الاسبق أل غور كيف تصنع الولايات المتحدة الخوف، وتستخدمه من اجل تحقيق مخططاتها، وتعمل على اقناع العامة بالمشاركة في ذلك، وفيما هو يضع الحق على سياسة الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش الابن، فإنه يتناسى ان حزبه ايضا، والادارات الاميركية المتعاقبة الجمهورية والديمقراطية، كلها تنفذ تلك السياسة، وهي استراتيجية قديمة، قدم وجود الولايات المتحدة.
لهذا حين نرى السلوك الاميركي في المنطقة العربية خصوصا، والعالم عموما، لن نستغرب ذلك، لان الدولة التي قامت على المجازر في الهنود الحمر وقتلت ما يزيد عن خمسين مليونا منهم، والتي قصفت مدينتين يابانيتين بالقابل الذرية وقتلت فورا نحوو ثلاثة مئة اعزل، وابادة نحو مليون ومئتي الف عراقي، ونحو خمسين الف افغاني، واربعة ملايين مدني فيتنامي، ونحو مليون و500 ألف مدني في الفيليبين، وكلها من اجل كذبة “اقامة نظام ديمقراطي” والدفاع عن “حرية الشعوب”، فلا نستغرب اليوم هذا الصلف في مناصرة الابادة الجماعية التي تشنها اسرائيل على قطاع غزة، والتصفيات اليومية للفلسطينين العزل في الضفة الغربية.
في هذا الشأن نستعير من أل غور جملته الشهيرة في كاتبه “لقد جعلوا الذئاب الخاصة حرسا على حظائر الدجاج”، فعلا ان واشنطن في استراتيجيتها تستخدم هذه القاعدة في محاولة تنزيه الحلفاء، من جهة، وايضا العمل وفق قاعدة “العصا والجزرة” معهم، لكن عندما يصل الامر الى اسرائيل فهي تعود، وفقا لما كتبه أل غور في كتابه الى “روحية بناء الحقوق المدنية وفقا لنظرة توراتية يهودية”، وتعمل ايضا على تسويق ذلك من خلال الهيمنة على وسائل الاعلام، وتزيين الافعال السيئة عظيمة انها تخدم الانسانية، وهي بذلك تستخدم الدعاية في جعل المفاسد تعويضات نقدية، على شاكلة مساعدات، في الداخل والخارج.
ثمة من يرى ان سياسة الولايات المتحدة في المنطقة “متهورة”، خصوصا بعد عملية “طوفان الاقصى”، وما نتج منها انهيار القوة الاسرائيلية التي راهنت عليها واشنطن منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، ويقول لهذا حشدت اساطيلها في البحرين الابيض المتوسط والاحمر، واستنفرت بقية قواعدها في المنطقة، لانها خافت من فقدان اداتها العظمى الاقليمية قوتها، وبالتالي وجود اكثر من قوة يمكن ان تتفوق على تل ابيب، التي فشلت في التصدي لمنظمات مسلحة، ومنيت بخسائر لا يمكن تعويضها، خصوصا في ما يتعلق بالامان والثقة بين المستعمرين المحتلين فلسطين، وهذا لا شك فيها الكثير من الصحة، لان الضعف الاسرائيلي يؤدي الى اعتماد الحلفاء على شريك افضل من الاسرائيلي والاميركي، بل لقد بدأت عملية الالتفاف هذه تؤتي بعض ثمارها، لكنها تحتاج الى زمن طويل كي تكرس تخليا عن القوة الاميركية والاسرائيلية.
عند هذا الواقع احيت واشنطن البعبع الذي صنعته في سجونها في العراق، اي “داعش” بالتوازي مع الدفاع المستميت عن القوة الاسرائيلية، حتى ولو كان ذلك على حساب هبيتها ووجودها في الاقليم، لانها رأت بالضعف الاسرائيلي نكبة لها، وهي مستعدة لمواجهة اي شيء من اجل المحافظة على الحد الادني من تلك الهيبة الكاذبة، وباي ثمن.
علينا ان نتعرف ان الولايات المتحدة ليست قدرا، وهي ليست مطلقة القوة، كما تحاول البروباغندا الاميركية تصويرها، بل يمكن معرفة مدى قوتها، دخليا من خلال معالجتها لاعصار كاترينا عام 2005، وقبلها تخبطها في معالجة احداث الحادي عشر من ايلول/ سبتمتر 2001، وكذلك احداث الكابيتول العام 2021، وكلها تدل على عدم وجود رؤية اميركية، وانها تعمل على ردود الفعل لا اكثر.
اما خارجيا، فهي ضعفت كقوة مهيمنة بانسحابها المذل من فيتنام في العام 1975، وخروجها المهين من الصومال ولبنان في الثمانينات والتسعينات، وكذلك من العراق وافغانستان في العقدين الماضيين.
في هذا لا بد من ملاحظة جدا مهمة وهي قاعدة غريزية، تنطبق على الدول والاشخاص والحيوانات، وهي “عندما تحشر قطاً في الزاوية فحتماً سيُهاجمك، ويتحول نمراً”، وهو ما عليه اليوم الولايات المتحدة التي حشرت نفسها في اكثر من زاوية، بدءاً من العراق والتدخل في سورية، وصولا الى اوكرانيا ومحاولة استفزاز الدب الروسي، مرورا بكوريا الشمالية، وحتى حديقتها الخلفية اميركا الجنوبية التي قام عليها اساسا “مبدأ منرو”، لهذا هي كالقط الذي حاول اللعب بلفة صوف لكنه وجد نفسه اسير لعبته تلك، ولهذا انقلبت عليها صناعة الخوف، وباتت تعاني من “فوبيا” الضعف، وبسبب ذلك تضرب خبط عشواء، وتفتقد الى استراتيجية تكمن التعويل عليها في دور سلمي، لان فاقد الشيء لا يعطيه.