18 ديسمبر، 2024 11:26 م

القصيدة المذهبة “آمنت بالحسين”

القصيدة المذهبة “آمنت بالحسين”

قراءة انثروبولوجية
جسد شاعر العرب الأكبر الجواهري محمد مهدي (1899- 1997) في كثير من قصائده معالم شخصيته في الوجود الكاريزمي، والثبات والعطاء، ومن بينها: قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة في 1948، “بور سعيد 1956″، و”كردستان … موطن الأبطال 1962″، و”فلسطين الفداء والدم 1970”.
بيد أنه في قصيدة “آمنت بالحسين” التي نشرت عام 1947، والمذهبة التي خُط منها خمسة عشر بيتاً بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني، فهي قصيدة مطولة تربو على ستين بيتاً، تشكل مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز عن مفاهيم الجواهري المتميزة بتمثلات القيم: الشموخ والعلياء والإيثار والشهادة … تنضح منذ مطلعها، وحتى ختامها، مقاربات ومقاييس بالغة الرفعة في تبجيل “الواهبين النفس” فداءً للمبادىء التي يؤمنون بها، وتلكم- بلا ريب- التضحية الأضخم للدفاع عن عوالي القيم الزاخرة في مباني “آمنت بالحسين”، بل والذود عنها.
فِداءٌّ لَمثواكَ مِن مَضْجَعِ تَنَوَّرَ بالأبلــــَج الأروَعِ
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنانِ رَوحاً، ومن مِسكِها أضوع
ورَعياً ليومِكَ يومِ ” الطُفوف” وسَقياً لأرضِكَ مِن مَصْرَع
وحُزناً عليك بحَبْسِ النُفوسِ على نهــــجِكَ النَّيِّرِالمَهْيَع
وصَوتاً لمجدِكَ مِنْ أنْ يُذالَ بما أنت تأباهُ مِن مُـــبّدع
فيا ايُّها الوِتْرُ في الخالِدينَ فذّاً، إلى الآنَ لم يُشْـــفَع
ويا عِظَةَ الطامحينَ العِظامِ للاهينَ عن غَـــدِهمْ قُنَّع
تعاليتَ مِن مُفْزِعِ للحتُوفِ وبُورك قبرُكَ مِن مَفــْزَع
تلوذُ الدُّهورُ فمِنْ سُجَّد على جـانبيه، ومِنْ رُكَّع
بدءاً من البيت الأول يحدد الشاعرالاتجاه الذي يريد الافصاح عنه في تضحيات الحسين الثائر و”نهجه النير” الذي بات “عظة الطامحين العظام” لاولئك “اللاهين عن غدهم” والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة، فهو لم يتهاون مع ذوي الخنوع والانحناء و اصحاب الوسطية؛ كما يفيض عدد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم “الطفوف” و”الملهم المبدع” الثابت أمام “سنابك خيل الطغاة” دون خوف أو رهبة، وبهدف أن يحل تصحر الضمير بآخر أخضر العشب ليسمو متعاليا يستضاء به، وتجتذب صغار النفوس حضيض الدجى.
شَممتُ ثراكَ فهبَّ النسيمُ نسيمُ الكرامةِ مِن بَلقع
وعفَّرتُ خدي بحيثُ استراحَ خدٌّ تفرَّى ولمْ يَضرَع
وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطُغاةِ جالتْ عليهِ ولم يَخشع
وخِلْتُ وقد طارتِ الذكرياتُ بروحي إلى عـالمٍ أرفَع
وطُفْتُ بقبرِكَ طوفَ الخَيالِ بصــومعةِ المُلْهِمِ المُبْدع
كأنَّ يداً من وراءِ الضريحِ حمراءَ ” مَبتُورَةَ الإِصْبَع ”
تَمُدُّ إلى عــالمٍ بالــــخُنوعِ والضيمِ ذي شَرقٍ مُتْرَع
تَخبَّطَ في غـابةٍ أطـــبَقَت على مُذئبٍ منه أو مُسْبِع
لِتُبدِلَ منه جديبَ الضمير بآخَرَ مُعَشوشِبٍ مُمـــرِع
وتدفعَ هذي النفوسَ الصِغارَ خـــوفاً إلى حَرَمٍ أمــنَع
تعاليتَ مِن صـاعِقٍ يلتظي فانْ تَدْجُ داجـــيةٌ يَلمع
ثم في وسط القصيدة، يتمثل الشاعر مأثرة الحسين في قراءة تاريخية، ويمحص الأمر دون أن يرتهب من “الرواة”، أو يخدع بما ينقلون، هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون تزويق أو مبالغات؛ ليتحصل- بعد ذلك- أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وهو “أن يطعم الموت خير البنين”؛ ثم تعود القصيدة في مفرداتها المتينة المعاني والقوية الإيقاع، لتجدد في الختام تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي “نوّر” من ايمانه، وفلسفته في الإباء والفداء والتي تجسدت في تقمصه لشخصية الحسين.
تَمثَّلتُ ” يَومكَ ” في خاطري وردَّدت “صوتَكِ” في مَسمعي
ومَحَّصتُ أمرَكَ لم ” أرتَهبْ ” بنقلِ ” الرُّواة ” ولم أُخـــدَع
وقلتُ: لعلَّ دويَّ الســـنين بأصـــداءِ حـــادِثِكَ المُفْجِع
ولمَّا أزَحْتُ طِلاءَ ” القُرونِ” وسِتْر الخــــِداع عنِ المخْدع
أُريدُ ” الحقيقةَ ” في ذاتِها بغـــــيرِ الطبيعة لم تُطْبــــَع
وجدتكَ في صُورةٍ لم أُرَعْ بأعــــظمَ مـــنها ولا أرْوَع
نتحصل من القصيدة، كم هي باذخة في لغتها وبلاغتها وصورها وموسيقاها، وكم هي متماسكة في أسلوبيتها، وقد طوع لغتها في تناول واقعه في ذات الشاعر والمتلقي على حد سواء، فهو ليس أسلوباً يمكن حصره في خانة الزخرفة اللفظية، إنما هو أسلوب أملته عليه دلالات ذاتية عميقة كان الشجن والحزن والتأمل أبرز دواعيها، أنه تعبير عن حالة نفسية فريدة عاشها الشاعر، أضف الى ذلك فإن إبداعه الشعري في نصه هذا أوجدته سلطته اللغوية البارعة التي استطاعت استيعاب المعنى المتناول وتحويل تلك التصورات الكبرى عن موضوع القصيدة الى فن شعري يحفل بالصور والدلالات والإيقاع المتفرد.
فالشاعر على المستوى الانثربولوجي نشر تجليات ثقافية وأجتماعية، واستعمل أدوات مثل التوأمة بين حاجات المجتمع الثقافية وحاجات الأنا الشاعرية، وتوليد حس مشترك؛ كما ربطت بين الماضي المقدس والحاضر القلق بمعالمه، في مستوى من التلاؤم بين شخصية الحسين وشخصية الشاعر في توجيه بوصلة القيم الكاريزمي، حتى استحضر كاريزيما الحسين في وجوده المتماهي في عالم الغيبي المقدس.
طرح الشاعر قضايا من صميم الانثروبولوجيا، نحو: مسألة الشهادة، القدوة والأمانة، في ظل الترسيم الثقافي للمجتمع الديني، الذي يتعشق الشهادة، ويمازجها بالحياة، وهذا التمازج بين المنظور الانطباعي للمجتمع وبين مقاربة “إنّ الشهادة حياة” في الكتاب المقدس، هو عملية توأمة سوسيولوجية انثروبولوجية في النص، تمكن للشاعر في هذه الخلطة أن يتجلى معاني حضوره الكاريزمي في مساقات البنى اللفظية والجمالية.
وظف الشاعر النموذج الرمزي الذي ترتضيه ثقافة المجتمع بحسب تصوره، ومن هذا النموذج يتم استنباط الدلالات الظاهرة والمضمرة؛ فالمثوى والمضجع والقبر والثرى، مفردات تكرس المعنى، تنتظم فيها علامات إشارية الى الموت والشهادة تارة، والى الحياة والقيم تارة أخرى؛ والى الدنيا وأعمالها والآخرة ومعطياتها، والى الخالق وقدرته والمخلوق وتجربته.
ومثلها: تَمثَّلتُ يومك، وردَّدت صوتَكِ، مَحَّصتُ أمرَكَ ، أزَحْتُ طِلاءَ القُرونِ، ألفاظ ترسم تأوين الحدث، أفعال تراتبية متجانسة انثروبولوجيا، سلوكية توحي الى الكشف عن الحقيقة التي تجلتها الطبيعة، وصورة تسر الروح الناظرة التي تتدفق عند الشاعر، وهو يعدّ نفسه ممثلا لمجتمع المدينة الدينية التي اكتنفت شواهد البطولة وملامح القدوة في رمزيتها المتمثلة في تشكيل صورة العظمة التي يقدسها المخيال الاجتماعي، وتشي بها ثقافته الإسلامية.
كادت القصيدة- بكونها رائدة في أدب المجتمع النجفي- أن ترسم صورة لمجتمع تحيق به الشحنات الدينية، خال من شائبة الخداع والزيف، حرّ نقي في فكره وفعله وتقريره، كالحسين في رمزية الإمامة، وحبس النفوس على نهجه النَّيِّرِالمَهْيَع.